ماذا حلَّ بالمعارضين الافتراضيّين التونسيّين؟

عشرُ سنوات مرّت على وفاةِ زهير يحياوي، وهو رياديُّ المعارضة الافتراضيّة في تونس. كان قد أسّس عام 2000 “تونزين”، أوّل موقع يُشهِر معارضةً علنيّة لزين العابدين بن علي. تداعى وضعُه الصحّي على إثر التعذيب الذي تعرّض له خلال فترة اعتقالِه بين حزيران/ يونيو 2002 وكانون أوَّل / ديسمبر 2003، إلى أن أدّت بحياته نوبةٌ قلبيّة في 13 آذار/ مارس 2005. واستوحى شبابٌ كَثيرون من تجربتِه منذ ذلك الوقت، فدخلوا الشبكة الافتراضية، وتحوَّلوا إلى معارضين افتراضيّين. وقد استخدموا بوَفرةِ العالم الافتراضي والشبكات الاجتماعيّة لكشفِ الوجه الحقيقيّ لنظام بن علي، وكسرِ التعتيم الإعلامي الذي فرضه. تغيَّرَ الوضعُ اليوم، ومعه تغيّرَت طموحاتُهم.

غرافيتي تكريماً لزهير يحياوي، يامن، 5 حزيران/ يونيو

إنَّهم في زهرةِ أعمارِهم. يُتقِنون لغتين وأحياناً ثلاثةَ لغات. لجأوا إلى التهكُّم والسخريةِ للشجْبِ بالاستبداد وتعسُّفِه، وأثاروا في الفضاءِ الافتراضي نقاشات ما كانت لتحدثَ في الحقل العامّ الذي صادرَه النظام الاستبدادي. وَصَفَهم الإعلامُ العالمي على أنّهم مُلهِمو الثورة التونسيّة على إثرِ هروبِ زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/يناير 2011. إلّا أنّ نَجْمَ جيلِ المعارضين الافتراضيين هذا بدأ يخفُّ مع ظهورِ مُعطَيات جديدة تفيدُ بوجودِ انتفاضةٍ شعبيّة. وقد أدّى غيابُ مشاريعَ سياسيّةٍ تدفعُهم قُدُماً وزوالُ سحرِ الثورة إلى بروز مفارقاتٍ وتبايُنات في المصالح بينهم. فأبّان فترة بن علي، تميَّزوا بالتضامن وقدرتِهم على العمل، كشبكةٍ ضدَّ النظام. أمّا اليوم، دخلَ بعضُهم دهاليزَ السلطة، ويمارسُ البعض الآخر التزامَه في الأحزابِ السياسيّة ووسائلِ الإعلام التقليديَة. إلّا أن أكثرَهم يتواجد في الجمعيات وفي وسائل الإعلام البديلة وحتّى في عالم الاستثمار.

تغيُّرات ميدانيّة

يتعرّضُ الفضاءُ الافتراضي التونسي لتغيُّرات جليّة، تعودُ إلى رفعِ الرقابة، وإلى حريّة التعبير السائدة، وشيوعِ تِقنيّات التواصل (انترنت، سمارتفون، إلخ إلخ). ولم يعُد التعبيرُ الحرّ عن أيّة مسألةٍ كانت، بما فيها السياسيّة، حصراً على المعارضين الافتراضيّين، ولم يعد الصمت والخوف يَكبت الآراء. فيعترفُ سفيان بلحاج (واسمُه المستعار حمادي كالوتشا) الذي يُديرُ اليومَ مشروعاً تعاونيّاً لتدريب الصحافيين والنشطاء في مجال الأمن الرقمي (Security School 216): " لقد تغيَّرَ الوضعُ الميداني. كنّا من قبل نُعبِّر عن أنفسِنا في جوٍّ من الصمت العام. وكان أقلُّ صوتٍ يحدثُ ضجّةً ضد السلطة. أما الآن، فقد “عمَّ الهرج والمرج. باتَ من الصعب أن يُسمع صوتُنا”.

بالإضافة إلى تحرِّر الكلمة، فقَدَ المعارِضُ الافتِراضيُ أحدَ ميِّزاته الحصريَّة، ألا وهي شيوعُ الحصولِ على الانترنت. فقد ارتَفعَ عددُ المشتركين بالانترنت في تونس بين كانون الأول/ ديسمبر 2010 وكانون الأول/ ديسمبر 2012 من 600000 مشترك إلى 1100000 مشترك. وعَرفت شبكاتُ التواصلِ الاجتماعي ارتفاعاً في شعبيّتها منذ اندلاع الثورة. وأزدادَ عدَدُ المشتركين التونسيين في الفيبسبوك ثلاثةَ أضعاف تقريباً. يقدَّر عددُ مستخدمي هذه الشبكة اليوم بـ 4800000 مقابل 1710000 في خريف 2010. ويضيف إسكندر بن حمدة (واسمه المستعار بالّيت سْكان)، بنوع من السخرية، وهو ناشط افتراضيٌّ و“قرصان” سابقٌ باشرَ حياتَه كمقاول وفتح شركته الخاصة: “حتى أمي باتت ناشطة اقتراضية. عندها سمارتفون وتعلّق على الأحداث السياسية من خلال حسابها على الفيسبوك، أسوةً بنا جميعاً”.

