ما لا تقولُه أطروحةُ أَسْلَمَةِ التطرُّف

زادَت تفجيراتُ باريسَ الأخيرةُ ( 13 تشرين الثاني/ نوفمبر) من حِدَّة النقاشاتِ وعمقِها في المجال الأكاديمي لدراساتِ الإسلامِ السياسي. في مقالةِ نشرَتها صحيفةَ اللوموند الفرنسيّة في 30-11-2015، يقدِّمُ أستاذُ العلومِ السياسيّة أوليففيه روا Olivier Roy بعضَ المفاتيحِ الخاصّةِ بالمجتمعِ الفرنسي لفهمِ الظاهرةِ الجهاديّةِ في حيّزِها الداخلي، واصفاً إيّاها على أنّها “ظاهرةٌ جيليّةٌ عدميّة”. موقفٌ علميٌّ ينقضُه فرنسوا بورغا François Burgat، الذي يعتبرُ أن لا مجالَ للفصلِ بين الحيثيّات الداخليّة للظاهرةِ الجهاديّة والسياساتِ الخارجيّة للدولِ الغربيّة في المنطقة.

تتَوالى الدِّراساتُ الأكاديميَّةُ لمحاوَلة تحديدِ الأسبابِ - وبالتالي المسؤولِيّات- التي أدَّت إلى المأساةِ الجديدة التي مرَّت بها فرنسا في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وهذا شيءٌ جيِّد. وتحظى إضاءةُ أوليفييه روا Olivier Roy باستِحْسان كبير لما يعتبرُه القُرّاءُ نظرةً جديدةً1. إذ إنَّ أوليفييه روا يشيرُ باقتِضابٍ إلى عدمِ جدوى الموقِفِ الثقافَوي السائدِ (الذي يضعُ المسؤوليَّةَ على عاتقِ الإسلامِ السياسيِّ، “من الأمويّين إلى داعش”، وفقاً لعنوانِ مجلَّة ماريان Marianne في عددها الصادر في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر). كما أنَّه يذهبُ إلى أبعَدَ من ذلك، فهوَ يقترِحُ فرَضيَّة “أسلَمةِ التطرُّف” كبديلٍ نظريِّ للطريق المسدودِ الذي تؤدّي إليه فرَضيَّةُ “تطرُّفِ الإسلام”.

فرضيَّتُه تلك، يسارعُ للاعترافِ بها كلُّ الذين أعياهم البحثُ عن ترياقٍ للوقاية من المواقِفِ الإحرابِيَّةِ والخانقةِ للحرِّيّات التي يؤدّي إليها الخطاب الثقافَوي السائد. إلّا أنَّ الكلفةَ التحليليَّة وبالتالي الاستراتيجيّة لهذه النظرةِ تبدو لي عالِيَةً جدّاً، على الرغم من صدقِ نوايا صاحبِها. فهي بتقديري تعبِّر للمرَّةِ الألفَ عن المرضِ الذي يستفحِلُ فينا منذُ عقود، وهو عدمُ قدرتِنا على بناءِ نظرة عقلانِيَّة عن هذا الإسلامِ الذي نَصِفُهُ بأنَّه سياسيٌّ ثمَّ نسارِعُ بسَحْبِ العنصُرِ السياسيِّ من مُحَفِّزاتِ فاعِليهِ ، تحتَ ذرائعَ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تماماً كما يَفعلُ الموقِفُ الثقافَوِيِّ . وإن بَدَت أطروحَةُ “أسلمَةِ التطرُّف” جذّابة، فإنَّ تشخيصَ الأمراضِ الاجتماعِيَّةِ والذهنِيَّة التي تفسِّرُ تطرُّفَ “جهاديّينا” من جِهةٍ، وتفكيكَ تُهمَةِ العدمِيَّة القديمةِ والمُبهَمَةِ (والتي كانَ الديسنبريّون الروس عُرضَةً لها) من جهةٍ أخرى، يطرحانِ من تساؤلاتٍ أكثرَ ممّا يقترِحان من إجابات.

ذلك أنَّ التطرَّق للقراءة الثقافوية لا يُشكِّل أساسَ أطروحةِ “أسلَمة التطرُّف”. فهي تدين بازدِراءٍ وجهةَ نظرٍ يَحكُم عليها أوليفييه روا على أنَّها “مَوّالٌ عتيق” “عالمُ ثالِثيٌّ”، في حين يُجمِع كثيرون منّا على أنَّها الركيزة الأوَّلية لأيَّة محاوَلَةٍ عِلميَّة لتَناوُلِ الظاهِرة الجهادية.

