عفوٌ عامٌّ عن الجرائم الاقتِصاديَّة موضوعُ استِنكارٍ في تونس

يثيرُ مشروعُ المُصالَحةِ في المجالِ الاقتِصاديّ والماليِّ الذي قدَّمَه الرئيس باجي قائد السبسي في تونس تساؤلاتٍ وصراعاتٍ ومناهَضَة. وباتَ المشهدُ السياسي متصدِّعاً بين هؤلاء الذين ينهَضون ضدَّ الإفلاتِ من العِقاب وأولئك الذين يُفضِّلون العفوَ عمّا سلَف، تحتَ شعارِ إعادة إحياءِ الاقتصاد.

“لا تصالح”
Collectif Zwewla, septembre 2015.

تذكرُ لجنةُ البندقيّة (Commission de Venise) في مشروعِ قانونِ المصالَحةِ الاقتصاديّة والماليّة أنَّ “سيرَ أيِّ نظامٍ كانَ للعدالة الانتقاليّة يفترضُ توافقاً واسعاً” 1.

ويُبَيِّض مشروعُ القانونِ الأساسيِّ “المرتبطِ بالمصالحة الوطنية في المجال الاقتصاديِّ والماليِّ” صفحةَ ثلاثِ فئاتٍ من المتَّهمين، وهم: الموظَّفون الحكوميّون الذين تمَّ الحكمُ عليهم بتهمةِ سوءِ استخدامِ المالِ العامِّ دون مردودٍ ماليٍّ، رجالُ ونساءُ الأعمالِ الذين كانوا مقرَّبين من النظامِ القديم وانتَهَزوا علاقاتِهم لاختلاسِ أموالٍ عامَّةٍ، والمواطنون الملاحَقون في جرائمَ ماليَّةٍ أو تبادلِ عملات. يقترِحُ مشروعُ القانونِ الإعفاءَ عن الموظَّفين المحكومِ عليهم بتهمةِ سوءِ استخدامِ المال العام؛ كما يقترحُ إسقاطَ الدعاوى وإيقافَ تنفيذِ الحكم إن أعادوا المبالغَ المختلَسة والأرباحَ الناتِجَة منها، مع زيادةِ 5% عن كلِّ سنةٍ مضَت. أمّا الفئةُ الثالثة، فيتمُّ العفوُ عنها بتهمةِ تبادلِ العملات مقابلَ دفعِ 5 % من قيمةِ المبالغ التي لم يتمَّ التصريحُ عنها.

ويقترحُ المشروعُ إنشاءَ سلطةٍ إداريّةٍ تحتَ إشرافِ رئيس الحكومة لتنفيذِ تلك الإجراءات، وهي لجنةُ المصالحة. تُعنى لجنةُ المصالحةِ بالنظرِ بالملَفّات التي يقدِّمُها المخالِفون وتقديرِ المبالغَ المحصَّلة بطريقةٍ غيرِ شرعيّة. إلّا أنَّ تلك الإجراءاتِ الخاصّة لا تشملُ الـ 114 شخصاً المقرَّبين من بن علي والذين صدرَ في شأنِهم مرسومٌ في 14 آذار/ مارس 2011 يحجزُ على أملاكِهم، علماً أنَّ جزءاً من ذلك المرسومِ قد تمَّ إلغاؤه في أيار/مايو من نفسِ العام راجع نص القانون المتعلّق بالحجز على الأملاك .

لا يزالُ عددُ الأفرادِ المعنيّين بهذه المصالحةِ الاقتصاديّة مجهولاً حتى اليوم، كما تزال مجهولةً عائداتُها الاقتصاديّة. فالاقتصاديّون، أيمينيّين كانوا أو يساريّين، يجمِعون على صعوبةِ استشفافِ الفوائد الاقتصاديّة المحتمَلةَ لمشروعِ القانونِ بصيغتهِ الحالية. لم تجرَ له أيّة دراسة جدوى. علماً أنَّ للرئاسةِ مَخبَرُ تفكيرٍ خاصٍّ، وهو المعهد التونسيُّ للدراسات الاستراتيجيّة. ويعترِفُ الناطقُ الرسمي باسمِ رئاسةِ الجمهوريّة معز سيناوي أنَّ “التقييمَ الكمّي غيرُ ممكِن. إذْ إنَّ المسارَ يعتمدُ على ضميرِ الأشخاصِ المعنيّين”، لافتاً النظرَ إلى “تأثيرِه النفسي”. ويشرحُ قائلاً : “كثيرٌ من الموظَّفين يعمَلون في الخوف. لا يريدون توقيعَ أيّةَ وثيقةٍ خوْفاُ من الانتِقام، مما يُطيلُ العمليّةَ الإداريّة، وهذا مُضِرٌّ لوسط الأعمال”.

