تركيا: حين يهدِّد بناءُ السدِّ تراث البشرية

كوب 22: من الكلام إلى الأفعال · في الوقت الذي تشهد فيه تركيا أزمةً سياسيةً عميقة، تكافح مدينة حصن كيفا التاريخية، ومعها سكان وادي نهر دجلة، من أجل البقاء ضدَّ مشروع سدِّ إيليسو. علاوة على المخاطر المترتبة على السكان، فهذا السد يهدِّد التراث الحضاري الاسلامي في تركيا، بل وتراث البشرية في العراق.

لقد ظهر سنة 1954، في خضمِّ المجهودات المبذولة لتحسين وضعية التربة والموارد المائية في نهر دجلة، مشروعٌ كبير يهمُّ تركيا والعراق وسوريا: إنه سد إيليسو. و بعد مضيّ أكثر من ستين سنة على ظهوره، ما زالت منظمات المجتمع المدني تواصل مكافحة المشروع، كونه قد يؤدّي إلى إتلاف إرثٍ قديم يعود إلى 11500 سنة، وتدمير “حصن كيفا”ن المدينة التي أسِّست منذ 9500 سنة، وهي تعدُّ الموقع الوحيد في العالم الذي يستجيب لـ9 من أصل 10 معايير ثقافية وطبيعية حددتها اليونسكو لمواقع التراث الإنساني. كما قد يؤدّي إلى إحداث أضرارٍ لنهر دجلة تصل حتّى الأهوار العراقية.

وقد يؤدّي بناء السد أيضًا إلى غمر عشرات القرى بالمياه، وترحيل أكثر من 80 ألف شخص، وإحداث تدميرٍ بيئيّ على مساحةٍ واسعة من تركيا حتّى الحدود العراقية. كما يؤدّي من جهة أخرى في بلاد المصبّ إلى تجفيف منطقة الأهوار العراقية، أي 670 ألف هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، ومع ذلك تتواصل العملية في غموضٍ تام، دون أن يتمَّ إعلام المواطنين.

غياب أيُّ دراسةٍ للتاثيرات البيئية

لنعد إلى تفاصيل المشروع، حيث يشمل، إضافةً إلى السدِّ، محطةً لتوليد الطاقة الكهرومائية التي قد تجلب 400 مليون دولار للاقتصاد، وفق وزارة الغابات والمياه التركية. غير أنّ آخر القياسات لتدفًّق نهر دجلة تعود إلى الثمانينيات. ولم يعد النهر اليوم يصل إلا لـ70% من التدفُّق، ويصعب تصور العودة إلى الماضي، حيث أصبح الجفاف ظاهرةً متكرِّرةً جدًا في المنطقة. ومن جهة أخرى استُثنيَ المشروع من دراسة التأثير البيئيّ وتطبيق المعايير، وكذلك الحال بالنسبة للبنية التحتية والمرافق. وفي حين لازالت الإجراءات القانونية غير مكتملة بعد، حيث تمَّ رفع قضايا طعن أمام العدالة، إلا أنَّ عملية البناء مستمرة على قدمٍ وساق. وهناك مشكلة مركزية أخرى لم يتم حلّها أيضًا والمتمثِّلة في نقل 30 هيكلاً تاريخيًا من الموقع. وقد أدرجت شبكة “أوروبا نوسترا”، التي هي مرجعٌ في مجال التراث الثقافي، حصن كيفا ضمن قائمة “الأماكن السبع الأكثر تعرُّضًا للخطر”، من بين الآثار والمواقع المهدَّدة في أوروبا. وتنصًّ المادة 20 من القانون التركيّ الخاص بحماية الممتلكات الثقافية والطبيعية على “أنّه يتوجّب حماية الممتلكات الثقافية غير المنقولة”، وهذا ما لا يُحترم. أمام هذا الوضع، قامت منظَّمات من المجتمع المدني العراقي في سنة 2012 بحملة "حماية دجلة والأهوار العراقية، التي كان من المشاركين بها اللجنة الكاثوليكية ضد الجوع ومن أجل التنمية ـ أرض التضامن، بقصد رفع وعي الرأي العام الدوليّ بمخاطر سد إيليسو، وذلك عبر اليونسكو ولجنة التراث العالمي. وأصبحت الحركة الآن عالمية، تجمع منظمات غير حكومية أوروبية وإيرانية، فضلاً عن التركية والعراقية*، وغايتها توحيد النضالات في العراق -حيث سيعاني الناس من شح الماء- وفي تركيا -حيث يتهدّد الناس الفيضان. كما أن هدف الحملة الترويج لبدائل في مجال تسيير الماء على المستوى الجهوي.