بروزُ تبايُناتٍ سياسيّة

بعد سقوطِ بن علي، سرعانَ ما بدأت الانقساماتُ ما بين ناشطي البارحة الافتراضيّين، سببُها حرية الاختيار، وتعدُّدُ لا بل تشتُّت الخيارات والكفاءات. وسرعانَ ما برزَت الخلافاتُ السياسيّة. وتعترفُ أميرة يحياوي التي ترأسُ اليوم جمعيّة البوصلة المعنيّة بشؤون شفافية الهيئات المنتخبة قائلة: “كنّا موحّدين، كان للشرِّ وجهٌ. وها نحن نكتشفُ أنّنا لا نتَّفق على أشياء كثيرة، فيما قضيْنا سنوات طويلةً ظننّا خلالَها أنّنا متشابهون، وأننا نَنتمي إلى نفسِ العائلة”. وتنفجرُ أحياناً صراعاتٌ حادّة بين رِفاق قُدامى ناضلوا ضدَّ الاستبداد. فيشرحُ بالّيت سْكان الوضع كالتالي: “فيما مضى، كانت الدكتاتورية تجمعُنا. ثم اختفى العدوُّ المشترَك. وبما أننا نأتي من أوساطٍ مُختلفة، لم يَكن لدينا رؤيةٌ مشتركة لما ستصير عليهِ تونس بعد الـ 14 كانون الثاني/ يناير. لكلِّ واحدٍ منّا أولوياتُه. ومن الطبيعي أن نكون مشتّتين الآن”. وقد ظهرَت الخلافاتُ حين عُيِّن سليم عمامو، وهو مهندسُ كمبيوتر ومؤسِّس حزب القراصنة، كاتبَ دولة للشباب. وتعرّض سليم عمامو لوابلٍ من انتقادات عزيز عمامي ، وهو رفيقُه في نضالِه ضدّ الرقابةِ وشريكُه في زنزانة سجن المرناقية من 6 إلى 13 كانون الثاني/ يناير 2011، لأنه شاركَ في أوَّل حكومةٍ تكوَّنت ما بعد بن علي التي ترأّسَها محمد غنوشي.

من جهته، يَعتبِر سكرتيرُ الدولة السابق سليم عمامو أن ذلك “كان فرصةً لمراقبةِ الحكومة، التي لم تَكن تحظى بثقتِنا، عن كثب. كان التحدّي الرئيسي يومَها هو قيامُ الانتخابات. وكنتُ أودُّ التأكُّد أنّنا على في الاتجاه الصحيح”. أما بالنسبة لسامي بن غربية، المشاركِ في تأسيسِ موقع نواةNawaat، فهو يَعتبِر أن “الأزمة ظهرت في حركة المعارضة الافتراضيّة منذ الأيام الأولى التي تلَت الثورة، وكانت بوادرها نقصٌ في الوعي السياسي، ما يفسر ارتكاب سليم خطأ المشاركة في الحكومة. ارتكبنا جميعنا أخطاء”.