و في غيابِ رؤيةٍ واضحةٍ لتأثيرِه الاقتِصادي، يشيرُ هذا القانونُ إلى تصدُّعٍ جديدٍ يقسِّم المشهدَ السياسيَّ إلى فئتيْن: فئةٍ تُحبِّذُ العفوَ بحجَّةِ إعادةِ إحياءِ الاقتِصاد، وفئةٍ تريدُ أوَّلاً منعَ المقرَّبين من النظامِ السابقِ من الإفلاتِ من العِقاب. بعدَ سنواتٍ من الاستِقطابِ الذي أدّت إليه الانشقاقاتُ الهويّتيّة والمجتَمعِيّة، يتمحوَرُ الجدلُ من جديدٍ حولَ مواضيعِ الثورة الأولى، رغمَ التحفُّظاتِ التي يُثيرًها بطءُ عمليَّة العدالةِ الانتقاليَّة وتشنُّجات سيرورَتِها.

حراكُ المجتَمَع المدني

مع العلمِ أنَّ مشروعَ القانونِ قد قدِّمَ لمجلسِ النوّاب في تمّوز/ يوليو الماضي، وأنَّ النظرَ فيه كانَ مقرَّراً مع استعادةِ مجلسِ النوابِ لجلساتِه الدوريّة مع حلولِ الخريف، إلا أنّه لن يُطرحَ للنِّقاشِ قبلَ حلول 2016. ويَحظى الحلفُ الرُّباعي في السلطةِ وعلى رأسِه نداءُ تونس 179 مقعداً من أصلِ 217، ممّا يُعطيه الأغلبيّة في المجلسِ لتمريرِ هذا القانون.

وبينما تبدو المعارضةُ البرلمانيّةُ ضعيفةً ومشتَّتة، إلّا أنَّ منظَّماتِ المجتمَع المدني مُصمِّمَةً على النهوضِ في وجهِ هذا القانون. فتلكَ المنظَّماتُ تعتبِر مشروعَ القانون “مخالفاً للترتيبات الدستوريّة المتعلِّقة بالعدالة الانتقاليّة”، كما أنَّه في نظرِها لا يتبعُ ترتيبَ مراحلِ العمليّة وهو “حقيقة، ثم عدالة، وأخيراً مصالحة”، إضافة إلى أنّه يفتحُ “مجالاً للإفلاتِ من العقابِ ولإعادةِ الاعتِبارِ للفاسِدين”2. ولقد قامَت تظاهراتٌ في أكثرَ من 15 مدينةٍ في مختلفِ مناطقِ تونس ضدَّ مشروعِ القانونِ في أيلول/ سبتمبر. وأطلقَ تجمُّعٌ شبابيٌّ يساريٌّ يطرحُ نفسَه على أنَّه حركةٌ اجتماعيَّةٌ مواطِنةٌ حملةَ “مانيش مسامح” (“لن أسامح”).

كما أنَّ رباعيّةَ الحوارِ الوطنيِّ التي حصلت على جائزة نوبل للسلام 2015 مُنقسِمةٌ على نفسِها فيما يتعلٌّقُ بمشروع القانون. فثلاثةُ من أعضائها يطلُبون سحبَه: الاتحادُ التونسيُّ العامُّ للشغل، الرابطةُ التونسيُّة لحقوق الإنسان، والهيأةُ الوطنيَّة للمحامين. بالمقابل، فإنَّ تنظيمَ أربابِ العمل، أي الاتحادَ التونسيَّ للصناعةِ والتجارة والحِرف، يدعمُ المبادَرةَ الرئاسيَّة مع “لزومِ إدخالِ تعديلاتٍ ضروريَّةٍ”3 ، دونَ تحديدِ هذه التعديلات. وعلى الرغمِ من حملةٍ إعلاميَّة ودعائيَّة كبيرةٍ لدعمِ المشروع4، إلّا أنّه يُلاقي صعوباتٍ من الناحيةِ القانونيَّة.