ويقوم أصحاب الحملة بعملٍ لا هوادة فيه، يتمثَّل في المرافعة والتكوين وتحفيز الرأي العام عبر اجتماعاتٍ عامّة وحملاتٍ تكشف أثر السدود الكبيرة على التنوُّع البيولوجي وعلى الحياة الإنسانية والبيئة، وتتمُّ هذه التوعية في العراق وتركيا والمحافل التابعة للأمم المتحدة. كما تعمل الحملة أيضًا على اقتراح بدائل لتسيير الماء على المستوى الجهوي، حتّى يكون هذا المصدر الحيويّ عامل سلمٍ وليس سببًا للنزاعات. ويشرح الناشط التركي أركان آي بوغا، منسِّق الحملة، أنه في الوضعية الحالية يصعب الحصول على معلوماتٍ ذات مصداقية بخصوص أعمال البناء، خاصّة أن المكان محاط بمواقع عسكرية ونقاط تفتيش. وكانت أعمال بناء السد قد توقّفت خلال السنوات الأخيرة ثلاث مرات بسبب نزاعات في المنطقة ومغادرة العمال. وحسب ما علمنا، فإنّ بناء هيكل السد قد اكتمل وتمّت تغطيته بالأسمنت. ويبقى المشكل الأساسي هو المحطّة الكهرومائية التي لم تكتمل الأشغال بها على ما يبدو. ولكي يتمَّ حجر الماء، يجب أن تكون جاهزة للعمل، وقبل كل هذا يجب البدء في إجراءات عملية نقل التحف التاريخية“. وحتى يومنا هذا، من غير المعروف إن كان سيتمُّ نقلها أم لا، أو حتى إن كان في الإمكان نقلها. مع أنّ دراسة للأستاذ عدنان تشيفيك بعنوان”حصن كيفا المدينة التي تلتقي فيها الحضارات"، أظهرت أنها كانت إحدى عواصم الأناضول الأولى وأن الإسلام نما وتوسع من تلك المنطقة.

إحدى أولى العواصم الإسلامية للأناضول في خطر

تتتعرَّض عدّة مواقع إسلامية في مدينة حصن كيفا إلى خطر التدمير، فالمساجد و“الكولياس külliyes” (مراكز اجتماعية حول المسجد) الموروثة عن الدولة الأرتقية والأيوبية، ومسجد السلطان سليمان الذي يعود إلى أكثر من 600 سنة، ويضمُّ ضريح السلطان، ومسجد ديوريجي أولو Ulu Divriği الفريد من نوعه في الأناضول، ومساجد كوس Koç وأولو Ulu وكيزلار Kızlar التي تتميز بعمارتها وزخرفتها، كلّها مهدَّدة، كما هو الحال بالنسبة لثلاث كنائس.

كما تحتوي الأهوار العراقية على مناطق “أور” و “سومر”؛ مهد الحضارة. ولا زال السكان المحليّون يعيشون بها، محافظين على تقاليدٍ قديمة تعود لآلاف السنين. وتمثِّل هذه الأهوار نظامًا بيئيًا فريدًا، يمتدُّ على مساحةٍ تتعدّى مساحة لبنان. وقد قامت اليونسكو خلال دورتها الأربعين للجنة التراث العالمي، في يوليو/تموز 2016، بتسجيل الأهوار العراقية في قائمة التراث الإنساني العالمي، وذلك بفضل الحملة التي قادها المجتمع المدنيّ العراقيّ. ومن جانبها، لم تدعم الحكومة التركية ترشيح حصن كيفا، المكان الوحيد في العالم الذي تتوافر فيه 9 معايير ثقافية وطبيعية من الـ10 معايير التي حدَّدتها اليونسكو.

