الصحراءُ الغربيَّة: المغربُ يخرجُ عن طورِه تجاهَ الأمَمِ المتَّحدة

بين الولاياتِ المتَّحِدة الأميركيّة وروسيا · يبدو القرار رقم 2285 الذي اعتمدَه مجلس الأمن الدّولي في 26 نيسان/ أبريل 2016، أشبهَ بإنذار أخير: فقد أمهل المجلسُ المغربَ أربعةَ أشهر للسماح بالعودة لموظَّفي الأمم المتَّحدة المدنيين المتواجدين في الصحراء الغربي في إطارِ مهمة الـمينورسو Minurso. لا شكَّ أن قرارَ طرد هؤلاء الموظفين كان قد أتى نتيجةَ إحدى ثوراتِ “الغضب الملكي”، إلا أنَّ ذلك زاد من تعقيدِ علاقة المملكة مع المجتمعِ الوطني، بما فيه مع “أصدقائه” الأميركيين.

لم يتعرَّض قرارٌ من قراراتِ مجلس الأمم المتَّحدة بخصوص الصحراء الغربية للنقاشِ كما هذا القرار. ولم يُثر قرارٌ حفائظَ وانزعاجَ الدول التي ساهمت بالتصويت كما هذا القرار. فقد تبنّى المجلسُ القرارَ رقم 2285 في 29 نيسان / أبريل 2016، بعشرِ أصوات لصالح إقرارِه مقابل صوتين ضدّه ( فينزويلا والباراغوي) وثلاثةِ أصوت امتنعت عن التصويت (روسيا، نيوزلاندا وأنغولا). وساد خلالَ التصويت جوُّ ألمٍ وانزعاج لا يتوافَقان مع جوِّ التواطؤ الذي يسودُ عادةً هذه الهيأة السياسية العاليةَ الشأن. فماذا جرى إذاً في كواليسِ الهيأةِ التنفيذيّة للأمم المتحدة؟

في ربيع كلِّ عام، يتمُّ التمديد لهيأة الأمم المتحدة لتنظيمِ الاستفتاءِ في الصحراء الغربية من قِبَلِ مجلس الأمن (مينورسو Minurso) . الهدف من ذلك إعطاءُ الوقت اللازمِ للمفاوَضات بين طرفَي الصراع للوصولِ إلى حلٍّ سياسي. إلا أنَّ حدثا جديداً ألقى بثقلِه على هذا الإجراءِ الذي تتكرَّر طقوسُه منذ 1991: خلال زيارتِه إلى تندوف في آذار/ مارس الماضي لمخيَّم االلاجئين الصحراويين (في الجنوب الجزائري)، استعمَل السكرتيرُ العامُّ للأمم المتحدة بان كي مون كلمةَ “احتلال” لوصفِ الوضع الحالي في الصحراء الغربية، ممَّا أثار حفيظةَ الرباط وأدّى إلى طردِ خمسة وسبعين موظَّفاً مدنيّاً يعملون في بعثة المينورسو. فأتى النقاشُ بخصوص قرارِ التاسع والعشرين من نسيان / أبريل في إطارِ هذه الأزمة التي سادها من جوٌّ من الغضبِ لدى البعض والضجرِ لدى البعضِ الآخر.