إدارةٌ أسلوبُها سُلطَوِيٌّ ومافيَوي

كانَت هيأة الحقيقةِ والكرامة وهي مؤسسة دستورية مستقلّة تعنى بالعدالة الانتقاليّة أوَّل من ناهضَ مشروعَ القانون هذا. ومنذ تأسيسِها في بداية 2014 من قِبلِ برلمان يُسيطرُ عليه حزبُ النهضةِ وحلفاؤه، والهيأة تُعاني من موجةِ استقالاتٍ وخلافاتٍ داخليّةٍ حادّة. وظهرَت التوتُّراتُ مع رئاسةِ الجمهوريّة عشيَّةَ تسلُّمِ باجي قائد السبسي تقاليد الرئاسة. وكانت الصراعات السياسية خلال السنوات الفائتة بين الزعيم الدستوري القديم ورئيسة الهيأةِ قد تركت آثارَها. فقَبْلَ تعيينِها، عبَّرت سهام بنصدرين أكثرَ من مرَّة عن معارضَتِها لسياسةِ الحكومةِ المؤقَّتة التي يرأسُها بيجي قائد السيبسي (آذار/ مارس – كانون أوّل/ ديسمبر 2011). فقد انتقدَت بشدَّة ٍنداء تونس منذً انشائه، ووقفَت ضدَّ عودةِ رجالاتِ الحكمِ القديم إلى السلطة. وهي لا تُخفي صداقتَها مع رئيسِ الجمهوريَّة السابق منصف مرزوقي ورئيسِ المجلس التأسيسيّ السابق مصطفى بن جعفر. وكلاهُما في المعارَضةِ منذُ خسارتِهما في الانتخابات عام 2014، وعبّرا عنْ دعمِهما وقاما بزيارات تضامنٍ لهيأةِ الحقيقة والكرامة. يجدرُ بالذكر أنَّ العلاقةَ تعودُ إلى أكثرَ من عقدين، حين كانوا يناضِلون معاً في وجهِ السلطات من أجلِ استِقلالِ الرابطةِ التونسيَّة لحقوقِ الإنسان.

تقولُ سهام بنسدرين في نصٍّ نشرَتهُ على موقعِ الهيأةِ الرسميِّ في 17 آب / أغسطس الماضي : “يشرعِنُ هذا المشروعُ أسلوبَ الإدارةِ السلطوِيِّ والمافيَويِّ ويعيدُ انتاجَه، وكذلك الأمرُ بالنسبةِ لنموذجِ التنميةِ الاقتِصاديِّ حيث المحسوبِيّات والابتِزازات هي محرّكُ الاقتصاد والمُسبِّب للأزمةِ التي نَعيشُها حاليّاً”. ومن ناحيةٍ أخرى، في 22 تموز/ يوليو، كانت قد طلَبت، من لجنة البندقية أن تُقيِّم الجانبَ الدستوريَّ لمشروعِ القانون، لا سيّما فيما يخصُّ دورَ هيأةِ التحقيقِ والكرامة. فأتى تحذيرُ اللجنةِ في تقييمٍ صدرَ في 27 تشرين الأول / أكتوبر من خطرِ “صراعاتٍ يصعب تجاوزُها نتيجةَ تصادمِ كفاءاتٍ بين لجنةٍ المصالحةِ وهيأةِ الحقيقةِ والكرامة، وهذا لن يسارعَ في عمليَّةِ العدالةِ الانتقاليَّة ولن يحسِّنَ من فعاليَّتِها... كما أن الإجراءَ الذي يتمُّ أمامَ لجنةِ المصالحة ٍلا يُمكِّن من تحقيق أحدِ أهدافِ العدالة الانتقاليّة، ألا وهو إصلاحُ المؤسَّسات”. فالتوقُّف عن الملاحقةِ هو على العموم “مخالفٌ لمبدأ الأمنِ القانوني”، كما أنَّ لجنةَ المصالحة “لا تقدِّم الضماناتِ الكافيةِ للاستقلاليَّةِ وفرضِ الحقيقةِ والإعلامِ عنْها”.