لماذا تصرُّ الحكومة التركية على هذا المشروع مع أن ّالمخاطر كبيرة؟ فمدينة حصن كيفا يمكن أن تتحوَّل بسهولةٍ إلى متحفٍ مفتوح بهياكله الاستثنائية الممثِّلة للذاكرة الاجتماعية والثقافية للمنطقة، وفقًا للخطاب المتكرِّر للحكومة التركية حول “حماية إرث أجدادنا”. ولا سيَّما أننا حيال انعدام أي عقلانية اقتصادية للسدّ، كما تمَّ إثبات ذلك في دراسة لجامعة أكسفورد حول 245 سدًا. وتظهر الدراسة أن تكاليف السدود الكبرى غالبًا ما تتجاوز تقديرات الميزانية، في حين أنَّ الفوائد المنتظرة مبالغٌ فيها، ممّا يخلق ديونًا كثيرة خصوصًا في بلدان الجنوب. وبناء سد كهذا في بلاد الرافدين، التي هي منطقة هشّة عرضة لتأثيرات الاحتباس الحراري، قد يزيد من ظاهرة الجفاف في كل المنطقة، ويحدُّ من تدفق الأنهار.

وعلى صعيدٍ آخر، باءت أولى محاولات الحكومة التركية لجمع أموالٍ على المستوى الدوليّ بالفشل، في حين ساهمت حملةٌ دولية في جعل مؤسَّساتٍ مالية ألمانية ونمساوية تخرج من المشروع، حيث لم تستجب السلطات التركية أبدًا للاستفسارات البيئية التي رفعتها تلك المؤسسات. على الرغم من ذلك، قبل بنكان تركيان Akbank و Garanti طلب الحصول على قرض لبناء السد، الذي تنجزه من مجموعةٌ تضمُّ من سنغيز للبناء Cengiz و نورول للبناء Nurol. ولتلك المؤسَّستين علاقاتٌ وطيدة بحكومة حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه رجب طيب آردوغان.

لامبالاةٌ تامّة من قبل الحكومة

وقد لفت معلقون سياسيون أيضًا الانتباه إلى كون السدود قيد الإنجاز شرق الأناضول، بما فيها إيليسو، تهدف إلى منع العمليات العسكرية للمتمرِّدين الأكراد، وأنها تضرُّ بالأكراد. لهذا تستمر حملة “أنقذوا دجلة والأهوار العراقية”، وصولاً للهدف النهائيّ المتمثِّل في منع بناء السد تطبيقًا للاتفاقات الدولية عبر مواصلة الضغط على الحكومتين التركية والعراقية. فحتّى الآن، تعتبر الحكومة العراقية، التي تركز اهتمامها على النزاعات العسكرية والسياسية، قضية السدِّ أمرًا ثانويًا، ولقد كان جوابها في هذا الصدد مهذَّب، لكنّه غير حاسم. أمّا الحكومة التركية فهي غير مبالية، ولم تتناول المفاوضات الثلاثية بين تركيا والعراق وسوريا سوى كميّات المياه، دون التعرُّض للقضايا البيئية. ويشير آي بوغا إلى الممارسات الجديدة للحكومة التركية في ظل حالة الطوارئ المفروضة بعد محاولة الانقلاب في 15 تموز/يوليو ،التي تجعل أي اعتراض من باب المستحيل. “يجعل هذا الوضع الدعوة للحشد والتظاهر أمرًا صعبًا للغاية، ونحن كمجموعة من النشطاء في المنطقة نواصل نضالنا ضدَّ السدَ، ولكن التحرّكات الشعبية المعارضة في تراجُعٍ مستمر”. كما يصعب القيام بأيِّ نشاط في العراق في ظل حالة الدمار التي يشهدها.

تحتلُّ الأهوار العراقية ومدينة حصن كيفا مكانة مركزية في تاريخ الإنسانية، ففضلاً عن هويَّتها الثقافية وجمالها، للمدينة أهميةٌ خاصّة في العالم الإسلاميّ، لذا يبدو من المذهل بمكان أن يتمَّ التفكير بالتضحية بإرثٍ قديم يعود إلى 11500 سنة، من أجل سدٍّ لا تتعدّى مدّة حياته 50 إلى 60 سنة، تدعمه الحكومة الأكثر تديُّنًا في تاريخ الجمهورية التركية.

(*) ـ أعضاء حملة “أنقذوا دجلة والأهوار العراقية” في العراق هم: مبادرة تضامن المجتمع المدني العراقي Iraqi Civil Society Solidarity Initiative (ICSSI) ،الحملة الشعبية العراقية لحماية دجلة، منظّمة تموز من أجل التنمية الإجتماعية، المسلّة، المنتدى الإجتماعي العراقي، مركز المعلومة، حماة دجلة، حماة مياه العراق.