يخضعُ إجراءُ تبني القرارات المتعلِّقة بالصحراء الغربية لتقليدٍ أمميّ توافُقي : فالموظَّفون الأميركيّون هم المعنيّون بصياغةِ مسوَّدةِ النصوص المطروحة. تُطرح بعدَها المسوَّدة على “مجموعةِ أصدقاء الصحراء الغربية” والتي تتضمَّن الولايات المتحدة، روسيا، المملكة المتحدة، فرنسا واسبانيا. يتمُّ نقاشٌ في هذه المجموعة قبلَ اللجوء إلى التصويت، في جوٍّ يسودُه التوافق بشكلٍ عام. واقع الأمر أنَّ موقفَ الولايات المتحدة كان شبيهاً بموقفِها عام 2013 حين اقترحَت توسيع دور بعثةِ المينورسو إلى حقلِ حقوق الإنسان. والموقفُ الأميركيُّ كان اليومَ الأكثرَ قسوةً، لا بل الأكثرَ معادةً للمغرب، ممَّا شكَّلَ دعماً قوياً لموقفِ ِفريق بان كي مون في صراعِه مع المملكةِ على هذ الملفّ: فقد عبَّر الأعضاءُ الخمسة عشر عن “دعمِهم الثابت للجهودِ الحثيثة التي يبذلُها السكرتير العامُّ ومبعوثُه الخاصُّ – كريستوفر روس Christopher Ross - لإيجاد حلٍّ لمسألة الصحراء الغربية”. بالإضافةِ إلى ذلك، يضيف القرارُ أنَّ الفريقين (المغرب وجبهة البوليساريو) مدعوّان لمتابعةِ المفاوضات “تحت إشراف” السكرتير العام، “دون شروطٍ مُسبَقة وبصدقِ نيَّة”. ويذهبُ نصُّ الأمم المتحدة أبعدَ من ذلك، إذ يأخذُ لهجةً أشبهِ بالإنذار الأخير: تحدد الوثيقةُ مهلةَ 1201 يوماً للمغرب ليَسمحَ خلالَها بعودة موظَّفي المينورسو؛ وإن حالَ الأمر غيرَ ذلك، فمجلسُ الأمم “سيدرسُ الوسائلَ الأفضلَ للوصولِ إلى هذا الهدف.”

“الصديق الأميركي” المزاجيُّ

ما أن بدأت تتواردُ المعلوماتُ الأوَّليّةُ حول مضمونِ القرار (الأميركي)، حتّى قام الملك محمَّد السادس برحلةٍ إلى الرياض، حيث تنعقدُ قمَّةُ مجلسِ التعاون الخليجي. وألقى أمامَ “إخوتِه” في الخليج خطاباً معادياً للغربي، بدا مفاجئاً وغامضاً. ففي هذا الخطاب، أكَّد أنَّه “كان دائماً ينسِّقُ، بخصوصِ هذا الصراع المُفتعَل حولَ سيادةِ أراضيه، مع أصدقائه التقليديّين، كالولايات المتّحدة، وفرنسا وإسبانيا”. وفي تلميحٍ بالكادِ كان خفيَّاً إلى “الصديق الأميركي”، أشار أنَّ “المشكلة ما زالت مطروحةً مع مسؤولي الدوائر الذين يتغيَّرون باستمرارٍ في بعض الدول(...). ومع كلِّ تغيير، يتوجَّب بذلُ جهودٍ كبيرة لوضعِ هؤلاء المسؤولين في صورةِ ملفِّ الصحراء المغربية، وإحاطتهم علماً بكلِّ نواحيه وخفاياه”. في الخطابِ نفسِه الذي انتقدَ فيه المغرب كلَّ أولئك الذين يشجِّعون “الربيع العربيَّ”، “ومخطَّطاتِهم المُعادِيّة لاستقرارِنا، التي تتواصلُ ولا تكف. فبالفعلِ، بعد أن تمّ تدميرُ وتفكيكُ عددٍ من بلدان المَشرق العربي، ها هم يتَّجِهون اليوم نحوَ خاصرَتِه الغربيَّة. كان آخرُها المناورات التي يتمُّ تنسيقُها ضدَّ بلدِكم الثاني، المغرب”. عن أيَّةِ “مخطَّطات” يتكلَّم؟ من الذي يتَّجه نحو “الخاصِرة الغربية” للمشرق العربي؟ لم يقدِّم الملك محمَّد السادس أيَّ جوابٍ في الخطابِ الموجَّه لأعضاءِ مجلسِ التعاوُنِ الخليجي.