دعمٌ حذِرٌ من قِبلِ النهضة

تشكِّل حركةُ النهضةِ الكتلةَ النيابيّة الثانية الممثَّلةَ بـ69 نائب، وذلك منذ دورةِ الانتخابات النيابيَّة في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014، وذلك بعدَ نداء تونس (86 نائب). ويعارضُ مناضِلو النهضة دعمَ إدارةِ الحزب الإسلاميِّ للمشروع. وهذا ما دفعَ راشد الغنوشي، وهو الزعيمُ التاريخيُّ للحزبِ، إلى إدخال بعضِ الحذرٍ في دعمِه. و في مقابلةٍ خاصَّةٍ أجراها على إذاعةِ شمس في 26 آب/ أغسطس الماضي، أعلنَ الغنَوشي: “نحنُ ندعمُ مشروعَ القانون هذا. ولكنَّه يتطلّبُ إصلاحات (...) وحتّى أنَّ الرئيسَ قال لنا أن نعدِّلَه كما يحلو لنا، فهو ليسَ نصّاً مقدَّساً”. فموقفُه النهائي مرهونٌ بموازينِ القوى في المؤتمر القادم للنهضة. وقد تم الاتفاق في 2012 على أن يتم هذا المؤتمر في 2014، إلا أنه تمَّ تأجيلُه إلى عام 2015 على إثرِ استِفتاءٍ جرى في آذار/ مارس 2014. وقد تمَّ تأجيلُ موعدُ انعقادِه عدَّة مرّات، إلا أنَّ مسؤولاً في الحزب أعلنَ في 26 تشرين الأوَّل/ أكتوبر أنَّه يأملُ انعقادَ المؤتمرِ قبلَ آذار / مارس 2016. وحتّى ذلك الوقتِ، ليسَ مستبعَداَ أن يُغيِّرَ مناهِضو التحالف مع نداءِ تونس قواعدَ اللعبة.

ولكنَّ الإرادةَ التي عبَّرَ عنها بعضُ قياديّي النهضة بإصلاحِ النصِّ الأوَّلي في مجلسِ النواب لم تمنعْ القاعدةَ الشابَّة للحزبِ من التعبيرِ عن رفضِها. ودخلَ بعضُ مناضِلي الاتِّحادِ التونسي العامِّ للطلبة مع لافتاتِهم عنوَةً وبعد مشاداتٍ، ليشاركوا بالتظاهرة، فساروا مع مناضِلين يساريّين في مسيرةٍ نُظَّمَت في 12 أيلول/ سبتمبر ضدَّ مشروعِ القانون. وهي سابقةٌ تاريخيَّةٌ لذلك الاتِّحادِ الطلَّابي المقرَّبِ جدّاً من النّهضة.

أشِئنا أم أبيْنا، فإنَّ الجدلَ المطروحَ حولَ مشروعِ القانون يكسِرُ الصمت حولَ التوافُق المستَتِبِّ بينَ نداءِ تونس والنهضة بعدَ الانتخابات. وفرضَ الجدلُ على أحزابِ المعارضة الضعيفة والمشتَّتة إعادةَ النظر وتكثيفَ الحوارات حولَ إمكانيّات التحالفِ والاندِماج. وقد تؤدّي تلكَ “المصالحة الاقتصادية” إلى إعادةِ رسمِ المشهدِ السياسيِّ في مرحلةٍ يتسارعُ فيها تصدّعُ الحزبِ الحاكم نداء تونس.

1إحدى هيئات المجلس الأوربي وهدفه دعم ذهنية القانون الدستوري في المفوضية الأوروبية ومساعدة أية دولة ترغب بإصلاح مؤسساتها وقوانينها بهذا الاتجاه.

2بيان مشترك بتاريخ 24 تموز/ يوليو.

3بيان نشر على صفحة المؤسسة على شبكة الفيسبوك.