خَرجت النهضةُ من مؤتمرِها الثاني الذي انعقَدَ بين 20 و22 أيار/ مايو الماضي والذي اعتُبِرَ لحظةً محوريَّة في تاريخِ الحزبِ الإسلاموي التونسي بسببِ إعلانِ الفصل بين نشاطاتِه السياسيَّةِ والدعويَّة. في بعض الأحيان، فسَّرت وسائلُ الإعلامِ الغربيّة هذا الانعِطافُ على أنّه “عبورٌ من الدينيِّ إلى فصل الدين عن الدولة” (sécularisation)، يُظهِرُ رغبةً في الانخِراطِ في اللعبةِ الديموقراطية. مقابلَ هذا التفاؤل الذي تشاركَه عددٌ من المراقبين الأجانب، استُقبِلَ الخبرُ بَتوجُّس في تونس. فالنهضَةُ تبقى مُتَّهمةً بالتستُّر على مشروعِها الحقيقي : أسلَمةِ المجتَمعِ التونسيّ تدريجيّاً، بما يتوافَق مع الركيزةِ الإيديولوجيّة للإخوانِ المسلمين الذين تتحدَّرُ منهم الحركةُ وهو أمرٌ لا يًفوِّت خصومُها فرصةً للتذكير به.
بين هاتين القراءتين، وكلاهما قد يكونُ مبالغاً بهما، يبقى ضروريّاً تقييمُ البعدِ الحقيقيِّ لهذه الإعلانات، بدءاً من فكرةِ القطيعةِ في هويَّةِ النهضةِ وتمَوضعِها السياسيَّ. ثمةَ عواملُ تتَّصلُ بالسياق العام ،إنَّما لا بدَّ أيضاً من الأخذِ بعينِ الاعتِبارِ تفاعُلاتٍ داخليَّةٍ بعيدةِ المدى، عندَ تحليلِ هذا المؤتمر.
تطوُّرٌ في سياقٍ محدَّد
بحسبِ كريم عزوز (Karim Azouz)، وهو عضوٌ في النهضةِ وقنصلٌ عامٌّ سابقٌ في فرنسا : “لا يَسعُنا القولُ أنَّ الحزبَ عرفَ تحوُّلاً مُفاجئاً في الأسابيع الأخيرة! فالأمرُ يتعلَّقُ بعمليَّة نضجٍ تندرِجُ في تاريخِ الحركة”. فيما يخصُّ الانعِطاف المشهود، فالوضعُ بدأ يتطوَّرُ منذُ سنواتٍ وفقاً لكريم عزوز. ويعتبرُ رئيسُ تحريرِ مجلَّةِ “المغرَب” زياد كريشان، أن نقطةَ التحوُّلِ كانت مقتلَ ثمانيَةِ جنودٍ في جبل شعانبي يومَ 29 تموز/ يوليو 2013 ، وذلك خلالَ المواجهاتِ مع الإرهابيّين الذين بَنَوا هناكَ قاعدتَهم. “مذْ ذاك، والسياقُ يتغيَّر، فهمَت النهضةُ أنَّه عليها الانسحابَ من السلطةِ التي كانت تشارِكُ فيها منذ 2011 ومن دستور المجلس الوطني التأسيسي التونسي (la Constitution de l’Assemblée nationale constituante (ANC). )”
تتذكَّرُ زكية حمدة، وهي وجهُ من وجوهِ الأوساط اليساريَّة الناشِطة: “في ذلك الوقت، كانَ اعتِصامُ باردو قد بدأ وكان الجوُّ كريهاً.” قبلَ ذلكَ بأيام، كان النائبُ محمد براهمي قد لاقى مصرعَه أمامَ أعينِ أسرتِه في 25 تموز/ يوليو 2013، ما تمَّ اعتبارُه على الفورِ اغتيالاً سياسيّاً يقفُ وراءَه الإسلامَويّون. وكذلك الأمرُ بالنسبةِ لمصرعِ شكري بلعيد في 6 شباط/ فبراير 2013 من السنة نفسِها، وقد قُتِلَ هوَ الآخرُ بالرصاصِ على بُعدِ أمتارٍ من منزلِه. “في ليلِ 28 يوليو، تعرَّضت الجماهيرُ التي أتَت للمطالبةِ برحيلِ النهضةِ لهجومٍ عنيفٍ شنَّهُ رجالٌ لم نَكن نعرفُ إن كانوا يَنتمون إلى الشرطةِ أو الميليشيات. وتعرَّضَ مسؤولو الأحزابِ المعارِضة للضرب... كان الجوُّ عنيفاً وكان بوسعِ وضعِ البلد أن يتدهوَرَ في أيَّةِ لحظة”.