لا يعني الانتقاصُ من “العالم ثالثيَّة” هذه، سوى رفضَ الحدِّ الأدنى من الربطِ الجدليِّ بين التصرُّفاتِ المُتَطرِّفة التي تتجلّى في فرنسا أو غيرِها، مع... “آلامِ حقبةِ ما بعدَ الاستعمار، تماهي الشبابِ مع القضيَّة الفلسطينية، ورفضِهم للتدخُّلات الغربيّة في الشرق الأوسط وإقصائِهم داخلَ مجتمعٍ فرنسيٍّ عنصُريٍّ ومعادٍ للإسلام” ، وتلكَ تعابيرُ أوليفييه روا عينُها2 . فانطلاقاً من هذه الفرضية، واعتماداً على مواصَفات مُرتَكِبي العملِيّات، ليسَ للتفجيراتِ التي خضَّت بلدَنا أيّةُ علاقةٍ بالأداءِ السيِّءِ لجمهورِيَّتِنا تجاهَ سياساتِ الاندِماج وماضيها الاستِعماري، أو الأخطاءِ السياسيّة التي سبقَ وارتكبَتها في العالم الإسلامي. يدخلُ هذا الموقفُ الفكريُّ لدى أوليفيه روا في سياقٍ يعودُ إلى أكثرَ من خمسٍ وعشرين سنةٍ إلى الوراء، أدّى بصاحبِه إلى إقصاءِ جزءٍ هامٍّ من تجلِّيات المدِّ الإسلامي عن حقلِ التفاعُلاتِ السياسية. ليسَ مغزى كلامي أن أدخُلَ في سجالٍ هنا، بقدر ما أريدُ لفتَ الانتباه إلى محدودِيَّة منظورٍ ليس على هذا القدرِ من التجديد. يتقاسم هذا الموقف مع نظيرِه الثقافوي سبيلاً من شأنِه أن يؤدِّي إلى الهلاك: ألا وهو التنصُّل من مسؤولِيّتنا. وإن تمعَّنّا في ما بينَ السطور، فسنقرأ الآتي: “أقصُفوا ما شئتُم، فلا علاقةَ لتفجيراتِهم لها بقنابلِنا”. فتتشبّثُ شبيبةٌ قد “لفَظًها” المجتمعُ الفرنسيُّ، وأغلبُهم مُسلِمو الإرثِ، بهذه الذريعةِ فقط – كما قد تتشبثُ بحجة أخرى-، لتخرجَ من ضبابيَّة فشلِها الاجتِماعي.

لم يَعيشوا الاستِعمار؟

ثمّةَ حججٌ عديدةٌ تبدو جذابةً لوَمضةٍ في أطروحةِ “أَسلمة التطرف”، وذلك بصرفِ النظرِ عن نُبلِ غاياتِها. ولئن سلَّمنا جدلاً أنَّ “عدداً قليلاً جدّاً” من “جهاديّينا” يثورُ، هل يخوِّلنا ذلك أن نَفترِض مسبَقاً ويَقيناً، غيابَ نفسِ الشعور بالاستياء، حتى لدى أولئك الذين يُدينون أساليبَ الجهاديّين؟ لم يعيشوا الحقبة الاستعمارية. إنَّما هل يجرؤ أحدُنا على تطبيقِ نهجِ التفكير عينِه على ما يعيشُه أحفادُ اليهود أو الأرمنِ الذي لم يعيشوا مأساةَ أجدادِهم؟ تؤكِّد القطيعةُ مع جيلِ أهلِهم أنَّهم منقطِعون عن المُجتَمعات المُسلِمة. ولكن، ما هوَ الأساسُ الذي نعتمدُهُ للتأكّيدِ، وبهذا الثبات، أنَّ القطيعةَ بينَ الأجيالِ تشكِّل قاعدةً مطلَقة؟ وإن تمعّنّا بعيِّناتِ السير الذاتية للمجاهدين في سوريا التي يجمعُها المركزُ الوقائيُّ ضدَّ الانحِرافاتِ التعصُّبِيّة المُرتبِطةِ بالإسلام (Centre de Prévention contre les dérives sectaires liées à l’islam) والذي تُشرِفُ عليه دنيا بوزار، هل نتمهَّل لنُلاحِظَ أنَّ تلكَ العيِّنات لا تأخذُ بعينِ الاعتبارِ سوى العائلاتِ التي طلبَت المساعدةَ طوعِيّاً؟ وأنَّنا لا نعرفُ أدنى شيءٍ عن العائلات الأخرى، أللهمَّ سوى الموقفَ الوحيدَ المقبولُ الإشهارُ به سياسياً، ألا وهوَ الإدانةُ المُطلقةُ للابن المتطرِّف؟ لم أحتَجْ إلى الذهابِ أبعدَ من إيكس-آن-بروفانس Aix-en-Provence لأطَّلع على حالةِ أبٍ لحقَ بابنِه في سوريا، حيثُ ماتَ ابنُه وجُرِحَ هو!

