الحربُ الأهليّة السوريّة على مُفتَرق طرق. لعبَ فيها الفاعلون الإقليميّون الجُدد دَوراً هامّاً. سجَّلت فيها روسيا عودةً مُنتصِرةً إلى الحلَبةِ الدوليَّة في عالمٍ باتَ اليومَ مُتعدِّدَ الأقطاب، في محاولةٍ منها للنّهوض من مُغامرة أفغانِستان الخاسِرة. وهذا يعزِّز بطبيعةِ الحالِ شعبيَّة بوتين في وقتٍ بدأ الروس يُبدون الشكوك في خُصوص جدوى التدخُّل العسكري.
إيران هي المُنتصِر الثاني في هذه العملية. رغمَ أنَّ الأمور لم تكن سهلةً في البداية. فتلك الحرب شكَّلت تهديداً لحليفٍ إقليميِّ شديدِ الأهميَّة بالنسبة لطهران، وكانَ من المُمكنِ أن تؤدَّي إلى تدخُّل عسكريّ غربيّ جديد. وقد دفعَت فرنسا ودولُ الخليج في هذا الاتِّجاه، واتُّهمت نظامَ دمشق بتَجاوزِ بعضِ الخطوط الحمراء: استِعمال الأسلحة الكيميائيّة ضدّ شعبِه. إلّا أنّه سُرعانَ ما تبيَّن أنَّ هدفَ الممالكِ الخليجيَّة كان يذهبُ أبعدَ من النظام السوري، ألا وهو المساسُ بطهران.
سرعانَ ما كانَ للصراعِ السوريِّ تداعياتُه على البلدَين المجاورَين لإيران، العراق ولا سيَّما تركيا. وكانت إيران قد بذلَت جهوداُ كبيرةً في تركيز علاقاتِها مع تركيا وتحويلِها إلى شريكٍ تجاريٍّ كانَ له دورٌ إيجابيٌّ في الالتِفاف حولَ العقوبات الغربيّة. وكان يخشى أن يؤثِّر دعمُ أنقرة للمعارضةِ السوريّة بشدَّة على العلاقات بين البلدين. ممّا وضعَ إيران أمامَ معضلة كبيرة: كيف كانَ من المُمكِن الاستمرارُ بدعمِ النظامِ السوري دونَ إثارةِ حفيظةِ تركيا؟
وأتى انجِرارُ إيران إلى لعبةٍ بهذا التعقيد ليدلَّ على نضجِ السياسةِ الخارجِيّة الإيرانِيّة، إذا تمكَّنت في آنٍ معاً من إقناعِ النظامِ السوريِّ بقبولِ نزعِ الأسلِحة الكيميائيّة وتفادي تدخُّل عسكريّ مباشر. ورغم أنَّ الأرقامَ الرسميّة تشيرُ إلى 161 قتيلٍ في صفوفِ حرّاس الثورة والمستَشارين العسكريّين الإيرانيّين في سوريا، إلّا أنَّنا أبعدُ ما يكونُ عن تدخُّلٍ إيرانيٍّ كثيفٍ في هذا الصراع. لقد تدخَّل حزبُ الله اللبناني كثيراً ليَحلَّ مكانَ القوّات العسكريّة الإيرانيَّة، وليساعدَ النظامَ السوريّ. وأخيراً، عملَت إيران كلَّ ما في وسعِها كي تحولَ دونَ اصطِفاف تركيا مع الممالكِ الخليجية تحتَ قيادةِ المَملكةِ العربيّة السعوديّة. وسعَت طهران أن تبقى على مسافةٍ من الصراعِ الدائرِ بين روسيا وتركيا حينَ كان على أَوجِه، وتفادَت تغذيتَه. وتدخَّلت الشركاتُ الإيرانيّة للالتِفاف حولَ العقوبات ضدَّ روسيا، وذلك لتُصدِّر إلى روسيا، مروراً بإيران، مُنتَجات تركية بتوْسيمات إيرانيّة.
