أولئكَ المُلحِدون الذين نكادُ لا نَراهم في العالمِ العربيّ

ِرفضُ استِخدامِ الدينِ أداةً للقمع · رافقَت الثوراتِ العربيّة منذ نهاية العام 2010 ، نقاشاتٌ في الحقلِ العامِّ حولَ مكانةِ الدينِ في المُجتمعِ وحياةِ الفرد. وأعلنَ عددٌ من المُسلمين تَشكُّكَهم في الدين، لا بل أشهرَ بعضُهم إلحادَهم، لا سيَّما على الشبكاتِ الاجتِماعية، رغمَ القمعِ المتَرتِّب على ذلك. وفي ذلك ظاهرةٌ فعليَّةٌ من الصعبِ تقييمُ مدى أهميَّتِها.

DR

بالنّسبةِ لأغلبِ الأوروبيّين، وكذلكَ لبعضِ أبناءِ المغربِ العربيّ، تبدو فكرةُ وجودِ عربٍ غيرِ مسلمينَ ضربًا منَ الخَيال. فإذا كانوا غالبًا ما يجهلون وجودَ أقلِّيّةٍ مَسيحيّةٍ في مِصرَ وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، كيف بهم يصدِّقون أنَّ هُناكَ في العالمِ العربيّ عشرات، لا بل مئاتُ الآلافِ من المُلحِدينَ والكافرينَ والمُشكِّكين.

وفقاً لما يقوله أحمد بن شمسي، المُتحدِّثُ باسمِ هيومن رايتس ووتش Human Rights Watch، “بينما تُقلِّل الأنظمةُ العربيّة من شأنِ الإلحادِ لديها، يعجزُ الغربُ عن تصوُّرِ إمكانيّةِ وجودِ عربيٍّ مُلحِد”. فبالنِّسبةِ للإعلامِ الغربيّ، لا تتعلَّقُ المسألةُ بمعرفةِ ما إذا كان العَربُ مُتديِّنينَ أم لا، بقدرِ ما تتعلَّقُ بمعرفةِ إلى أيِّ مدى يمكنُ لتديُّنِهِم أن يؤثِّرَ على الغرب" (1).

بياناتٌ إحصائيَّةٌ غيرُ وافِيةٍ عنِ الإلحاد

بينَما تثيرُ القضايا المُتعلِّقةُ بالدّينِ شغَفَ الجماهيرَ العربيّة، لا نجدُ الكثيرَ منَ المقالاتِ الّتي تتناولُ الإلحادَ بالمعنى الفعليِّ للكلِمة. يرى طارق، وهو مُحامٍ مغربيّ يعرِّف نفسَهُ بـ“المُلحدِ في أرضِ الإسلام”، أنه “دائمًا ما يتمُّ الخلطُ بين المُلحدينَ والعِلمانيّين، وبشكلٍ متعمَّد ومضلِّل أحيانًا. هذا الخلطُ غالبًا ما يَعمَدُ إليهِ الإسلاميّونَ على وجهِ الخُصوص، من أجلِ إضعافِ الأصواتِ الّتي تُنادي بالفصلِ التامِّ بينَ الدّينِ والدَّولة، تدعِّمُهُ في الخفاءِ الأنظمةُ غيرُ الديمقراطيّة، من أجلِ الأهدافِ ذاتِها: النَّيلُ من مصداقيّةِ الحركاتِ العِلمانيّةِ الدّاعيةِ إلى حياةٍ سياسيّةٍ قائمةٍ على ديمقراطيّةٍ حقيقيّة، وإلى حريّةِ التّعبيرِ والمُعتَقد”.

