“فليأتِ موتي بالأمل”. شعر من غزة

تتضمن المجموعة الشعرية “فليأتِ موتي بالأمل. قصائد من غزة” التي نشرتها دار نشر “ليبرتاليا” (Libertalia) في في سلسلة “أوريان 21”، حوالي خمسين قصيدة، باللغتين العربية والفرنسية، جميع مؤلفيها من غزة. كُتبت أغلب هذه الأعمال باللغة العربية، وقد ترجمتها إلى الفرنسية وقدمت الديوان الدبلوماسية والمترجمة السابقة ندى يافي. فيما يلي نص التوطئة وثلاث قصائد من بين التي يحتويها الكتاب.

The image shows several people in the ocean with two horses. The horses, adorned with decorative accessories, are standing in the shallow water, while the people, including children and adults, are interacting with them. Waves can be seen in the background, creating a lively beach scene. The atmosphere appears joyful and playful, with the water splashing around as the individuals engage with the horses.
Rosalind Nashashibi, Electrical Gaza, 2015.

أكتوبر/تشرين الأول 1996. أكثر من ربع قرن مضى على ذلك التاريخ. وقتها كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يقوم بجولة في الشرق الأوسط، توقف خلالها في مدينة غزة. وما زلت أذكر - بصفتي المترجمة الرسمية إلى اللغة العربية آنذاك- تلك اللحظة التي كان الرئيس الفرنسي يتابع فيها باهتمام شرح الرئيس ياسر عرفات للخارطة الموضوعة أمامهما. خارطة تنطوي على مشروع مرفأ من شأنه إعادة فتح غزة على الدنيا، بل وإحياء مَجْدها الغابر كمفترق طرق تجارية عالمية1. غني عن البيان أن المرفأ المرتجى لم يبصر النور. فإسرائيل لم توافق. مع أن فكرة المرفأ نشأت في أعقاب اتفاقيات أوسلو التي أتاحت بعض إمكانيات الحكم الذاتي للفلسطينيين وحملت آمال دولة فلسطينية باتت تلوح في الأفق. أو هكذا تصور الحالمون …فالحصار الإسرائيلي كان ماثلاً منذ ذلك الحين، إذ كانت الحدود جميعها تحت سيطرة إسرائيل. لم أعد أذكر تفاصيل الخارطة، ولكن الأمل المشرق على كل الوجوه المحيطة بنا في تلك اللحظة، هذا ما لا يمكن أن أنساه. هذا الأمل الجامح الذي يرفض الانكسار هو ما لمسته مجدداً فيما قرأته من أشعار نابعة من غزة، على خلفية الأوضاع المأسوية. ومن ضمن ما تأثرت به، القصيدة الأخيرة للشاعر رفعت العرعير وما جاء في السطر ما قبل الأخير منها: “فليأت موتي بالأمل”.

وبالتالي، عندما اقترح عليّ ألان غريش المشاركة في مشروع نشر قصائد لشاعرات وشعراء من غزة مترجمة الى الفرنسية، ضمن مجموعة الكتب التي يرعاها موقع “أوريان 21” في دار نشر “ليبرتاليا”، لم أتردد لحظة في الموافقة، بالرغم من التحدي الذي تمثله ترجمة الشعر، حيث تفوق في صعوبتها الترجمة الدبلوماسية التي مارستها لفترة طويلة. فالمسألة لا تقتصر على ترجمة المعنى، حتى لو كان ضمنياً، بل في مناجاة إحساس القارئ ومشاركته حالة من الانفعال والتأثر، عبر لغة أخرى لها سحرها الخاص وموسيقاها الفريدة.

وإن وافقت على مواجهة هذا التحدي، فلأن الشعر يساهم في “َأنْسَنة” التاريخ كما يرى الشاعر الكبير محمود درويش. ولا شك أن الشعر، بتصديه لمحاولات نزع الطابع الإنساني عن شعب بأكمله، يتيح الولوج الى الداخل الغزاوي الحميم، يسلك دروب الخصوصية عبر ضمائر فردية فيكشف عن انتمائها لمبادئ كونية.