“المَوّال العتيقُ”.. هو نزعُ ما هوَ سياسيٌّ في الآخَر

ليست التفجيرات الأولى في باريس بدايةَ الازدِراءِ لعامِلِ ردَّةِ الفعلِ (وكذلك عاملِ الهويّة) لدى فاعِلي الإسلامِ السياسي. فهذا الازدراءُ يأتي في مَسارٍ تحليليٍّ طويلِ لدى كاتبِ “أَسلَمة التطرُّف”، ارتكبَ خلالَه برأيي أخطاءً عديدةً في توقُّعاتٍ كانَت بديهيَّة. فمنذُ 1992، في كتابِه “فشلُ الإسلام السياسي”، شخَّص كاتبُ “أَسلمة التطرُّف” ما اعتقدَه تجاوزاً لا ملاذَ منه للإسلاميَّين ذوي التأويلات الحرفيَّة (بمعنى آخر من فئة داعش). مما فتحَ حينئذٍ على مرحلةِ “ما بعدَ الإسلامِ السياسي”. في تناغم مع جيل كيبيل (الذي تنبّأَ بُعيْدَ أوليففيه روا بانهيارِ الإسلاميّين المُحتَّم)، عادَ أوليفيه روا في شباط/ فبراير 2011 ليُعلِنَ أنَّ ذلك الجيلَ “ما بعدَ الإسلاميِّ” قد فقدَ نهائيّاً مصداقيتَه الانتِخابِيّة، مُبَرِّراً أنَّ “الصبْغةَ الدينيّة على كلِّ شيء تشيرُ إلى أنَّ ما مِن شيءَ بقيَ دينيّاً”. كما تسرَّع في اعتبارِ الجيلِ “ما بعدِ الإسلاميِّ” بأكملِه غريباً عن الثورات الربيعِيّة: “لماذا سينتخِبُ الناسُ مرشَّحين لم يكنْ لهم وجودٌ إبّانَ الثورة؟”، بقناعةٍ منه أنَّ شبابَ ذلك الجيل “لم يُساهِموا أبداً بالمُظاهِرات”3 ! أتَتْ نتائجُ انتخاباتُ مصرَ وتونس لتنسِف ذلك الإعلانَ المتهوِّر- والذي نُسي بسرعة- عن الهزيمةِ الثانيةِ للفزّاعة الإسلاميّةِ البالِيَة. ولكن، أينَ هيَ نقطةُ الضعفِ التحليلي اليومَ؟ إن أوليفيه روا لا يَرى في “جيلِ القاعِدة” برمَّتِه، على تعدُّد جنسيّات الجهاديّين، وليس فقط في موجَةِ المُجّنَّدين الفرنسيّين الأخيرةِ ، “تعبيراً عن غَضبِ المُسلِمين تجاهَ الاعتداءاتِ الغربِيّة”. لا دخلَ إذن للصراعِ العربيِّ - الإسرائيليِّ في سخطِ العالمِ الإسلاميِّ تجاهَنا! أيُّ تحليلٍ يسمحُ بتأكيداتٍ عَجيبةٍ كهذه؟ ويستخدمُ أوليفييه روا تصنيفاتٍ مَعرِفيَّةٍ عُرضِةً للنقاش(كهامِشِيّةِ العراق)، ليَعزُوَ ظهورَ المسخِ العراقيِّ الأخيرِ للإسلامِ السياسيِّ إلى “هوامشِ العالمِ الإسلامي” وحسب. إذ يَكتُب : " لا يأتي .الأصوليّون من صَلبِ المُجتَمعاتِ العربيّة أو الإسلاميّة، بلْ من هوامِشِها4 في كتابه “فشل الإسلام السياسي”، يكتب: “في حينِ أرادَ اليمينُ واليسارُ على حدٍّ سواء طرحَ الصراعِ الإسرائيليِّ -الفلسطينيِّ على أنَّه محورُ الحراكِ الإسلاميِّ، تشيرُ الأهدافُ وساحاتُ المعاركِ وأماكنُ تجنيدِ الجهاديّينِ، إلى أنَّه لا علاقةَ لهذا بذاك أبداً” .