يواصِلُ طارق قائلاً: “هناكَ نَوعٌ آخرُ منَ الخلطِ متعلِّقٌ بالرِّدَّة. فالمغربيّون يُعتَبرونَ جميعًا مُسلمينَ بالفِطرة، وذلك ينسحبُ على سائرِ العالمِ العربيِّ الإسلاميّ، وبالتّالي فإنَّ تركَ الفردِ لدينِهِ أمرٌ غيرُ مقبولٍ بالنسبة للعَوامِّ والحكّامِ المُسلمين”. في هذا الصَّدد، نلجأ إلى دومينيك آفونDomique Avon، وهو مؤرِّخٌ مُختصٌّ في تاريخ الديانات. في مقالهِ المُفصَّل الصادرِ عن معهدِ التّعدُّديّةِ الدّينيّةِ والإلحاد IPRA ، تحت عنوان “الإلحادُ في البُلدانِ ذاتِ الأغلبيّةِ المسلِمة”، يستشهدُ بأحدِى موادِّ إعلانِ القاهرةِ الّذي أجازَتهُ منظَّمةِ المؤتمرِ الإسلاميّ عامَ 1990: “الإسلامُ هوَ دينُ الفِطرة، ولا يجوزُ ممارسةُ أيِّ لَونٍ منَ الإكراهِ على الإنسان، أو استغلالُ فقرِهِ أو جهلِه لحملِهِ علي تغييرِ دينِهِ إلي دينٍ آخرَ أو إلى الإلحاد”.

كذلك يمكننا أن نَّتساءلَ عن مدى مُلاءَمةِ الكلماتِ المُستخدَمةِ باللّغةِ العربيّةِ للتَّعبيرِ عنِ الإلحاد. المصطلحُ الأكثرَ شيوعًا هو “مُلحد” – مُهرطِق، كافِر، مرتَدّ – وهو مشتقٌّ من فعلِ “لَحَدَ”، أي انحَرَفَ عنِ الطّريقِ الصَّواب، وتخَلّى عن إيمانِه. لكنَّ هذا المصطلحُ لا يُعبِّرُ حقًّا عنِ الإلحاد. من جانبِه، يفضِّلُ دومينيك آفون استخدامَ مصطَلَحِ “المُفَكِّرِ الحُرّ”. فمُصطلح مُلحِد يحملُ في كلِّ الأحوال دلالةً سيئة، مثلَ مُنافِق، مرتدٍّ أو كافر، في نَظرِ غالبيّةِ رجالِ الدِّين الإسلامي، أو جُموعِ المؤمنين. البياناتُ الإحصائيّةُ نادِرة، ويتوجَّب الأخذُ بها بحذر، خاصةً حين تعلِنُ هيئةٌ مصريّةٌ مثلَ دارِ الإفتاء، في ديسمبر 2014، عن وجودِ “866 مُلحدًا” في مِصر. وبشكلٍ عام، تستندُ الدراسات الأكثرُ جديّةً، وفي مقدِّمتِها دراسةُ برايان ويتاكر Brian Whitaker “عربٌ بلا إله، الإلحادُ وحريةُ المُعتقَد في الشَّرقِ الأوسط (CreateSpace Independent Publishing Platform, octobre 2014)، إلى استطلاعِ رأيٍ دوليٍّ WIN/Gallup يعودُ إلى عامِ 2012، أُجرِيَت خلالَهُ مقابلاتٌ مع أكثرَ من خمسينَ ألفَ شخصٍ في 57 دولة. وفقاً لنتائج هذا الاستطلاعُ، فمِن بَينِ كلِّ 502 سعوديٍّ أُجرِيَت معهُم مقابَلات، هناك 5% منهم”ملحِدون عن اقتِناع“(نسبةٌ مساويَةٌ لنتيجة لاستطلاع أجري على الأمريكيين)، و 19%”لا دينيّون“. ومن المُلاحَظ أنَّه، رغمِ العقوباتِ الشديدةِ التي تعاقِبُ الإلحادَ والارتدادَ أو”التشكُّكِ“والتي تصِلُ إلى الإعدام ، ترتفعُ نسبةُ العربِ الّذين يُبدون تشكُّكًا في دينِهم إلى 22%، وهيَ نسبةٌ أعلى من نَظيرتِها في جنوبِ غربِ آسيا (17%)، أو في أمريكا اللّاتينيّة (16%). في لبنانَ وتونسَ، يبدو الوضعُ أكثرَ حرجًا، تَصلُ نسبةِ الـ”لا دينيّينَ" إلى 33% و 22%. وبالنَّظرِ إلى المناخِ الاجتماعيِّ والسياسيِّ الّذي يُشكِّلُ عائقًا أمامَ حرِّيةِ التَّعبير، وفقًا لأحمد بن شمسي، قد يكونُ عددُ الملحدينَ والمُتشَكِّكينَ الفعليُّ أكثرُ ارتفاعًا.