الموت والإدلاء

تحمل كلمة “شهادة” في اللغة العربية معنيَيْن، معنى الموت في سبيل قضية مقدسة، ومعنى الإدلاء بالأدلة على ما يعايشه الإنسان. وفي مواجهة الحملة الشرسة التي تستهدف في آن معاً سبل الوجدان وأساليب الوجود، حيث تفتك بالمنازل والمستشفيات والمرافق الاجتماعية بقدر ما تفتك بأماكن العبادة ودور الثقافة والفكر من مدارس وجامعات ومسارح ومحفوظات ومتاحف، بل وحتى مقابر، بصفتها حاضنة للذاكرة، والتي تقتل فيمن تقتل من المدنيين الأطباء والمثقفين والصحفيين، في مواجهة مثل هذا التدمير الشامل يصبح الشعر حينها فعل مقاومة يتصدى للنزعة الهادفة الى إبادة شعب بأكمله وسحق وطن. يصبح رسالة تعلو على الموت. شهادة بكل معاني الكلمة.

قد يتساءل البعض عن سبب تركيزنا على شعراء غزة، بدل أن نجمع قصائد من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، فالمواهب الشعرية وفيرة أيضاً في الضفة الغربية وفي القدس. إلا أن شاعرات وشعراء غزة، وهم من الجيل الشاب في غالب الأحيان، شأنهم في ذلك شأن غالبية السكان في قطاع غزة، لهم صوت ذو نبرة خاصة.. لا بد من التذكير هنا بكلمات شاعر الثورة الفلسطينية محمود درويش حين قال “أعرف أن سادة الكلمات لا يحتاجون إلى الكلمات الكبيرة أمام بلاغة الدم”2. لقد جعلت بلاغة الدم هذه من غزة اليوم رمزاً لمحنة فلسطين بأسرها. وكان من الطبيعي أن تتصدر هذا الكتاب قصيدة من قصائد محمود درويش، بمثابة تحية إكبار للطفولة الشهيدة، لمحمد الدرة الذي أطاحت به رصاصة قناص إسرائيلي، حين كان يستظل بوالده، والوالد يحاول جاهداً أن يحميه بجسده. كان ذلك عام 2000. فأصبح محمد الدرة رمزاً للطفولة المستهدفة بشكل متعمد. خلال عشرة أشهر فقط، مذ بدأت حرب الإبادة، ذهب 16 ألف طفل ضحية القصف، كما ذكّرت بذلك مقررة الأمم المتحدة الخاصة في فلسطين يوم 16 آب/أغسطس 2024.

النوع الأدبي المفضل لدى العرب

ثم أن هذه المختارات مجرد عينة من الإنتاج الشعري في غزة، لا تستوعبه بالكامل، إلا انها تعطي فكرة عن الإبداع في ظل المأساة. تجمع بينها قواسم مشتركة، فسواءً أكانت تنتمي الى التيار السوريالي أم الرمزي أم البسيط الساذج، باستعاراتها الشفافة تارةً والباطنية تارة أخرى، فإن هذه القصائد النثرية تبدي جميعها شيئاً من التحفظ، بل ومن روح الدعابة أحياناً. مما يحول الواقع الى لوحة فنية ويخفف من وطأة الصور الرهيبة التي لا تحتمل. وإن كان الموت يلقي بظلاله الطويلة على كل النصوص لأسباب غنية عن البيان، إلا أن هذا الشعر الغزاوي يتلوّن أيضاً بألوان الحب والشوق وبالصوفية حيناً والتمرد على المعتقدات حيناً آخر. يكشف عن تنوع كبير في الطروحات، فيخالف كل محاولات المغرضين رسم صورة جَوْهرانية جامدة للغزاويين على أنهم هواة قتال لا غير. ثمة غياب ملفت لأي مظهر من مظاهر الكراهية في هذه القصائد، بل فيها رفض لدائرة العنف المفرغة.

يتضمن هذا الكتاب مجموعتين من القصائد النثرية. يتناول أولها نصوصاً كتبت بعد هجوم السابع من أكتوبر العنيف وما تلاه من عملية انتقامية اسرائيلية. كتبت هذه القصائد تحت القصف، وتم جمعها كلها عن طريق الإنترنت. أسلوبها مباشر، مجرد من أي زخرف، يكاد يكون صحفياً، تفرضه حالة العجالة في أوضاع طارئة عشوائية. ومن الملفت أن هذا الشعر بدأ ينضب شيئاً فشيئاً مع انتهاء عام 2023. فلم تظهر على ما يبدو نصوص شعرية لافتة مع بداية عام 2024.وقد تعود أسباب الصمت هذا الى الصعوبات المتزايدة في الاتصالات، وعلى الأرجح إلى هاجس البقاء على قيد الحياة. حتى شعراء المهجر من أصل غزاوي قد أسكتتْهُم على ما يبدو فظاعة الإبادة الجارية في القطاع. وبسبب هذه الظروف الاستثنائية فلقد كان من الصعوبة بمكان الحصول على معلومات دقيقة عن السيرة الذاتية لهؤلاء الشعراء وما عدا الشاعر والشاعرة اللذين أُعلن عن استشهادهما في بداية الحملة الإسرائيلية، فإننا لا نعلم في غالب الأحيان عمر الآخرين الفعلي ولا حتى إن كانوا أساساً على قيد الحياة.

