يصبح الخوف خطرًا على من يشعر به، لذا لا يجب أن يسمح له بالسيطرة عليه والتحكم به. بل إنه يصبح المبرر الرئيسي للسلوكيات التي توصف في كثير من الأحيان بـ“غير الإنسانية”. (...) إن الخوف من البرابرة يهدد بجعلنا برابرة، والسوء الذي يمكن أن نرتكبه قد يتخطى السوء الذي كنا نخشاه في البداية.1.
لقد أكّدت لنا تلك الحرب أن العالم لا يعتبرنا بشرًا مثلهم. ربما بسبب لون بشرتنا، وربما لأننا على الجانب الخطأ من المعادلة السياسية. حتى بنوّتنا للمسيح لم تحمينا. يقولون: “إذا كان الأمر يتطلب قتل مائة فلسطيني للقضاء على”مقاتل واحد من حماس، فليكن“. إن نفاق وعنصرية العالم الغربي واقعٌ فجٌّ ومروّع. طالما نظر إلى كلمة”فلسطيني" بعين الريبة والتحفظ.
ألقى الأب منذر إسحق، راعي الكنيسة الإنجيلية اللوثرية ببيت لحم، عظته الدينية النارية الحزينة في احتفال الكنيسة بعيد الميلاد المجيد عام 2023، موجهًا كلماته إلى هؤلاء “الذين يحتفلون به بينما يرسلون إلينا قنابلهم”. كلمات وكأنها لعنة. فبعد ثلاثة أشهر، قررت الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترسل قنابل وذخائر بلا حساب لدكّ غزة، إنزال مساعدات إنسانية إلى ضحايا القنابل والذخائر نفسها، “في الوقت نفسه” على حد تعبير الرئيس إيمانويل ماكرون الشهير. وقد عبّر عن رياء الغرب رسم كاريكاتوري يظهر الصواريخ تنهال على القطاع ومعها خبز الباغيت.
لقد فضحت أزمة غزة الغرب ذا الوجهين: وجه السلام وحقوق الإنسان والعالمية، ووجه المجازر والإبادة الجماعية والعنصرية.
يقول منذر إسحق في ختام عظته: “إلى أصدقائنا في أوروبا، من الآن فصاعدًا لا تعطونا دروسًا عن حقوق الإنسان أو القانون الدولي. لسنا بيض البشرة، وأعتقد أن هذا القانون لا ينطبق علينا وفقًا لمنطقكم. في ظلال الإمبراطورية، حولتم المستعمر لضحية والمحتل لمعتدٍ”.
انهيار صورة أوروبا والغرب
وبالمثل، أمكننا سماع رد رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم في مؤتمر صحفي مشترك عقد يوم 11 مارس/آذار 2024، على الخطاب المسكّن الذي ألقاه المستشار الألماني أولاف شولتس، الذي تدعم حكومته صراحةً السياسة الإسرائيلية وتجرّم التضامن مع فلسطين:
لا يمكنكم إيجاد حل بشكل أحادي، وبالتركيز على قضية واحدة ومحو ستين عامًا من الوحشية. لا يتمثل الحل في تحرير الرهائن فحسب. ماذا عن المستوطنات؟ ماذا عن ممارسات المستوطنين التي تتواصل بصفة يومية؟ ماذا عن سلب الفلسطينيين كل شيء؟ أراضيهم وحقوقهم وكرامتهم، ورجالهم، ونسائهم، وأطفالهم؟ ألا يعنينا هذا؟ أي ذهبت إنسانيتنا؟ لمَ كل هذا النفاق؟
ولم يغير امتناع واشنطن في 25 مارس/آذار عن التصويت على قرار مجلس الأمن الداعي إلى وقف إطلاق النار لمدة أسبوعين من قواعد اللعبة، طالما تواصِل إمداد إسرائيل بالقنابل التي تدمر غزة.
إلى جانب المعاناة الإنسانية التي بلغت حدودًا غير مسبوقة منذ 7/أكتوبر تشرين الأول، والدمار الذي طال كل شيء، أصبحت غزة أرضًا مقفرة أشبه بسطح القمر. وبعيدًا عن الصراعات الممتدة من لبنان إلى البحر الأحمر، فإن الفكرة التي صدّرتها أوروبا ودول الغرب عن نفسها تحتضر. لقد أظهرت الحرب على أوكرانيا بالفعل حجم الفجوة بين دول الشمال وبقية العالم الذي لم يعد يصدق الدعم المقدم إلى كييف تحت مسمّى “القانون الدولي” من قبل هؤلاء الذين ينتهكونه حينما يصبّ هذا في مصلحتهم. إن الحرب على غزة خطوة مشؤومة في طريق السقوط في هاوية سحيقة، حيث يسود منطق الأقوى.