نبذةٌ تاريخيّة

إذا ما استشهَدنا بكتابِ ساره سترومسا Sarah Stroumsa، الأستاذة بالجامعةِ العبريّةِ في القدس، والّذي يحملُ عنوان: “مفكِّرو العصرِ الإسلاميِّ الوسيطِ الأحرار: ابنُ الرّاوندي وابو بكرِ الرّازي، وتأثيرُهُما على الفكرِ الإسلاميّ (الفلسفة الإسلامية، واللاهوت والعلوم)” (Brill, 1999)، يتَّضِحُ لنا أنه منَ المستحيلِ عمليًّا أن نَّجِدَ، في العُصورِ الأولى للإسلامِ، مُفكِّرًا يُجاهرُ صراحةً بإلحادِه. في المقابل، لم يتوانَ حرّاسُ العقيدةِ عن نَّعتِ بعضِ المُنشقّينَ بـ“المُلحِدينَ” و “المُهَرطِقين”، خاصّةً من كانوا يعتَقِدونَ بأنَّ الأنبياءَ لم يكونوا سوى “مُدَّعيي نُبُوّةٍ” أو “دجّالين”. الفارسيان ابنُ الراوندي، الّذي عاشَ ببغداد، وابو بكرِ الرَّازيّ، هما أشهرُ هؤلاءِ المُتمرِّدين.

أبو العلاءِ المعَرّي، الحلبيُّ الّذي عاش في القرنِ الحادي عشر، هوَ أحدُ رموزِ الفكرِ الحُرّ، حيثُ كانَ يَصِفُ دونَ موارَبةٍ مجتمعَهُ بالـ“الفاسدِ والمنحَطّ”. ذلك المجتمعُ الّذي كان يستعين فيه الطُّغاةُ بـ“قضاةٍ مُرتَشين ورجالِ دينٍ بلا ضمير”، كانَ مُنقسِماً آنذاك إلى “مُحتالينَ حاذقينَ وحَمقى متديِّنين”.

عمرُ الخيّام، والّذي كانَ مُعاصِرًا للمعرّي، هو رمزٌ آخرُ للفكرِ الحُرّ. بيدَ أنَّ الإلحادَ الحقيقيَّ لم يظهر في العالَمِ الإسلاميّ سوى في أواخِرِ القرنِ التّاسعِ عشر. يرى صامولي شيلكه Samuli Schielke، عالمُ الأنثروبولوجيا الألمانيُّ والباحِثُ بمركزِ الشَّرقِ الحديثِ ببرلين، أنَّ أوائلُ المفكِّرينَ الأحرار قد ظهروا إبّانَ عصرِ التوسُّعِ الإسلاميّ، في حين أنَّ المَوجةَ الثّانيةَ منَ المُفكِّرينَ الأحرارَ أو المُلحدينَ قد ظهرَت في الِّنصفِ الثّاني منَ القرنِ التّاسعِ عشر. في الواقعِ، دفعَ الاستعمارُ الغربيُّ بعضَ المفكِّرينَ إلى التَّشكيكِ في تقاليدِ ونظامِ مجتمعاتِهِم، الّتي أظهرَت عجزَها عن مقاوَمةِ الغُزاة. كما ظهرَت في الولاياتِ العربيّةِ الخاضعةِ للإمبراطوريّةِ العثمانيّة، بين المسلمين والمسيحيّينَ على حدٍّ سَواء، تياراتٌ قوميّةٌ مناهِضةُ للإكليريكيّةِ وللدّين.

وقد أثارَ أشهرُ مُلحِدي العالمِ العربيّ؛ الكاتبُ والنّاقِدُ الأدبيُّ المصريُّ السَّكَندَريّ إسماعيل أدهم، غضبَ رئيسِ جامعةِ الأزهرِ في بدايةِ ثلاثيناتِ القرنِ الماضي، بعدَ أن شكَّك علانيةً في صحَّةِ الأحاديث. وفي عامِ 1936، نشَرَ رسالتَه “لماذا أنا مُلحِد”، الّتي أثارَت جدلاً عنيفًا. يقولُ فيها: “خرجتُ عنِ الأديانِ وتخَلَّيتُ عن كُلِّ المُعتقَدات، وآمَنتُ بالعِلمِ وحدَهُ وبالمنطِقِ العِلميّ. ولَشَدَّ ما كانت دهشَتي وعَجَبي أنّي وجدتُ نَفسي أسعَدَ حالاً وأكثرَ اطمئنانًا مِن حالتي حينَما كنتُ أغالبُ نفسي للاحتفاظِ بمُعتقَدٍ دينيّ”.

