
قبل ثورة الضباط الأحرار لـ23 يوليو/تموز 1952، كانت أم كلثوم قد اكتسبت شهرة واسعة، فهي أول من غنى عبر الإذاعة المصرية في عام 1934 عند نشأتها، وكانت أغانيها تُذاع بشكل منتظم أيام الخميس على إذاعة “صوت القاهرة” التي اعتاد الملايين على متابعتها لسماع أغانيها. وقد كانت أم كلثوم أول من أسس نقابة للموسيقيين عام 1943، التي ترأستها حتى اندلاع ثورة الضباط الأحرار. وبما أنها كانت قد غنت للملك فاروق، صدر قرار بمنع بث أغانيها على الراديو، ومُنعت من الاستمرار في منصبها كنقيبة للموسيقيين. إلا أن مفعول القرار لم يستمر طويلاً، حيث أن الرئيس جمال عبدالناصر ألغى جميع الإجراءات فور علمه بها، وكانت هذه بداية التعاون الأسطوري ذو المنافع المشتركة ما بينه وبين “كوكب الشرق”.
أحبت الجماهير المصرية والعربية أم كلثوم لأسباب عديدة، ارتبطت بقوة صوتها ورقته بالوقت ذاته، واختيارها العمل مع نخبة الملحنين والمؤلفين، إضافة إلى إقصائها للتعبيرات الحسية والجنسية من غنائها. حفظ كل ذلك مكانة لأم كلثوم على رأس قائمة الإطار الطربي، على عكس “الشعبي”. واعتُبرت أم كلثوم من نخبة الفنانين والفنانات التي حافظت على خلفيتها المحافظة الريفية، التي استطاعت أن تحاكي مشاعر الجماهير دون خلق صور حسية، والتي احتفظت بأسلوب الأغنية الطويلة رغم ظهور القصيرة التي بدأت باجتذاب جيل جديد من المستمعين إلى مطربات شابات وجميلات، مثل شادية وأسمهان وليلى مراد وغيرهن. وضعت كل هذه العوامل أم كلثوم في خانة أقرب للتقديس منها للإعجاب، تتربع وحدها على عرشها الذي لا يشاركها أحد إياها. لهذا، كان عبد الناصر محقًا عندما أدرك أهمية توظيفها لنشر الفكر القومي العربي وخلق التعاون بينهما مبكرًا.
بعد تولي جمال عبد الناصر الرئاسة (1953)، لقب أم كلثوم بـ“الهرم الرابع لمصر”، وكانت قد أصدرت أغنية “مصر التي في خاطري” بعد أقل من عام من نجاح الثورة. كانت هذه الأغنية بمثابة أغنية الافتتاح للحقبة الناصرية الجديدة ودور مصر القيادي في العالم العربي. لم تكن الأولى من نوعها، فقد كانت الأغنية الوطنية بأمثلتها العديدة موجودة على اختلاف الحقب في مصر، منذ ثورة 1919. إلا أن فعالية التعبئة السياسية من خلال أم كلثوم تحديدًا كانت الأولى من نوعها، فهي لم ترتكز بشكل مطلق على الأغاني الوطنية والسياسية العديدة لها، أمثال “ثوار ثوار” و“حافظ على سلاحك”، بل أيضا على نجاحها بخلق تجربة طربية مشتركة والتي بدورها خلقت ذاكرة جمعية عربية.
تجربة سمعية مشتركة
كان جمال عبد الناصر مدركا لقوة الراديو، وعمل بذكاء على خلق روح الوحدة بين الجماهير العربية عن طريق خلق تجربة سمعية مشتركة بين مختلف البلاد العربية. لربما كان إطلاق إذاعة “صوت العرب” عام 1953 باقتراح من وزير الإعلام محمد عبد القادر حاتم إحدى أهم خطوات الحركة القومية العربية التي نجحت في خلق مشاعر الوحدة العربية. كان هدف إطلاق هذه الإذاعة هو توحيد الجماهير العربية تحت أهداف واحدة وواضحة، وقد حددت إذاعة “صوت العرب” أهدافها الرئيسة عام 1965. تمركزت هذه الأهداف حول الوحدة العربية، ووعي الشعوب المناهضة للاستعمار والإمبريالية، وتحرير جميع الإخوة العرب من القوى المحتلة. أدرك عبد الناصر سريعًا أن الراديو كان إحدى اهم الوسائل في نشر وترسيخ فكر القومية العربية. وبالفعل، سريعاً ما أصبحت هذه الإذاعة تعبّر عن المقاومة ضد الغرب المستعمر من المغرب والجزائر وتونس، إلى فلسطين والعراق واليمن. وكان لنجاح هذه الإذاعة مؤشرات عديدة، كازدياد عدد ساعات بث الإذاعة من أربع ساعات إلى 15 ساعة يوميا.
بدأت خطة عبد الناصر بالتبلور في خمسينيات القرن الماضي. ففي عام 1955، تم إصدار قانون الرقابة الفنية لأول مرة، وكانت هذه الخطوة الأولى لتعيين السلطة نفسها الوصي الرسمي على الإنتاج الفني ومضامينه. خلال الخمسة أعوام التالية لإصدار هذا القانون، كان الاتحاد الاشتراكي قد أصبح يشرف بشكل كامل على الساحة الفنية، وأصبح الفن، خصوصا الموسيقى، إحدى الأدوات الرئيسة في تعبئة الخطاب الوطني. وبحلول عام 1960 وظهور التلفاز، متبوعا بتوفر الاسطوانات عام 1962، عمل عبد الناصر على توفير الغرامافون لجميع الطبقات، مؤكدا وصول رسالة القومية العربية المباشرة والضمنية للجميع.