كيف وصلَت إيران إلى هذا النضجِ في السياسة الخارجية؟ كيف استَطاعَ هذا البلد أن يصبِح فاعِلاً هامّاً على صعيدِ المنطقة، بعد أن كانَ في السنواتِ الفائتة نموذَجاً للسياسةِ الاستِفزازيّة، يستعمِل المسرحَ الدوليَّ مِنبَراً لمواقِفِهِ “الثوريّة- الإسلامية”، وفي حالة مُتنامِيةٍ من الانعِزال؟ كيف وُلدت هذه “القوة الناعمة”؟
عائلةٌ تقليديّة
قد يساعدُ الكتاب آقاي سفير (سعادة السفير) الصادر في 2013 عن دارِ نشرنى، في فهمِ ذلك التطوُّر في قلبِ النظامِ ووجهةِ نظرِ وزيرِ الخارجيّة الإيراني. وهذا الكتاب المكوَّن من ثلاثِ مئة صفحة، والذي يَحتوي على مُقابلةٍ أجراها محمَّد مهدي راجي مع جواد ظريف، يقول لنا الكثيرَ عن رجلِ المرحلةِ في النظام، والذي يَحظى بشعبيَّة كبيرةٍ لدى الإصلاحيّين ولدى المحافظين المعتدِلين. بدايةً، وفيما يتعلَّق بحياتِه الشخصيّة: وُلدَ جواد ظريف في عائلةٍ ثريَّةٍ وتقليديَّةٍ جداً. لم يكن مسموحاً فيها سماعُ الموسيقى التي كانت تُعتبَر من المحرَّمات. حتى إذاعةُ الشاه نفسُها كانت مَمنوعة. كان لديهِم راديو مَحفوظاً في خزانةٍ مُغلقة، لا يُستعمَلُ إلّا في شهرِ رمضان، قبلَ موعدِ الأذان بقليل.
تزوَّجَ الرجلِ من صبيَّةٍ اختارَتها له عائلتُه. لم يلتقِ العروسان سوى مرَّة واحدةً قبلَ الزواج، في حفلة دُعاء دينيّة. ومع ذلك، فإن ابنتَه تعزفُ البيانو وابنُه يعزف السنطور1. فالظريف ينحدِر من تلك العائلات الإيرانيّة التقليديّة النموذجيّة، التي تُقاطع وسائلَ الشاه الإعلاميّة المتأثرة بالغرب. أدخلَت أسلَمةُ السلطةِ بعدَ ثورةِ 1979 التلفزيون والراديو إلى المنازل. وبذلك حملَت وسائلُ الإعلام “المؤسلَمة” الحداثةَ إلى الأوساط ِالأكثرَ تقليديَّةً في البلاد.
عملَ ظريف لمدَّة خمسِ وعشرين سنةٍ في وزارةٍ الخارجيّة قبلَ أن يتقاعدَ عامَ 2009 تحتَ حكمِ محمود أحمدي نجاد. عُيِّن وزيرُ خارجيّة عام 2013 في حكومة حسن روحاني. قَضى الجزءَ الأكبر من حياتِه المهنيَّة في الولايات المتَّحِدة الأميركيّة. حبكَ لنفسِه شبكةً واسعةً بين النخَب النيويوركية، عملَ مع أربعَ أمَناءَ عامّين للأمَم المتّحدة. يكِنُّ احتراما كبيراً لكوفي عنان، فقد ساهمَ ظريف عام 2001 مع كوفي عنان ومجموعةٍ من الشخصيّات البارزةِ في “حوار الحضارات” الذي تمَّ نشرُ تقرير عنه2.
ولادة سياسة خارجية إيرانية
نعلمُ من هذا الكتاب أنّ شخصيَّتَين في داخلِ وزارةِ الخارجيّة كان لهما تأثيرٌ في حياتِه: صادق خارازي، سفيرُ إيران الأسبَقِ في فرنسا، وعلى أكبر ولايتي، وزيرُ خارجيّة إيران السابق ومُستشار خاصٌّ لآية الله خامنئي. تعلّمَ مع هاتين الشخصيّتين معنى سياسةٍ خارجيَّة مُستقرة ومتَواصِلة، بعيداً عن الخطابات الاستِفزازيّة على المنابر الدوليّة للسنواتِ الأولى من خدمته.
ولّدت الثورةُ الإيرانية امكانيّة إنشاءِ سياسةٍ خارجيّة مستقِلّة. دخلنا في مجالٍ ليس لدينا فيه أيَّةُ خبرة. تخَّلينا عن خدماتِ كوادرِ النظام السابق وأحلَلْنا مكانَهم أشخاصاً لا يملِكون المفاهيمَ الأساسيَّةِ في الشؤونِ الدبلوماسيّة، ولا حتى يتكَّلمون لغةً أجنبية. (ص.366)
بدأت وزارةُ الخارجيّة تتشكَّلُ شيئاً فشيئاً ، ورأت اللجنةُ الاستراتيجيّة للسياسة الخارجيّة النورَ تحتَ مسؤوليَّة ولايتي. شاركَ فيها كبارُ المسؤولين ومساعدوهم. كانَ دورُهم تحليلُ كلِّ موضوعٍ وتقييمُ نتائج كلِّ خيارٍ من وجهةِ النظرِ الأٌقلِّ حياديَّة ممكنة. ويعودُ القرار النهائيُّ إلى قادةِ الثورة الإسلامية. تكوَّنت الموادُّ الأولى لهذه اللجنةِ من أعمالٍ تعتمِدُ منهجيّةَ أوراقِ العمل: السماح للخبراء بالتحدُّثِ عن موضوعٍ دونَ أن يخضَعوا لتأثيرِ رؤسائهم أو أن يتعرضوا للرقابة، وبتقييمِ مختلَفِ الخيارات، وجدوى تنفيذِها، والمصالحِ التي تخدمُها، ونتائجهِا (ص. 124).