تأتي بعد ذلك مجموعة القصائد التي سبقت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 والتي تُذكرنا بأن الحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة وعلى فلسطين عامة تعود الى ما قبل الأحداث الأخيرة. غالبية القصائد الواردة في هذا الكتاب سبقت حملة “السيوف الحديدية” الإسرائيلية، ومع ذلك تبدو وكأنها كتبت اليوم، فالتاريخ لم يبدأ في السابع من أكتوبر، كما تحاول بعض وسائل الإعلام الغربية إيهام الناس بذلك، إذ أن قطاع غزة الخاضع لحصار تام محكم منذ 2007 قد تعرض الى حملات عسكرية متكررة لا رحمة فيها، في حين أن غالبية السكان هم أساساً من لاجئي نكبة 1948. وفي الواقع فإن الحرب الإسرائيلية لم تتوقف يوماً، عبر ما تنادي به إسرائيل من عملية “جزّ العشب” في تسمية وقحة فاضحة. الحرب لم تتوقف حتى عندما كانت المقاومة الفلسطينية سلمية، مثلما كانت الحال خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 وخلال “مسيرة العودة” عام 2018.

تتميز هذه النصوص التي تعود إلى ما قبل دورة العنف الأخيرة بأسلوب أقرب الى العمل الأدبي ومع ذلك فلغتها تبقى مبسَّطة، منزوعة الزينة، على التصاق بما يعيشه الغزاويون من واقع لا كماليات فيه. يطرح بعضها تساؤلات حول دور اللغة نفسها كما يثير قضايا الهوية والمسؤولية والقدرية. وإن دلت هذه القصائد على شيء فعلى حيوية الشعر – هذا النوع الأدبي المفضل لدى العرب – وعلى كون الحياة تنتصر دوماً على الموت. “فنحن نحب الحياة ...إذا ما استطعنا إليها سبيلاً”. هكذا قال الشاعر الذي أسمع العالمَ صوت فلسطين. لقد تم جمع هذه القصائد التي كتبت في أعوام مختلفة -2021 و2014 و2012 و2008 و2000 – على شبكة الإنترنت أيضاً وبعضها كذلك من كتاب “غزة أرض القصيدة، أنطولوجيا شعرية” الصادر عام 2022 بفضل جهود محمد تيسير، وهو نفسه شاعر وناقد أدبي. هذه الأنطولوجيا تمنحنا بدورها معلومات جزئية عن الشاعرات والشعراء، وبالتالي فلم نستطع توفير بيانات كاملة حول سيرهم الذاتية.

ويتيح هذا الكتاب، الى جانب الترجمة الفرنسية، مطالعة الأشعار في لغتها الأصلية (العربية طبعاً وفي بعض الأحيان الإنكليزية) بما يسمح بإحياء نوع من التناغم بين اللغات والثقافات.

يبقى أن أفضل مطالعة لهذه القصائد تتمثل بفتح الكتاب بشكل عشوائي، والإبحار عبر الصفحات في صحبة هذه الأصوات البعيدة القريبة.

كان من الأهمية بمكان، بالنسبة لموقع “أوريان21” ودار نشر ليبرتاليا أن تنقلا الى الجمهور الفرنسي رسالة الشبيبة الغزاوية هذه، المتميزة بحيوية لا مثيل لها، بالرغم من كل ما تتعرض له من مجازر.

نتبنى ختاماً كلمة محمود د درويش الموجهة إلى وفد البرلمان العالمي للكُتاب خلال زيارتهم لرام الله عام 2002 حين قال “نحن مصابون بداء لا شفاء منه هو الأمل”.

عبر خيالات ثلاثة أطفال

فداء زياد شاعرة وكاتبة فلسطينية كتبت هذا النص من داخل غزة في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحت القصف الإسرائيلي. نشر يوم السبت 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 - آخر تحديث الثلاثاء 5 ديسمبر/كانون الأول 2023.

أعيش هذه الإبادة بخيالات ثلاثة صغار
أولهم، كان يختفي تحت شرشفه
ويقول أريد أن أكون شبحًا كي لا تراني الطائرة،
وثانيهم، كان يقول عن صوت قصف الزوارق الحربية
صوت أخطبوط البحر، وآخرهم، كانت تقول ليتني سلحفاة
أخبئ كل الناس في قوقعتي.
يا يد الخيال هدهدي كل الصغار
واحفظي لهم أحلامهم.
يا يد الخيال
لا تبتعدي عن فظاعة الواقع!