عبدالله القاسمي هو أيضًا شخصيّة مُلحدة مشهورة في العالمِ العربيّ، حيث يعتبرُهُ البعضُ “الأبَ الرُّوحيَّ” لمُلحِدي الخليجِ العربيّ، وهوَ صاحبُ المَقولةِ الشَّهيرة: “إنَّ احتلالَ الآلهةِ لعُقولِنا هوَ أسوأُ أشكالِ الاحتِلال”.

وقبلَ القاسميِّ بفترة قصيرة، كانَ السّوريُّ عبد الرحمنِ الكواكِبيّ، دونَ أن يُشهِرَ إلحادَه، من أوائلِ المُفكِّرينَ العربِ الّذينَ طالَبوا بفصلِ الدِينِ عن الدَّولة، مُتَّهِمينَ المُتديّنينَ التقليديّينَ بـ“فرضِ سلطَتِهِم على مجموعةٍ منَ المؤمنينَ السُّذَّج، مُتَّخذينَ منَ الإسلامِ ذريعةً إلى تفرِقَتِهِم، من أجلِ بثِّ روحِ الإذعانِ والخُضوع”.

وهكذا، كانَ نقدُ المُلحدينَ أو المتَشكِّكينَ يركِّزُ على استخدامِ الحُكّامِ العرَبِ للإسلامِ كأداةٍ لخِدمَةِ أغراضِهم، أكثرَ من تركيزِهِ على مسألةِ وُجودِ الله. اشتدَّ هذا النَّقدُ مع تطوُّرِ الأفكارِ الماركسيّةِ عقِبَ الحربِ العالميّةِ الثّانِية، وقد حَرِصَ الماركسيّونَ العَرب، خاصّةً في جنوبِ اليَمَن، على التَّرويجِ عَلانِيةً للإلحاد، إلّا أنَّهم قدِ اضطُّرّوا إلى التَّصدّي للحملاتِ الإعلاميَّة المناهِضةِ للشُّيوعيّةِ من خلالِ التّأكيدِ على تَوافقِ الإسلامَ التامِّ في جوهَرِه مع الإشتراكية، كما يؤكِّدُ شيلكه.

الإلحادُ، حصيلةُ تفكيرٍ شخصيّ

قد يُفسِّر فشَلِ القوميّينَ العربِ وصُعودِ الإسلامِ الراديكاليِّ، تزامُنِاً مع صعود التّعصُّبِ الأعمى، زيادة أعدادِ العرَبِ الّذين يتركونَ دينَهم. لا شكَّ أن حالةً من الفَزَعِ تسَيطرُ على أغلبِ الشُّعوبِ الإسلاميّةِ من هَولِ الجرائمَ والمذابِحَ التي يرتكبُها تنظيمُ الدَّولةِ الإسلاميّة أو القاعدة، ولكنها مع ذلك لا تتخلّى عن دينِها. وفي الواقع، نادرًا ما يكونُ نبذُ الإرهابِ هوَ السَّببُ الرَّئيسيُّ لإلحادِ بعضِ العرب، كما يؤكِّدُ برايان ويتاكر. فبالنِّسبةِ للعديدِ منهم، تأتي تلكَ الخِياراتُ إثرَ تفكيرٍ شخصيٍّ طويل. ويضيف ويتاكر أنَّ “الطَّريقَ نحوَ عدمِ الإيمانِ يبدأُ بشكوكٍ شخصيّة”، حيث يتساءلونَ في البدايةِ عمّا يبدو لهُم غيرَ منطقيٍّ في النُّصوصِ المُقدَّسة: لماذا جَعلَ اللهُ مصيرَ غيرِ المسلمينَ جَهنَّم، في حينِ أنَّ كثيرًا منهم وَدودون؟ لماذا ترَكَ الله البعض، وهوَ القادرُ على كلِّ شئٍ وعالمُ الغَيب، يَضِلّون الطّريقَ قبلَ أن يُعاقِبَهُم، كما لو كانَ بعيدًا تمامًا عن خياراتِهم؟ لماذا حرَّم الخمر، بينما ينتظرُ المسلمينَ الأتقياءَ في الجنّةِ خمرٌ بلا حِساب؟