السياسةُ الأميركيَّةُ المُخيبة
نعلمُ من هذه المقابلةِ أهميةَ الأحداثِ الدوليّة على السياسةِ الداخليَّة الإيران. فوصولُ محمود أحمدي نجاد أتى نتيجةَ فشلِ سياسةِ الانفِتاح على الخارجِ التي قادَها محمد خاتمي. فقد ساعدَت إيران الأميركيّين خلالَ حملتِهم في أفغانستان وفي حربِهم ضدَّ القاعدة. ولكنَّ الرئيس جورج بوش صنَّفَ هذا البلد في “مِحوَر الشر”. وهذه نقطةٌ مُهمَّةٌ جدّاً لأنّها تشيرُ إلى عَدائيّة السياسةِ الأميركيّة التي تعزل، داخلَ السلطةِ الإيرانيّة، الذين عملوا باتِّجاهِ سياسةِ انفِتاح. “لنا خِلافاتٌ عميقةٌ مع الأميركيّين والغرب ولكنّنا لسنا أعداءهم” (ص. 358).
كان لنا في الماضي شراكاتٌ مؤقّتةٌ مع الأميركيين، ولكنّنا لم نستطِع أن نبني رؤيةً على المدى البعيد في علاقاتِنا. أن نقولَ لهم إن هناكَ مَشاكلَ فيما بينِنا، ولكنّنا لا نسعى لإسقاطِ أنظمتِكم، ولا نشكِّلُ خطراً عسكريّاً لكم (ص.170).
خيّبت سياسةُ بيل كلينتون أملَ الإيرانيين كثيراً. “كان يتّبع سياسةً متعاوِنةً ظاهريّاً فقط. في نفسِ الوقت، كان نشيطاً جداً ضدَّ إيران في الكونغرس. وتمَّ إصدارُ قانون آماتو- كينيدي3 في عهدِه ولعبَ دوراً كبيراً بمنعِ شركة كونوكو CONOCO من الاستثمار في إيران (ص. 171)”. وفي مرحلةٍ يزدادُ فيها احتمالُ وصولِ هيلاري كلينتون إلى سدَّةِ الحكم، يجدرُ بالذكرِ أنَّ إيران تنظرُ إليها بعين الحذر.
علاقاتٌ حسنةٌ مع بُلدانِ الجِوار
تتَّبِعُ إيران اليومَ سياسةً خارجيّة “حديثة”، بمعنى أنَّها تحاوِلُ أن تربطَ استقرارَها وأمنَها بمصالحَ مجموعة بلدان. وقد أسَّست إيرانُ شبكةَ علاقاتٍ في مجالِ الطاقةِ والتجارةِ والبنى التحتيَّةِ والمواصلات مع جيرانِها المقرَّبين أو مع الفاعِلين الدوليّين الجديدين كالصين والهند.
يربطُ الغازُ بين إيران والباكستان. وتشكِّل العلاقةُ مع الجارةِ السنِّيَّة التي يبلغُ عددُ سكانِّه 180 مليون نسمة أولويَّةً بالنسبة لطهران. فمشروعُ خطِّ أنابيبِ الغازِ بينَ البلدين، الذي بدأَ العملُ على إنشائه عام 2002 والذي كانَ من المفروضِ أن ينتَهي عام 2014 توقَّفَ بقرارٍ أحاديٍّ من جهةِ الباكستان، لأسبابٍ ماليّة. وانتَهى الأمرُ بدخولِ مؤسسة البترول الوطنيّة الصينيّة Chinan National Petroleum Corporation في الاستِثمار، فاستعادَت أشغالَ الشريكِ الباكستاني. من المفروض أن تَنتَهي الأشغال في عام 2017، ممّا يَضمنُ لإيران الحفاظَ على علاقةٍ جيِّدةٍ مع جارٍ ذي وَزن. أساساً، بدأت النتائجُ الأولى بالظهور، فنرى الباكستان تَقفُ على مسافة من المملكة العربية السعودية، حليفِها التاريخي4 .