بعد صدورِ قرارِ مجلس الأُمم المتحَّدة، أضحى ردُّ فعل المغرب أكثرَ وضوحاً. إذ يُشيرُ بيانُ وزارةِ الخارجيَّة في الأوَّل من أيار/ مايو: “تأسَف مملكةُ المغرب أن يقومَ العضوُ في مجلسِ الأمن الذي تقعُ على عاتقِه صياغةُ مشروعِ القرار وعرضِه، بإدخالِ عناصرَ ضغطٍ وقيودٍ وإضعاف، وأن يتصرَّف بطريقةٍ تتنافى مع ذهنيّة التشاركِ التي تربطُه بالمغرب”.

ويشير البيان أنَّ الموقفَ الأميركيَّ “يأخذُ وحيَه” من “عملِ بعض الأوساط المعادِيّة للسِّيادة الوطنيَّة، وتتصرَّفُ من أجلِ زعزعةِ المنطقة”. إلى أيَّةِ “أوساطٍ” يشيرُ البيان؟ هنا أيضاً، لا تُعطي وزارةُ الخارجيَّة أيَّ جواب.

امتِناعٌ روسيٌّ عن التصويت

ولئن لم تشكِّل لهجةُ الإدارة الأميركية مفاجأةً خلالَ النقاش والتصويت على قرارِ التاسع والعشري من نيسان / أبريل 2016، إلّا أنَّ الموقفَ الروسيَّ كان مثيراً للقلق.

أثار التخوُّفُ المُتنامي للسياسةِ الأميركة تجاهَ الممالك العربية حفيظةَ العاهلِ المغربي، الذي قامَ في 14 آذار/ مارس الماضي، بزيارةٍ رسميَّةٍ لروسيا، تمَّ التطرُّق فيه مطوّلاً لموضوعِ الصحراء الغربية. ويعلِّق أحدُ المقربين من الملك : “إنّها مسألةُ توازُن.. نستطيعُ الاعتِمادّ على فرنسا. ولكنَّنا لا نستطيعُ توقّع ردَّ فعلِ الولايات المتَّحدة”. لا بدَّ أن الهدفَ من تلك الزيارةِ كان إيجادَ مضادٍّ لذلك الجانب الغيرِ موثوِق به لدى العم سام، وتنويعَ التحالفاتِ مع الأعضاءِ دائمي العضوية في مجلس الأمن. فقد قامُ العاهلُ بزيارة رسميّة للصين في العاشر من أيار/ مايو.

في 12 نيسان/ أبريل 2016، وقبلَ الإعلانِ عن النسخة الأوَّلِيّة لمشروعِ القرار الأُمَمي، كان للعاهلِ المغربي حديثٌ هاتفيٌّ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفقاً للإعلامِ المغربي، كان الموضوعُ عن طردِ موظَّفي بعثةِ المينورسو المدنيّين وعن مستقبلِ تلك البعثة. إلا أنَّ هذه الاتِّصالات لم تؤدِّ إلى النتائجِ المتوقَّعة: فروسيا اصطفَّت في نهايةِ الأمر إلى جانب نيوزلندا وأنغولا وامتَنعت عن التصويت.

في رأي ابراهيم فاسي- فهري، وهو ابن مستشار الملك والمدير الشاب لإحدى المنظَّمات التي تدافعُ علناً عن مواقفِ المغرب الرسميَّة، من المفروضِ أن يدفعَ قرارُ روسيا، “العضوِ الدائمِ في المجلس”، المغربَ على التساؤل. وهو قرارٌ يثرُ المفاجأة، إذ إنَّ مضمونَ البيانِ المشتركِ بعدَ الزيارةِ الرسميّة لموسكو، أكَّد على تعلُّقِ روسيا بالمعايير الحالِيَّة للمفاوضاتِ بخصوصِ الصحراء الغربية، ويدلُّ على الدعمِ الروسي للمغرب".