سياسةُ الخطواتِ الصغيرة
في الآن نفسِه، عرفَت مصرُ قَمعاً غيرَ مسبوقٍ موجَّهٍ ضدَّ الإخوانِ المسلمينَ بَعد انقلابِ 3 تموز/ يوليو 2013 الذي أطاحَ بمحمَّد مرسي. ولم تصدرُ عن السفاراتِ الغربيَّة إدانةٌ فعليَّةٌ لذلك1 . ذلكَ هوَ الحدثُ المؤسِّسُ الذي تركَ أثراً مستداماً في نفسيَّةِ أعضاءِ النهضة، حدثٌ يَحضرُ في خطابِ معظمِهم حينَما يتعلَّقُ الأمرُ بتبريرِ التوجُّهاتِ الاستراتيجيَّة الحاليَّة.
ذلك أنّه بدا أنَّ أوروبا وواشنطن راهنَتا على الإسلام السياسي كعاملِ استِقرارٍ في صبيحةِ الانتِفاضات الأولى لما اتُّفقَ حينذاكَ على تسميَتِه “الربيع العربي”.بيدَ أنه، حين صارَ السياقُ غيرَ مؤاتٍ للنهضة، على الصعيدِ الداخليّ كما على الصعيدِ الخارجي، وجدَ قائدُها راشد غنوشي نفسَه مَدفوعاً إلى البرغماتية. وفي 14 أغسطس 2013، جرى لقاءٌ بينَه وبين الباجي قائد السبسي بعيداً عن الأنظارِ، في باريس .كانت تلكَ البادرةُ الأولى لتغييرٍ سياسيٍّ واستراتيجي. “منذ 2013، يناوِرُ غنوشي كلاعبِ شطرنج”، هذا هو شرحُ صلاح الدين الجورشي، وهو صحافيٌّ كانَ من أوائلِ رفاقِ طريقِ مؤسِّسِ النهضةِ قبلَ أن يبتعدَ عنهُ لاحِقاً. “لم يعد هدفُه تغييرُ قواعدِ اللعبة، كما كانَ الأمرُ في الأساس. الدليلُ هو أنّ كتلةَ النهضة صارَت تحوزُ العددَ الأكبرَ من المقاعدِ منذُ تفكُّكِ نداء تونس وهو الحزبُ الذي كان يتمتّعُ بالأغلبيّةِ البرلمانيَّة منذُ انتخاباتِ 2014.على الرغمِ من ذلك، ليسَ لديهِم إلا وزيرٌ واحدٌ في الحكومة2 ! فالبلدُ في أزمة، وليسَ في نيَّةِ غنوشي أن يتحمَّلَ مسؤوليَّتَها باستِلام السلطة. بعدَ أن اكتوَت يدُه بالتجربةِ المصرية، يبقى حذراً ويمارِسُ سياسةَ الخطوات الصغيرة.”
الانعِتاقُ من الإخوان المسلمين
عرفَت النهضة إقلاعاً انتخابياً قادَها إلى هيكلة تنظيمها. بعد ذلك، أرغمَتها المواجهةُ مع السلطة على الاقترابِ من المجالِ السياسيّ. وفي النهاية، تعرَّضَ تيّارُ الإخوانِ المسلمين لأزماتٍ مختلِفة : أدّت التناقُضات المتراكِمةُ بينَ النموذجِ الأصليِّ للمشروعِ الإسلامويّ الشاملِ لحسنِ البنّا والتشكيلةِ الخاصّة لكلٍّ من البلدانِ التي نبتَ فيها التيّارُ إلى استقلالٍ تدريجيٍّ للفروعِ المحلية.من منظورِ الإخوانِ المصريّين، نجدُ مجالاتِ التبشيرِ والدعوةِ والسياسةِ متشابِكةً في مشروعِ تقويمٍ أخلاقيٍّ للمجتَمَع. ولكن تمَّت مُعالجةُ مسألةِ المشاركةِ في السلطةِ بسبلٍ مختَلِفة وِفقاً للسياقات.
تمَّ تقديمُ هذا المؤتمرِ بصفتِه رُجوعاً إلى “تونسيّة” الحزب، مع استِحضارِ عددٍ من الرموزِ الإصلاحيّة، على غرارِ حبيب بورقيبة والطاهر حداد.في الواقع، طُرح باكراً في تاريخِ الحركةِ سؤالُ العلاقةِ بينَ مصادرِ إلهامِها الإخوانيّةِ والعروبيّةِ والنموذجِ المجتَمعيِّ التونسي.
