كل أنواع الموت.. هنا في غزة

مر عيد الحب في 14-2-2015 على غير العادة، مفعماً بالحيوية واللون الأحمر وازدحمت الشوارع في مدينة غزة، وكأنه منحها قبلة الحياة ولو ليوم واحد.

وحضّر أصحاب محال الورود والهدايا لعيد الحب على استحياء وبالخفاء، خوفاً من مسيرة السلفيين التي تخرج كل عام بهذا التاريخ، وتمر على المحال لتمنع مظاهر الاحتفال بالحب.

أبو محمود (32عاماً) صاحب محل سفير الحب للورود يقول “اشتريت 140 دبدوب و1200 وردة جورية حمراء استعدادا للعيد، ولكني اضعها داخل المحل حتى لا يأتي السلفيين ويعطوني درساً في الدين كما يفهموه”.

أبو محمود في نهاية يوم عيد الحب لم يبق عنده وردة واحدة أو دبدوب، فكأن غزة تشتاق للحب، ولم تخرج مسيرة للسلفيين، ولم يتدخل رجال الأمن كما يفعلون عادة ويحظرون كل لون أحمر، وكأنهم لمسوا حالة الاحباط واليأس التي يعيشها أهالي قطاع غزة منذ انتهاء الحرب الأخيرة في صيف 2015، فقرروا أن يغضوا البصر عن مظاهر الحب.

هذه غزة تستطيع أن ترى تناقضاتها واضحة في دقيقة واحدة، مثل أن تحمل إمرأة منقبة بالوناً أحمر، لكن الحياة رجعت صباح اليوم 15-2-2014 إلى ارتدادها الأول للأسى والوجوه الواجمة، وكأن الأمس كان تقمصا لحالة الفرح على خشبة مسرح كبيرة وذاب المكياج مع طلوع النهار.

وعاد أهالي القطاع للأزمات المتراكمة التي يعيشونها كانقطاع الكهرباء لفترة تزيد عن الـ12 ساعة يومياً، وأزمة اغلاق معبر رفح منذ سقوط الرئيس محمد مرسي في يوليو من العام 2013، وفتحه مرات قليلة تعد على الأصابع.

وتعتبر أصعب هذه الأزمات وقف رواتب موظفي حكومة حماس السابقة وعددهم أربعين ألف موظف، فلم يتلقوا رواتبهم منذ يونيو العام2014، كما أصبح موظفي السلطة الوطنية الفلسطينية في غزة يتلقون 60% من رواتبهم بعد حجب اسرائيل لمال الضرائب عن خزينة السلطة، وفوق كل هذا توقفت مشاريع إعادة الإعمار في ظل عدم تفعيل المصالحة الفلسطينية.

إن غزة تعيش لحظة يأس جماعي وتتشابه ملامح الأسى على وجوه مواطني هذه المدينة الساحلية، التي تزيد قبضة حركة حماس على جميع مرافقها.

يقول القيادي في حركة حماس أحمد يوسف في تصريح خاص “يعيش الوطن مرحلة صعبة عنوانها الازمة وغياب الرجل الرشيد، ولا تزال غزة تحلم بانجاح المصالحة، وأن تتولى حكومة التوافق الوطنب دورها بشكل جيد، ويكون هناك خارطة لعودة رواتب الموظفين، واعادة الاعمار، لكن للأسف حتى الآن الأمور تراوح في مكانها”.

ويضيف يوسف أن الوضع يزداد تدهور والحياة تزداد صعوبة وقسوة على الناس بعد توقف كل مشاريع اعادة الاعمار واستمرار الانقسام، كما أن استعدادات الدول المانحة متعثرة طالما الحكومة غير قادرة على التحرك بالشكل المطلوب منها.

وقد كان أهالي القطاع يعتقدون أن انتهاء الحرب الشرسة والتي استمرت لواحد وخمسين يوماً سيزيح الهموم ويحل مشكلاتهم، أو هكذا اعتقدت حركة حماس، بأن هذه الحرب ستكون حلاً لأزمتها الاقليمية خاصة بعد سقوط الاخوان المسلمين في مصر، ولكن ما حدث العكس تماماً فقد ازداد ألم الناس والعائلات التي تعاني من فراق شهدائها، وسط ما يزيد عن 20 الف منزل لم تعد صالحة للسكن تحتاج إلى عشرات السنين لاعادة بنائها، كما أن هناك مئات العائلات لا تزال تعيش في مدارس وكالة الأونروا وتشغيل اللاجئين، وآخرين يعيشون في منازل أقارب لهم.

يقول المواطن وطن سكر(31عاماً) والذي كان يعيش مع زوجته وأربعة من أبنائه في أحد صفوف مدرسة في مخيم الشاطئ “لا نملك الايجار لنسكن في بيت عادي، وعشنا في المدرسة ستة شهور حتى انتقلت إلى منزل والدي قبل أسبوعين”.

وفقد وطن منزله في حي الشجاعية شرق قطاع غزة خلال الحرب الأخيرة، وقد عاش شهورا طويلة يسكن الصف المدرسي وليس عنده سوى بضعة مراتب، وكانت دورة المياه تبعد عنهم مسافة المائتي متر.