توطَّدت العلاقاتُ بين طهران وأنقره عن طريقِ العلاقاتِ التجاريَّة المهمَّة، رغمَ الخلافات العميقةِ فيما يتعلّق بالملفِّ السوري. فتركيا السنِّيَّة، والعضوِ في حلفِ الناتو، رفضَت دائماً أن تَصُفَّ مع المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ في صراعِها ضدَّ “الخطر الشيعي”، وهذا مهمٌّ جدّا بالنسبةِ لإيران.
كما أنَّ عقداً جديداً بين طهران وكابول يؤمِّن لأفغانِستان منفذاً إلى المُحيط الهندي دونَ المرور بالباكستان، من خلالِ ممرِّ عبورٍ دوليٍّ باتِّجاهِ ميناء تشابهار. فقد أخذَت الهند تعهُّداً باستِثمارٍ قيمتُه 150 مليون دولار لتطويرِ هذا المرفأ. وهكذا ترتبِط الدولُ الثلاث بمشروعِ نقلٍ إقليمي.
العدوانيّة السعوديّة والاسرائيليّة
نجحت إيران إذاً بالمحافظة على علاقاتِ حسنِ جوار مع مُجملِ بلدان الجوار. وهي علاقاتٌ مستدامَةٌ تعتمِد على علاقاتٍ تجاريّة، في مجالِ الطاقة أو النقل. لا تسعى إيران لضمانِ أمنِها باتِّباعِ نهجٍ عسكري مَحض. هل باستطاعتِنا أن نضعَ التشخيصَ نفسَه فيما يخصُّ السياسةَ الخارجيّة لأعدائه الإقليميّين، المملكةِ العربيّة السعودية واسرائيل؟
تَسعى المملكةُ العربيّةُ السعوديّةٌ اليومَ وبحماس لتَصَدُّرَ العالمِ السّنِّيِّ، بهدفِ التصدّي للخَطرِ الشيعي، وهذا بعدَ أن باتَ واضِحاً أنها لم تَعدْ تَحظى كما من ذي قبلَ بدعمِ حليفِها الأمريكي الذي بقِيَت مُرتبِطةً بسياستِه لفترةٍ طويلة. فسياستُها الإقليميَّة تقتَصٍر كلُّها على هذا الطموح، وهذ ما يضعُ جدواها موضعَ شكٍّ على المدى المتوسط. ما عدا ممالك الخليج، لم تستطِع السعوديّة الحصولَ على دعمِ دولٍ سنِّيَّة أخرى كالباكستان وتركيا في قضيَّتِها. إذ إنَّ خطَّ الأنابيب الإيرانيَّ يبدو أكثرَ أهميَّة بالنسبة لإسلام أباد من الدولارات السعودية. يبدو وكأنَّ الرياض لا تملكُ رؤيةً واضحة بعيدةَ الأمَدِ لسياستِها الخارجيّة.
بعد ثمانيةِ وستّين عاماً من إعلان دولةِ اسرائيل، تبقى العلاقاتُ بين البلدين في مجمَّدة. ولا تضغطُ أوساطُ الأعمالِ ولا البرجوازيّة المحليّة، ذاك، من أجلِ تحسينِ العلاقاتِ مع تل أبيب، والذي يعتمِد أمنُها على المنظومةِ العسكريَّة وحدِها.
لا شكَّ أنَّ إيران أصبحَت قوَّة إقليميَّة بفضلِ (أو بسبَبِ) الأخطاءِ الأميركيَّة، إنّما أيضاً بفضلِ ذكاء ونضوجِ سياستِها الخارجيّة من جهة ثانية. ولا شكَّ أنَّ التهديد الذي يمارسُه الغربُ منذ اثنين وثلاثين عاماً كانَ عنصراً فاعلاً في هذا التطوُّر. على عكسِ ذلك، ألم يؤدِّ الدعمُ الأميركي الأعمى للمملكةِ العربية السعوديّة واسرائيل إلى تصلُّب السياسةِ الخارجيّة لهذين البلدين, #
عن الفرنسية، هناء جابر
1آلة موسيقية إيرانية
2Crossing the Divide, Seton Hall University/Secrétariat des Nations unies, 2001.
3ينص هذا القانون الذي صدق عليه الكونغرس الأميركي في 8 آب 1996 على معاقبة”الدول المارقة“لأنها تدعم الإرهاب الدولي، وتريد الحصول على أسلحة دمار شامل وتعارض عملية السلام في الشرق الأوسط. وتعاقب كل استثمار يزيد عن 20 مليون دولار في مجال الطاقة في إيران وليبيا
4Jean-Luc Racine, « Le Pakistan cherche sa place dans une région tourmentée », Le monde diplomatique, mars 2016