في بدايةِ الثمانينات، حصلَ انشِقاقٌ داخلَ حركةِ الاتِّجاهِ الإسلاميِّ (الصيغةُ الأولى لحركةِ النهضة) وأفسحَ المجالُ أمامَ تيَّارِ الإسلامَويّين التقدُّمِيين الذي انتَظمَ حولَ اهتِمامٍ مشترَكٍ بالمسألةِ الاجتِماعيَّة وحول الإرثِ الحداثيِّ للمجتمَع التونسي منذ الاستقلال. إن كان الانشقاقُ قد حصلَ آنذاك بين الإسلامويين التقدميّين وغنوشي، انتهى الأمر بغنوشي إلى تقبل تدريجيٍّ لفكرةِ أنه ليس بوسع الحزبِ أن يختِرقَ مجتمعاً تونسيّاً وهو يتجاهلُ خصوصيَّاته.
وَضعَت لحظاتٌ مفصليّة عدّةٌ أوتادَ هذا التطوُّر. كما حصلَ عند وصولِ زين العابدين بن علي إلى السلطة في 1988، وقَبِلَ الحزبُ بيدِ الرئيس الجديدِ المَمدودةِ بعد سنواتٍ قاسيَةٍ من القمعِ والنشاطاتِ السرِّيَّةِ ووقّع على الميثاقِ الوطنيِّ. تبعاً لذلك، تخلّى عن كلِّ مرجعية دينية في قانونِه الداخليِّ، ومن هنا يأتي اعتمادِه اسماً جديداً: “النهضة”. كان العبورُ من حركةٍ دينيّةٍ إلى حزبٍ سياسيٍّ قد أُنجِزَ بهدفِ الحصولِ على الترخيص للمشاركة في الانتِخابات النيابية اللاحقة. تمَّ تطويعُ شعارِ الإخوانِ المسلمين “الإسلامُ هو الحلّ” واستبدالُه بشعارِ “الحريّةُ هي الحلّ”.
لحظةٌ أخرى مفصليّة: في تشرين الثاني/ نوفمبر 2005، كانَ من المفروضِ انعقادُ قمَّةٍ عالميَّةٍ حولَ مجتمعِ المعلومات في تونس، وذلكَ في عزّ الديكتاتورية. وتتذكَّر زكية حمدة: “في تلك المناسبة، تشكَّلت حركةٌ اعتراضيّةٌ وأفضَت إلى ميثاقش 18 تشرين الأوّل / أكتوبر : وهو بيانٌ يجمعُ أحزابَ المعارضةِ الرئيسيَّة في تحالف”. كانت تلك المرَّةَ الأولى التي يتناقشُ فيها الإسلامَوِيّون وأنصارُ الدولة العلمانيّة. تعلّقت المُحادثات بمواضيعَ غدَت لاحقاً في قلبِ سجالاتِ المجلسِ الوطنيِّ التأسيسي التونسيِّ: مكانةُ المرأة، حريَّة المعتقَد، احتِرام الحريّات العامة. وكانَ حضورُ النهضةِ على مِنصَّةِ في صياغة هذه المطالب أصلاً ذا دلالةٍ ، فيما يخصُّ قدرتَها على قبولِ التداوُلِ في ممارساتِها وهامشَ التنازلاتِ المُمكِنة في تفسيرِ العقيدة.
هل نحن أمامَ استراتيجية للاستِمرارِ السياسي أم تغيُّرٍ فكريّ فعليٍّ من جانب غنوشي؟ على الأقلّ، يبقى أنَّ النهضةَ تمثِّلُ اليوم استثناءً ومرجِعاً بين تجاربِ الإسلام السياسي. فالنهضة تبني نموذجها الخاص مع الحرصِ على عدمِ انتِقاد الإخوانِ المصريّين مباشرةً وعدمِ التنكّر للركيزةِ المشتركة. خصوصاً وأنَّ الحزبَ انتَقلَ من المعارضةِ إلى مُمارسةِ السلطة.