في صفوف داعش، وبعدَ أنْ أعلنَ انهيارَهم مرَّتين، لم يعدْ بإمكانِ أوليفييه روا أن يقبلَ بوجودِ الإسلاميّين ، ولا حتّى كفاعلين سياسيين. فتفادى المَعضِلة، مُعلِنا أنَّه لا يَرى بينَهم سوى “مَجانين” وأنَّهم، حسب تقديره، “لن يَدوموا أكثرَ من سنةٍ”5. يصعبُ اليومَ عليَّ أن أضعَ الأخوَيْن كواشي اللذين أسْفرا عن وجهةِ نظرٍ مُتماسِكة لدوافِعِهما، في خانَةِ الشُّبّان التائِهين البعيدين عن أيِّ نهجٍ سِياسيٍّ، كما يصعبُ عليَّ أن أرى في كوليبالي (مُرتكِب الهجومِ على المتجرِ اليَهوديِّ) مجرَّدَ فردٍ “لا يَهتمُّ بالصِّراعاتِ العملِيّةِ للعالمِ الإسلاميِّ (فلسطين)”6 . وإن كانَت هذه الفرضِيَّةُ تحفظُ تماسكَ الأطروحةَ الهشَّةَ وتشكِّلُ صِلَةَ الوصلِ مع تنبؤاتِه الفائتةِ، فهي لا تتَجاوَزُ كونَها تضيفُ حجَراً جديداً (حجَر المرضِ الاجتِماعي، وحتّى الذهنِيِّ) إلى بناءٍ ينتهِجُ نهج الأطروحة الثقافوية نفسها التي يدعي أوليففيه روا تجاوزها، إذ إنها تفصُم وبطريقةٍ إرادِيَّة خَطرةٍ بين المسارحَ السياسية الأوروبِّيَّة والشرق أوسَطِية. ومن هنا، فلا عجَبَ أن تتلقّى الأطروحةُ التي تبرِّئُ سياساتِنا الخارجِيَّة من أيَّةِ مَسؤولِيَّة الترحيب، لعذوبةِ الإصغاءِ إليها.

يتجاوزُ النقاشُ بطبيعةِ الحالِ الإطارَ النافلَ “لسجالات الأخصائيّين”. من هنا نخلصُ إلى تقييمٍ مشترَكٍ: مِثلُ أوليفييه روا، أعتبرُ أنَّ ألدَّ أعداءِ داعش هو داعش نفسُه. وأنَّ أفضلَ طريقةٍ لإضعافِه هي أن نكُفَّ عن إعطائهِ الأُبَّهةَ التي يَحظى بها بتصنيفِه العدوَّ العالميَّ الأوَّل. إلّا أنَّ الجدلَ حولَ رحْمِ تطرُّفِ الآخَرِ المسلم -هُنا أم في أمكِنةٍ أخرى-، يبقى في صلبِ القدرات التي قد نتملّكها وقد لا نتملّكها ، تبعاً لتعديلاتٍ قد نقومُ بها وقد لا نقومُ بها، كي نجيبَ على “المَوّال العالمِ ثالثيِّ العتيق”، من أجلِ إعادةِ بناءِ نسيجِنا الوطنيِّ وتجاوزِ المراحلِ الخطرةِ التي سنواجِهُها.

عن الفرنسية، ترحمة هناء جابر

1Le Monde, 30 novembre 2015, “Le Jihadisme est une révolte nihiliste et générationnelle”

2المرجع نفسه

3“انتهى الإسلام السياسيُّ كحلٍّ سياسي” Rue89, janvier 2011 . “لماذا يُصوِّتون لأشخاصٍ لن يكونوا موجودين إبّان الثورة؟ لسنا في إيران 1979 حيث قامَ الإسلامِيّون بالثورة، أو في الجزائر عام 1991 ، حين كانت الجبهةُ الإسلامِيّة للخلاصِ على رأسِ حركةِ المعارَضة. كانَ الإسلاميَّون رُوّاداً. اليوم، لم يَعودوا جزءاً من حَركات المعارَضة”.

4Le Monde, 09 janvier 2015.

5Télérama, 5 novembre 2014.

6Le Monde, 09 janvier 2015.