صاحَبَ الخطاب الوطني الجديد والرقابة الشديدة اختلافات في مضامين الأعمال الفنية لتناسب السياق السياسي الجديد، فانتقلت من الحديث عن قصص وحالات فردية إلى التركيز على الهوية الجمعية والتجارب المشتركة، ومن نقل صور الحياة الأرستقراطية، والتي اعًتبرت جزء من تاريخ مصر الاستعماري، إلى الحديث عن الطبقة الوسطى، والتي صورها عبد الناصر كالطبقة الممثلة للشعب. نرى أهم الأمثلة على هذه الصورة في أعمال عبد الحليم حافظ، الذي لعب دائما صورة الشاب ابن الطبقة المتواضعة أو الوسطى، الحالم بالنجومية والحب. كما كانت أغاني عبد الحليم الوطنية أقرب للخطابات عن الوحدة العربية وتحرير فلسطين، كامتداد واضح لخطابات عبد الناصر وترسخها في الساحة الفنية.
نجح عبد الحليم حافظ وغيره من الفنانين والفنانات في المشاركة الفاعلة في التعبئة السياسية، و حصل العديد منهم على ميزات صاحبت قربهم من السلطة الحاكمة وجعلت منافستهم غير عادلة للفنانين والفنانات خارج دائرة “التعاون” بين الضباط والفن. وبينما كان نظام الوصاية الفكرية يصور على أنه للشعب وباسم الشعب، كانت الرقابة بازدياد شديد حتى اختفت ملامح الحرية الفكرية في الكثير من الأعمال الفنية. وبالرغم من أن الخطاب القومي مجّد “الشعب”، إلا أنه ساهم في خلق مناخ يتم فيه تفضيل “الطربي” على “الشعبي”.
ثلاثة آلاف رسالة في اليوم
من جهتها، تخطت شعبية أم كلثوم وأغانيها جميع الحدود، وأصبحت مواعيد حفلاتها على إذاعة “صوت القاهرة” ذات تأثير ملموس على شوارع المدن في مختلف دول العالم العربي. وقد تم تخصيص وقت يومي لبث حفلات أم كلثوم في الساعة العاشرة مساء، ولاحقا أصبحت تذاع في الساعة الخامسة مساء أيضا، واستمر البث خلال الليل وحتى الصباح في بعض الإذاعات. ونظرًا لأعداد المستمعين الهائلة لإذاعة “صوت العرب” في أوقات بث حفلات أم كلثوم، أصبح جمال عبد الناصر يبث خطاباته بعد حفلاتها مباشرة، أو بين فقرات لأغانيها لضمان استماع أكبر عدد من الجماهير العربية. وكان نجاح وتأثير أم كلثوم على روح القومية العربية والوحدة نجاحًا ملموسًا ويمكن قياسه عن طريق أعداد الرسائل المهيبة التي كانت تصل يوميًا إلى إذاعة “صوت العرب”، والتي تجاوزت ثلاثة آلاف رسالة في اليوم، 31٪ منها فقط كان محليًّا، بينما كانت باقي الرسائل من مختلف الدول العربية. وكانت هذه الرسائل شاهدًا على الدور العظيم الذي لعبته أم كلثوم في خلق أبعاد ملموسة ومشاعر حقيقية راسخة في التجربة اليومية تجاه روح الوحدة العربية.
لا يمكن فصل فهم تطور الأغنية وسرديات الفن في مصر عن فهم السياقات السياسية المتغيرة. فبعد ثورة الضباط الأحرار ووصول جمال عبدالناصر للسطلة، رغبت السلطة الحاكمة الجديدة في إعادة تعريف الوطنية كجزء أساسي من بناء هوية جديدة بعد سقوط الملك فاروق، وكان جمال عبد الناصر موقنا بقوة الراديو الهائلة، والذي ساهم بانتشاره وسهولة وصوله لطبقات المجتمع المختلفة. كونه الخطيب الذي عرف بقوة خطاباته وأثرها على المستمع، فهم عبدالناصر قوة الهيمنة الثقافية وأهمية تسخير أصوات الفنانين لخدمة أجندة القومية العربية، وخلق الهوية الوطنية الجديدة. فاقتنص كل فرصة واعدة ليكون صوت الفنان امتداداً لصوت السلطة.
لربما تخطى نجاح عبد الناصر في فهم دور أم كلثوم كصوت جامع للجماهير العربية آماله وتوقعاته التي لم ترسخ مبادئ الوحدة العربية فقط، بل ساهمت في استمراريتها واستدامتها حتى بعد انتهاء الحقبة الناصرية وفشل القومية العربية كمشروع سياسي بعد حرب النكسة عام 1967. تبدلت مشاعر القومية بالمشاعر الوطنية في إطار الدولة-القطر، وتحول تركيز الأصالة المشتركة بتاريخ جمعي مبهم إلى أصالة كل شعب بمميزات تحتفي باختلافه عن غيره من الدول العربية المجاورة. رغم ذلك، يبقى صوت أم كلثوم مألوفا ومترددًا من المحيط إلى الخليج، وتبقى هي فنانة عربية لا تحتكرها الثقافة المصرية، كما غدت صوت حنين لماض أطرب أهله بأحلام الوحدة والتحرير والتغلب على الاستعمار، كما أطربت هي الجماهير بأغان تعصي الانصياع للنسيان.