ليسَ اتِّجاهاً نحوَ فصلِ الدين عن الدولة، بل تخُّصصاً
يحاولُ زياد كريشان إضفاءَ طابعٍ نسبي على هذا التغيير. “في وسائلِ الإعلامِ الفرنسية،يتمُّ الكلام عن عبور الحزب نحوَ فصل الدين عن الدولة، عن خطوةٍ باتِّجاه العلمانية. لكن وثائق المؤتمر تتحدث فقط عن تخصّص في النشاطات السياسية أو الدعوية، وليس عن الدين. عدا عن الطابعِ العبثيِّ لإعلانِ حزبٍ سياسيٍّ أنه سيتخصَّصُ في السياسية، يجب رؤيةُ هذا التعديلِ بصفتِه فصلٌ تقنيٌّ بسيطٌ بين النشاطاتِ الحزبيّة والدعويّة، وعلى الرغم من ذلك تمَّ اعتبارُه تاريخياً!”
أما عن مسألة ترك الدين للمجتمع المدني، فلا جديد فعلاً هنا: من جهة الوقائع، لم يمارس أياً من كوادر النهضة نشاطاً دعوياً منذ 2012، بما يتوافق مع قانون 2011 حول تنظيم الحياة الحزبية. يقول كريم عزوز : “نحنُ وضعنا فقط قواعد لموقف كنا تبنيناه على نحوٍ تلقائيٍّ ضمنيٍّ. يمكنُ مقارنةُ ذلك بما قامَت به أحزابُ اليسار الأوروبيّة حين نأت بنفسِها عن نشاطاتِها النقابية .خصوصاً وأنّنا لا نُهمِلُ الحيِّزَ الدينيَّ: الدين، على غرارِ المجالاتِ الثقافيّة والعلمِيّة، متروكٌ للمجتمعِ المدني. هو فصلٌ وظيفيٌّ، أوسعُ من الدعوةِ وحدها. ونحن نحافظُ على تجذّرنا الإسلامي !”
ولئن ذكّر كريم عزوز بتلك البداهة، فذلك للإجابةِ على خشيةِ البعض، في كنفِ الحزبِ نفسِه، من أن تغمرَهم على يمينِهم حركةٌ سلفيّةٌ أكثرُ راديكاليّة وجاذبيّة.
بالنسبة للشباب، كلما اندمَجت النهضة في مؤسَّسة النخب الحاكمة للسياسةِ التونسية، كلَّما غدَت أقلَّ جاذبيَّة. يعتقِدُ صلاحُ الدين الجورشي بأنَّ عمليَّة التخصّص هذه بوسعِها على العكسِ السماحُ بإعادةِ السيطرةِ على الجوامع :“قد تكون هذه هي الفرصةُ كي يقترحَ البعضُ أخيراً مشروعاً دينيّاً حقيقياً في هذا البلد، والذي تخلَّت عنه السلطةُ بالكامل.”
مؤتَمرٌ عاصِفٌ
على مدى ثلاثة أيام، تركز ما كان من المفروض أن يكون مؤتمراً حول المضمون الفكري، على ما يبدو على مسائل الإدارة. لم تكن النقاشات هادئة أو توافقية كما يبدو من التقارير التي نشرت لاحقاً. و إن كان هناك من جديد، فهو في هذه النقطة بالتحديد. أخبرنا أحد أعضاء مجلس الشورى، وهو الجهاز التشريعي في الحزب عن هذه الحادثة التي تجري حيثياتها الساعة الخامسة في ليلة 22 أيار (وقد أكدها زياد كريشان) : حصل خلاف على نقطة ما بين الغنوشي وجهاز الحزب فيما يتعلّق بالنظام الداخلي؛ غنوشي طلب هامشاً أوسع من الحركة. كانت المواجهة حادة، وهدد غنوشي بعدم الترشح إلى منصب الرئيس. وصل الغنوشي إلى غايته، وانتهى المشهد بالأحضان. “هذا المشهد بالذات هو الجديد والمهم في المؤتمر، بحسب تحليل زياد كريشان. للمرة الأولى، اضطر الغنوشي إلى طلب الإمساك بزمام السلطة كاملة. وللمرة الأولى، رفض جهاز الحزب، مما يعني أن الخط السياسي الذي بدأ برسمه منذ ثلاث سنوات لا يقنع الجميع”.