في سلسلة تأملات شاركها على منصة “إكس” (تويتر سابقًا) في فبراير/شباط 2024، أعرب بيتر هارلينغ مدير مركز “سينابس” البحثي المتخصص في شؤون حوض البحر الأبيض المتوسط ببيروت، والذي يجوب المنطقة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ، عن قلقه إزاء
القطيعة الخطيرة والمتزايدة بين أوروبا والعالم العربي. لماذا أصبحت تلك القطيعة أعمق وأخطر من خلافاتنا الأخرى على مر العصور؟ لأنها قطيعة تامة على مستوى التواصل. في الماضي، غالبًا ما كانت سردياتنا تتضارب، ولكن ضمن إطار مشترك إلى حد كبير. إلا أن الحرب على غزة أدت ليس فقط إلى تعميق الخلافات، وإنما إلى انقطاع التواصل. (...) إن ما نشهده ليست دورة جديدة، فتلك المرة اختارت معظم الدول الأوروبية سواء بشكل علني أو غير مباشر دعم إبادة جماعية تحدث في حوض البحر الأبيض المتوسط. (...) لقد انهارت صورة أوروبا التي تمثل القيم والحقوق العالمية.
“برابرة” الداخل
بصفتي مراقبًا يشهد منذ أكثر من خمسين عامًا تطورات منطقة شديدة القرب من القارة العجوز – جغرافيًا وإنسانيًا – يربطنا بها تاريخ طويل حتى بجوانبه المظلمة، لا يسعني إلا أن أقرّ بمرارة بتلك القطيعة. فهل يدرك القادة الأوروبيون ذلك، هم الذين يذهبون إلى حد فرض عقوبات على المنظمات غير الحكومية التي تدين العدوان الإسرائيلي في دول الجنوب، المنظمات التي يقودها “أصدقاؤنا” الديمقراطيون العرب الذين كانوا رأس حربة ثورات الربيع العربي ويدافعون عن القيم التي نطالب بها، أم سيتمادون في خطئهم؟
تنتفض أوروبا ضد معاداة السامية لكنها تغض الطرف عن معاداة الإسلام، وتنحاز إلى أطروحات اليمين المتطرف الذي يتطهّر من رهاب اليهودية العتيد بمساندته تل أبيب. في كل أنحاء أوروبا، ولا سيما في فرنسا، تزداد ضراوة الحملة التي تُشن ضد “برابرة” الداخل، المسلمون المتهمون بـ“الانفصالية” وبالتواطؤ المزعوم مع الإرهابيين. بعيدًا عن المثُل العالمية التي تتستر خلفها، تعمق أوروبا الانقسامات والانشقاقات.
لا يدور أي نقاش جدّي في فرنسا حول هذه الفجوة الآخذة في الاتساع، لا بين الساسة ولا بين المثقفين، ولا في وسائل الإعلام. منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، صرنا حبساء رؤية بائسة للعالم مبنية على الخوف من “البرابرة”، وكما تنبأ تسفيتان تودوروف، أصبحنا نحن أنفسنا برابرة. لم نعد نرى في المستقبل سوى حرب بين الغرب و“بقية العالم”، “حرب عوالم” قائمة على فكرة متعجرفة مفادها أننا نمثل “الحضارة” وأننا قادرون على تحرير أنفسنا من القانون الدولي لمحاربة “الشر”.
عام 2003، ختمت كتابي “إسرائيل-فلسطين، وقائع صراع” برواية من الكتاب المقدس عن شمشون، أحد أبطال كفاح الشعب اليهودي ضد الفلسطينيين. حيث سجنه أعداؤه الذين فقأوا عينيه وقادوه إلى غزة. وفي أحد الأيام، استقدمه الفلسطينيون ليسليهم:
وقبض شمشون على العمودين المتوسطين الذين كان المعبد قائمًا عليهما، واستند عليهما – على الواحد بذراعه اليمنى وعلى الآخر بذراعه اليسرى. وقال شمشون لتمت نفسي مع الفلسطينيين وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته.
كنت أخشى آنذاك أن يقود استمرار هذا الاحتلال الفلسطينيين والإسرائيليين نحو الهاوية. وقد تأكدت مخاوفي بشكل يفوق كل تصوراتي..
وبعد مرور ثلاثين عامًا، يهدد انهيار المعبد بابتلاعنا جميعًا، جنوبًا وشمالاً. إن مستقبل العلاقات الدولية يتحدد الآن في غزة، كما حاولنا أن نشرح من قبل. هناك مساران آخذان في الظهور. مسار حرب أبدية يحكمها قانون الغاب، قانون الكل في مواجهة الكل، بين لاعبين لكل منهم مصالح يدافع عنها ولا يعنيه سوى تغليبها، من موسكو إلى واشنطن، من نيودلهي إلى برازيليا، من باريس إلى مكسيكو. أو مسار إعادة بناء النظام العالمي على أساس القانون، كما تدعونا قرارت محكمة العدل الدولية بشأن غزة، وهو طريق ضيق بلا شك، لكنه الوحيد الذي قد يجنبنا انهيارًا محققًا. في الماضي، تمكن الجنرال ديغول في يونيو/حزيران 1967 في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وجاك شيراك ودومينيك دي فيلبان في 2003 أثناء استعداد الولايات المتحدة لغزو العراق، من إيجاد الكلمات الصحيحة للدفاع عن الحق، لتغيير خطاب باريس الذي ترددت أصداؤه في جميع أنحاء العالم، في الجنوب كما في الشمال. من المؤسف أن تكون فرنسا اليوم متواطئة في دعم إبادة جماعية تحدث أمام أعيننا، بتصريحاتها وبصَمتها، بأفعالها وبسلبيتها.
1تزفيتان تودوروف، “الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات”.