التحوُّل إلى الصحافة

واكتسبَ المعارضون الافتراضيّون كفاءات “الصحافة المواطِنة”، بحكمِ تعاملِهم مع الخبرِ لمحاربةِ التعتيمِ الإعلامي الذي فرضَه حكمُ بن علي. وشكَّل ذلك طاقةً كامنةً مُغريةً للإعلام التقليدي، الذي لم تكنْ وسائلُه سوى محطاتٍ لدعاية النظام، والذي تحرَّر لتوِّه من جلاجل القمع. بعد الثورة، أضحى التمكُّنُ من التقنيّات الجديدة في مجالِ الاتصالات ضروريّاً بالنسبة لإعلامٍ أنكبَه ميراثٌ طويلٌ، تركَهُ نظامٌ معادٍ لإعلامٍ حرّ. كما فرضَ زخم الشباب نفسَه في قاعاتِ التحرير بعدَ هروبِ الرئيس المخلوع. فتمَّ اللجوءُ إلى معارضين افتراضيّين، من صحافيَين ومقدِّمي برامج وكُتّاب أعمدة لتغطيةِ النقص في المهنية. هكذا، كان لكالوتشا تجربةٌ في الصحافة في التلفزيون الوطني التونسي (القطاع العام) في 2012 قبل أن يستلمَ منصبَ مسؤولية في المشروع التعاوني DSS 216. كما تعاملَ مع بعضِ شبكات الإعلام الأوروبية. كان التجربةُ مخيبةً للأمل تماماً: “فهمتُ أن معظمَ وسائل الإعلام ليسَت مستقِلَّة. أحسستُ بالقرف”. تزامنَت تجربتُه في التلفزيون الوطني مع وصولِ حزب النهضة الإسلامي إلى سدَّة الحكم، ودمغَتها تمزُّقات سياسيُّة شديدة: دامَ الاعتصام الذي نظَّمه الإسلاميُّون أمامَ مركز التلفزيون شهرين (آذار/ مارس – نيسان / أبريل 2012). ازدادَت الاتهاماتُ التي وجَّهَها أعضاءٌ في النهضة ضدَّ القطاع العام المرئي، لدرجةِ أن خطرَ الخَصخَصة صارَ موضعَ احتمال. كذلك الأمرُ بالنسبة لنداء تونس، الحزبِ الحاكمِ حالياً وغريمِ حزب النهضة السابق، الذي اعترضَ على انحِياز التلفزيون الوطني. تعرَّضت دوائرُ التحرير إلى ضغوطات كبيرة. ولم يَكن المعارضون الافتراضيون الذي تحوَّلوا إلى صحفيين مؤهَّلين لمواجهةِ ضغوطاتٍ كهذه.

جاذبيّةُ الحياة الجَمعَوِيّة

أخفقَ المعارضون الافتراضيّون في تكوينِ قوَّة سياسيّة، واتجهوا إلى الصحافة والمشاريع التعاونيّة، وحتى إلى المقاولات. وتعتبِر أميرة يحياوي، الحاصلة على جائزة مؤسّسة شيراك لتفادي الصراعات لعام 2014 ، أنه “من الأسهل أن نُدمِّر منه أن نبني. في المقاوَمة، لا نتعلَّمُ البناء. ولكنّنا نتوصّل إلى ذلك في المُجتمع المدني”.

ثمَّةَ عامل آخر كانَ له تأثيرٌ في تغييرِ النظرة إلى فعلِ المواطَنةِ والنضال لدى المعارضين الافتراضيين. ألا وهو المبالغُ التي كرَّسَتها جمعياتٌ غير حكوميّة، ومؤسساتٌ أوروبيّة وأميركيّة وأحياناً قطريّة، لمنظماتٍ من المجتمع المدني التونسي معنيّة بمشاريع وسائل الإعلام البديلة، بحريّة التعبير، بالمواطنَة، العدالة الانتقاليّة، أو أيضاً بالشفافيّة والإدارة الرشيدة.. اليوم، تشكِّل هذه المشاريعُ فرصاً لبعضِ المعارضين الافتراضيّين القدامى. اختارَ كلٌّ منهم اتجاهاً وأساليبَ عملٍ تِبعاً للإمكانيّات المفتوحةِ أمامَه. ويفيد كالوتشا في هذا الصدَد: “كان علينا مواجهةُ تجربةِ الرفاهية. أتَت أموالُ المؤسَّسات من كلِّ مكان. صارت الأمور تجارة”. وكانَ من شأن تحويلِ الفعلِ النضالي نوعاً ما إلى حرفةٍ أنَّه أُدخِل في اعتبارات ربحيّة.

Wled Ammar, un film de Nasreddine Ben Maati (2013) — YouTube
Bande-annonce

يفضِّل إسكندر بن حمدة أن يرى الأمورَ بعينٍ أخرى: “من الرائعِ الآن أي يعملَ كلُّ واحدٍ منّا من زاويةٍ مختلٍفة”. وليس وحدَه مَن يَرى في ذلك آفاقاً جديدة. يضيف كالوتشا: “ناضَلنا على الشبكة، كي نكسَبَ حقَّ العملِ في الميدان. اليوم، كسِبنا هذا الحق”. نرى خيبةَ الأملِ هذه، الملحوظَة لدى شريحةٍ من الشبيبة، في فيلم “أولاد عمار” (تشرين الثاني/ نوفمبر 2013) للشاب نصر الدين بن معاتي، الذي يروي تطوُّر وضعِ المعارضين الافتراضيّين في أوَّلِ سنتين من المرحلةِ الانتقاليّة.

ولدت المعارضة الافتراضية كردّة فعل للتقويض المفروض تحت الاستبداد، وكان هدفُها التنديد بتعسُّف النظام، وفضحُ دعايته. مع سقوط النظام، لم يعد هناك مبرر لوجودها. فأُفرغت المقاومة هذه من ماهيَّتِها.