الخط السياسي المعنيُّ هو التوافق مع الدولة التونسية، وهذا يؤكد أن النهضة تخلّت نهائياً عن مشروع تغيير الدولة. وظهرت الاختلافات في خطاب الغنوشي الافتتاحي عشية الـ 20 من أيار/ مايو. وحين تكلَّم عن “الشهيد شكري بالعيد”، واستطرد للحديث عن والدته ليعرب عن احترامه لقانون الأحوال الشخصية، واقتبس بطريقة غير مقنعة اسلوب بورقيبة، لم تعرب الصالة عن حماس شديد. بالكاد كان هناك بعض التصفيقات هنا وهناك في ملعب رادس الرياضي . وهذا دليل أن القاعدة لا تتبعه. الصقور والحمائم
يتابع زياد كريشان: “لا شك أن هناك من يحبذ إسلاماً خفيفاً وآخرين ممن يفضلون إسلاماً أكثر صرامة. إلا أن نقطة الخلاف بين صف الحمائم وصف الصقور يكمن في المواقف من الثورة ومكتسباتها. وبعضهم مستعد للعمل على قاعدة توافق إيديولوجي، لا بل سياسي”. وهؤلاء يعملون خلف الكواليس لدفع قانون المصالحة الاقتصادية ف قراطاجة. “بعضهم يعتبرون أنفسهم في صف الثورة، ويرفضون أي شكل من المفاوضة مع النظام القديم”. إلا أن أطياف المعارضة التي عبرت عن رفضها في المؤتمر، انتقدت الغنوشي على أنه يسير في خطى السلطة أكثر مما هو مقبول. ولئن أكّد المؤتمر العاشر أن حزب النهضة قد قبل اللعبة الديمقراطية لما بعد الثورة، إلا أنه من الممكن أن نلاحظ هذا التطوّر في الحيِّز اللغوي. يجب ألّا نقرأ هذا التطوّر من وجهة نظر غربية، كما أنه من الخطأ أن نقرأ التخصُّص على أنّه نوع من العلمنة على الطريقة الفرنسة. لأن هذا التطوُّر أتى على قاعدة الشورى التي يعتبرها حسن البنّا أنها تعبِّر عن إرادة الأمة. يقول كريشان: لم يغيِّر الإسلامَويّون قراءتهم. ما فعلوه، هو تجديد قراء تهم للديمقراطية التي فرض الغرب عليهم الامتثال لها، وذلك وفقاً لمبادئ الفكر الإسلامي. وعليه، استطاعوا أن يقدّموا الديمقراطية إلى قاعدتهم على أنها شكلٌ حديث من الشورى". وهذه نقطة خلاف كبيرة مع السلفيين، منافسيهم المباشرين والذين يعتبرون الديمقراطية كفراً3.
ديمقراطيّة إجراءات
وإن ألزمت الديمقراطيّةُ الإسلامَويين على قبولِ لعبةش التناوب، فزياد كريشان يعتبرُ أن “المفهومَ فارغٌ من أيِّ مضمونٍ ماورائيّ: لا يتضمّن التناوب حقوقَ الإنسان، ولا مفهومَ الفردِ على أنّه موضوعُ التشريع...في الديمقراطيَّة التي تفهمُها حركةُ النهضة، يعني ذلك أنَّه إذا أجمعَ 51% من الناخبين على رجمِ النساء، فهذا يعني أنّه يجبُ جعلُ هذه الممارسةِ قانونيّة”. نحن أمامَ قراءة إجرائيّة وكمِّيَّة للسيرورةِ الديمقراطيّة، تؤكّدُها مواقفُ نوّابِ النهضةِ فييما يخصُّ مشروعَ القانون المتعلِّق بالتساوي في الميراثِ الذي هو قيدُ النقاش. يقول هشام العريِّض، وهو عضوٌ في مجلس الشورى و ابنُ الرئيس الأول السابقِ علي العريض :“في الإسلام، العدالةُ هي صفة الله، لا المساواة. ينصُّ القرآنُ على توزيعٍ للميراثِ بشكلٍ يحقِّقُ العدالةَ وليس المساواة. وأحياناً، تكونُ المساواة جائرة. لذلك لا تَحظى المرأة بحصَّةٍ مساويةٍ لحصَّةِ الرجل”.
وعلية، كيف يمكنُ تقييمُ الواقعِ لما عرضَه الإعلامُ الغربيُّ على أنَّه تغيُّرٌ مفصلي؟ قد يكون ذلكَ إنجازاً هامّاً في الإعلام السياسي، دون أن يكونَ ذا دلالةٍ على الوضعِ الفعليِّ للمخاضِ الدائرِ في نقاشاتِ النهضة. يقولُ بدعابةٍ أحدُ المناضِلين المتمرِّسين تعليقاً على نهايةِ المؤتمر: “إن كنتُ أنا مقتنِعاً أنك مصابٌ بالجرَب، فلن تُقنعَني بالعكس. فالطريقةُ المثلى لحسمِ المسألةِ، هيَ أن تأتي وتقولَ لي: لديَّ خبرٌ سارٌّ، لقد أشفيتُ من الجرَب!”
# عن الفرنسية، ترجمة زكي بيضون