الصحراءُ الغربيّة، صلاحيَّةٌ ملكِيَّة مَحِضة

مسألةُ الصحراء الغربية من صلاحيّات الملك محمَد السادس ومحيطِه. يلعبُ مستشاران، فؤاد عالي الهمة وطيِّب فاسي فهري دوراً لا يُستَهان به في تطوِّر هذا الملف، الذي يعتبرُه الإعلامُ الرسميُّ قضيَّةً مقدسة. ويزيد تغيُّب الملك الذي تزدادُ وتيرتُه، ولأسبابٍ صحيَّة على الأرجح، من هيمنةِ هذين المستشارين على هذا الملفّ، وإن بقيَت القراراتُ النهائيَّة بيدِ العاهل. هل كان قرارُ طردِ المغرب للموظَّفين الأممِيّين لبعثة الـمينورسو جزءاً من هذه الهيمنة؟ هل أدَّت تلك الهيمنةُ إلى ازديادِ ريبَةِ المجتمعِ الدولي فيما يخصُّ إدارةَ ملفِّ الصحراء الغربيَّة؟ تتداخلُ وتتنوَّعُ عناصر الإجابة.

يشكِّل قرارُ نقضِ التزامات المغرب وطردِ موظفي المينورسو بقرارٍ أحاديٍّ خطأً يُضعفُ المغربَ ومِصداقيَّةَ الحججِ القانونيّة والسياسيّة. يجدُر التذكير أنَّ هذا القرار كان مسبوقاً بمجموعةٍ من “المظاهرات الشعبية” المفتَعلة والتي كان فيها السكرتير العامُّ للأمم المتحدة موضعَ شتائمَ، حتى من قِبل رسميّين مغربيّين.

ثمَّة جانب آخر يرتبطُ بمشروع الإدارة الذاتيّة الموسَّعة التي أعربَ المغرب عن استعدادِه لإعطائها للصحراويّين في إطار دولةٍ تحتَ السيادة المغربية. وقد اعتبرَت الدول الغربية اقتراحَ الإدارة الذاتية هذا والذي قدَّمهُ المغربُ في عامِ 2007 “جدِّيَّاً” و“موثوقاً”. إلّا أنَّ الهيئات الدولية تجدُ من الصعبِ الدفاع عنه، بسبب ازدواجيَّة الخطابِ الرسمي الذي يغلِّفه. ففي الوقت الذي يعرضُه المغرب كحلٍّ بديل لمطالبِ البوليساريو الاستقلاليَّة، إلا أنَّه في الوقت نفسِه لا ينفكُّ عن الحديثِ عن “اللامركزيَّة الإقليميَّة المتقدِّمة” للمملكة، والتي تشملُ “مناطقَ الجنوبِ الغالية”. بالإضافةِ إلى أنّ منحَ الإدارةِ الذاتيّة للصحراء المغربية يتطلَّبُ مسبقاً وضعَ آليّةٍ ديمقراطيَّة للمؤسَّسات، وهذا ليس من أولويّات النظام في المغرب.

باتَ مشروعُ الإدارةِ الذاتيّة الذي طرحَه المغربُ غائباً من قراراتِ مجلسِ الأمن، في حين أنَّ الاستفتاءَ الذي يخشاهُ المغرب كثيراً ما زالَ موجوداً في الهيئات والوثائقِ الأممِيَّة.

أعطى مشروعُ قرارٍ الأمم ِالمتَّحدة في نسختِه الأولى 90 يوماً فقط للمغرب لإعادةِ الموظَّفين الدوليين. وتدخَّلت فرنسا لتمديدِ هذه المُهلةِ إلى 120 يوماً.

1أعطى مشروعُ قرارٍ الأمم ِالمتَّحدة في نسختِه الأولى 90 يوماً فقط للمغرب لإعادةِ الموظَّفين الدوليين. وتدخَّلت فرنسا لتمديدِ هذه المُهلةِ إلى 120 يوماً.