اليوم هو البارحة

بيسان عبد الرحيم كاتبة فلسطينية كتبت هذا النص من داخل غزة في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحت القصف الإسرائيلي.

اليومُ هو البارحة
والبارحةُ ممتدُّ من وجعٍ قديم
لا أريدُ أن أصبحَ كاتبةً
لا حلم لي لغدٍ
ولا شيء أقفُ عليه سوى إيماني الوحيد
اليوم 12 أكتوبر 2023،
الساعةُ الواحدة ظهرًا،
كيف أصبحَ نهارُنا مخيفًا؟!
كنا نخافُ العتمةَ يا الله
لنجدَ أنفسَنا لا نهار لنا، ولا عتمة.
لم يتركوا لنا الوقت يا الله

أعطيهم خدَكِ الأيسر

يحيى عاشور من مواليد 1998 في غزة، ظل يعيش فيها حتى سبتمبر/أيلول 2023 ولم يستطع العودة إليها بعد رحلة الى أمريكا. حاصل على الزمالة الفخرية في الكتابة من جامعة أيوا الأمريكية عام 2022. صدر لح “لهذا ريان يمشي هكذا” (قصة للأطفال، 2021) والتي حصلت على جائزة الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال، و“أنت نافذة هم غيوم” (شعر فتيان 2018). آخر إصدار له بالإنكليزية في ربيع 2024 عن “غزة الحصار والإبادة”.

هذا العالم الأبيض
الذي لم يعد يؤمن بالمسيح
يناشدك يا غزة بكلماته
أعطيهم خدك الآخر
لا يؤلمهم تاريخ ولا جغرافيا
أعطيهم خدك الآخر يا غزة
أعطيهم البحر كيفما شئت هذه المرة
يناشدك العالم الآن
وأنت تشهدين ما لم تشهده مدينة على الأرض
أن قبلي يد من قتل أبناءك
لكن لا شيء يا غزة سيعيد الأشلاء
إلى أجساد كاملة
لا سلام سيعوض حتى جنازة واحدة
من كل تلك الجنازات التي لم تحظ بشهدائها
ربما لم يعد يصعد الشهداء إلى السماء
أو لم يعد يحظى جميعهم بهذا الترف
كيف يمكن للأشلاء أن تحلق عالياً؟
ربما لم يسلم الشهداء للشهادة إلا حين أدركوا أنها الطريق الوحيدة
لالتحامهم مع أرضهم إلى الأبد

لا شارع ولا حاكم من الشرق أو الغرب
يمسح الموت عن جبينك يا غزة
لا شارع ولا حاكم يقدم لك العزاء على الأقل
لا بد أن الطائرات تحول دون تدخلها
لا عليك يا غزة…
يقال إن الموت نعمة يفتقدها المخلدون
مصر جاءتك أخيراً بأحصنة طروادة
لا حصاناً واحداً فقط
زغردي
فالأحصنة - لا سمح الله
ليست معبأة بالجنود أغذية فقط
كي لا تموتي يا غزة
جائعةً
الأحصنة معبأة بأكفانٍ لا تليق بجيرة الفراعنة
وليس بينها نسخة واحدة لكتاب الموتى
وليس بينها قطرة وقودٍ واحدة تضيء علينا
فنميز موتنا من نجاتنا…
هللي يا غزة
لم نعد نقتل بينما ينام العالم
العالم مستيقظ جداً يرقص ويغني
بعضهم يقرأ ما يحتمل من أخبارنا
وقليل يتظاهرون في أ وقات الفراغ
وعالمنا العربي على أحر من الجمر
ينتظر أن تمضي ألف ليلة وليلة
كي تخلصي يا غزة نفسك
بسرد آلاف الضحايا

1راجع كتاب “غزة مدينة البحر الأبيض المتوسط” الصادر بالفرنسية عن دار إيرانس عام 2000، إثر معرض أقيم في معهد العالم العربي في باريس، وكذلك كتاب جيرالد بات “الحياة على مفترق طرق، تاريخ قطاع غزة”، الصادر بالإنكليزية عن دار نشر رمال بوكس، عام 1995، وكذلك كتاب جان بيار فيليو عن “تاريخ غزة” الصادر بالفرنسية عن دار فايار عام 2012.

2خلال زيارة وفد “البرلمان العالمي للكتاب” الى رام الله في فلسطين عام 2002.