كما توفي الطفل الرضيع عز الدين الكفارنة، مساء يوم 16-2-2014، وأصيب أفراد عائلته في مدرسة يأوون إليها منذ الحرب في شمال قطاع غزة بعد حدوث حريق تسبب به ماس كهربائي.

وقد جرب أهالي قطاع غزة كل أنواع الموت في غضون ثمانية أعوام من الحصار، فقد ماتوا تحت قصف طائرات الاحتلال وبقذائف دباباته، وحرقا بالشمع بسبب أزمة الكهرباء، ومرضى عالقين على المعابر ينتظرون الخروج للعلاج، وبردا بعد موت أربعة أطفال في المنخفض الجوي في شهر يناير الماضي، وغرقا في سفن الهجرة غير الشرعية بتاريخ 6-9-2014 حين غرق المئات بعد أن هربوا من الحرب عبر الأنفاق.

يقول مسؤول الوحدة الاقتصادية والثقافية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان خليل شاهين أن غزة وصلت إلى مستوى فقر غير مسبوق، وجاء القرار الأممي من وكالة الأونروا بوقف مساعدات متضرري الحرب ليزيد الطين بلة في ظل اعتماد أكثر من 75% من سكان القطاع، على هذه المساعدات.

ويتزامن مع كل هذا التدهور سلسلة من التفجيرات التي استهدفت سيارات ومنازل نشطاء من حركة فتح وبعض الجمعيات والمراكز كالمركز الثقافي الفرنسي، وأوضحت الاجهزة الأمنية التي لا تزال بقياد حركة حماس أنها فتحت لجان تحقيق فيها وحتى اللحظة لم يعلن عنها ودونت كلها أنها من تنفيذ مجهولين.

ويرى القيادي أحمد يوسف أن انحدار الوضع الامني له علاقة بترهل حكومة التوافق وعدم قيامها بواجبها اتجاه وزارة الداخلية في غزة، وتجاهلها وتركها من دون ميزانية أو إدارة ما يجعلها غير قادرة على التعامل مع هذا الفلتان.

من جهته يرى الحقوقي شاهين أن حوادث الفلتان الأمني مرشحة للزيادة في ظل غياب الارادة للأجهزة الأمنية أو الارادة السياسية لحركة حماس على ضبطها مضيفا “إنها حجة جديدة تستخدمها حماس للضغط على كافة الأطراف”.

الحرب والسلم والقمع والحرية والعلمانية والإسلامية كلها مسارات متناقضة تراها في وجه غزة الواحد، فحين خرجت وقفة شموع أمام المركز الفرنسي ضد مقتل الصحافيين بشارل ايبدو سرعان ما لحقها اعتصام آخر اعتراضا على الرسم الذي نشرته المجلة الفرنسية للنبي محمد، نظمته الجماعات السلفية، وحملت علم تنظيم الدولة الاسلامية “داعش” مقابل حرق علم فرنسا أمام المركز الثقافي الفرنسي.

ان حركة حماس لم يبقَ أمامها سوى اللعب على هذه التناقضات للسيطرة على قطاع غزة وفي الوقت ذاته تشد وترخي الحبل مع العالم الخارجي، وفي كل الأحوال لا مشكلة عندها من الحفاظ على صلابتها مقابل خسارة جماهيرتها.

فلم يمر أسبوع على قرار كانت المحكمة العامة للاتحاد الأوروبي اتخذته في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي برفع اسم حماس من قائمة الارهاب، حتى حولت الأخيرة معظم مواقع التّدريب العسكريّة التّابعة لكتائب القسّام المنتشرة في مناطق القطاع إلى مخيّمات تدريب عسكريّة لعشرات الآلاف من الفتية الصغار في فترة الإجازة المدرسيّة بالشتاء.

وعن هذا التخبط في حركة حماس يقول المحلل السياسي أكرم عطالله “حماس ترسل رسائل للجميع في محاولة لارضاء كل الأطراف، علَّ احدهم يتدخل لانقاذها من حالة الاختناق التي تعيشها، فبعد تجربتها المُرة في مصر، قررت ألا تتخذ أي موقف ضد أحد، فهي تريد إرضاء ايران وإرضاء السعودية في الوقت ذاته، وتقبل بالسلفيين وتقبل بمعارضيهم، وتدين داعش ولكنها ترفض حرق الكساسبة والمصريين الأقباط”.

ويرى عطالله أن الحل يكمن بفتح حماس حواراً مع جميع الفصائل، وان تكون جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس ان ترجع لأحضان ايران، فيجب أن تبني علاقاتها الخارجية وبرنامجها الداخلي من واقع الحركة الوطنية وبموافقتها.

غاب عيد الحب منذ أيام، وربما ذبلت وروده في أيدي المحبين، ولكن العزاء أنها لم تبقَ في ثلاجات محال الورد بعيدة عن العشاق الذين عاشوا يوما بحرية ودون اختباء أو نبذ، وربما اقترب اليوم الذي تعيش فيه غزة هي الاخرى بحرية وغير منبوذة ويرجع لها سلامها القديم.