من خلالِ مناقشاتِهِ مع مُلحِدين، استنتَج برايان ويتاكر أنَّ العديدينَ قد اتَّجهوا إلى الإلحادِ بعدَ أن كوَّنوا صورةً شديدةَ السلبيّةِ عن الله في الإسلام: “سريعُ الغَضَب، لا عَقلانيّ، ظالِمٌ ويتصرَّفُ في الأساسِ كديكتاتورٍ عربيٍّ أو ربِّ أسرةٍ قديمِ الطِّراز”. من جهته، يأسَفُ الفيلسوف محمَّد أركون لكَونِ الإسلامِ “لم يَعرِفْ جَدليّةِ العِلمانيّة/الدّين. نحنُ نعيشُ في كوكبٍ آخر، نعجز عن سماعِ مفاهيمَ نَجهلُها، فما بالُنا بتطبيقِها. نرفضُ الأمرَ رفضاً تامّاً، نلجأ فيه إلى”لاء“قاطعةٍ ومتعصِّبة، تتَّخذُ من بديهيّة خطابِ الرسولِ غطاءً لها. […] فالجزائريُّونَ احتكَّوا بفكرة العِلمانيّةِ طِوال قرنٍ من الزَّمن، وكذلك بالجمهوريّةً الموحَّدةً الغيرَ قابلةٍ للتقسيمِ ، وبالإعلانُ العالميُّ لحقوقِ الإنسانِ والمواطن... لكنَّهم، ومنذ أن حصلوا على الاستِقلال، يشهدون نفياً لكلِّ هذه الأمور”.

ضيقُ الشَّبابِ ووسائلُ التَّواصلِ الاجتماعيّ

يعربُ محمَّد أركون عن ضيقِ العديدِ من العرب، خاصّةً الشباب منهم، اّلذين لا يجدونَ إجاباتٍ شافيةٍ للأسئلةِ اّلتي يطرحونَها على أنفسِهِم. وقد مكّنَ تزايدُ القنواتِ الفضائيّةِ وإنشاءُ القنواتِ الخاصّةِ في الألفيّةِ الجديدة، بالإضافةِ إلى ظهورِ وسائلَ التّواصلِ الاجتماعيّ منذُ عشرةِ سنوات، العديدَ منَ العربِ المُتشكِّكين أو الّذين اتَّخذوا قرارَهم بالإلحاد، من الخروجِ من عزلتِهِم.

ونظرًا إلى الضُّغوطاتِ والمخاطرَ التي يتعرَّضونَ لها، اتَّجهَ المُلحِدونَ واللّاأدريّونَ(agnostiques) والمشكِّكونَ في العالمِ العربيِّ إلى شبكاتِ التَّواصل الاجتماعي، حيثُ يمكنُهم الحفاظُ على سريّةِ هوياتِهم بشكلٍ أو بآخر. ويشيرُ دومينيك آفون إلى ظهورِ نوعٍ آخرَ منَ الجَهرِ الواضحِ بالإلحادِ على شبَكةِ الإنترنت في السّنواتِ الأخيرة. هم “مواطِنون عاديّونَ وشباب، يبدون رفضَهم للدّينِ والإيمان، وينظِّمون في سبيل ذلكَ”حلقاتٍ لا دينيّة“تتفاوَتُ درجةُ سريّتِها […] ويتداولون كتُبًا مَحظورةً مثل كتاب”من تاريخِ الإلحادِ في الإسلام“. عامَ 2007، كانَ كريم عامر أوَّلَ مُدَوِّنٍ يُحكمُ عليهِ بالسجن لمدَّةِ أربعَ سنواتٍ بتُهمةِ”سَبِّ الإسلام“، ولم يَكن الأخير، إذ واجهَ العديدُ من المِصريّينَ من بعدهِ المصيرَ ذاتَه. وفي مارس 2012، في ظلِّ حُكمِ التّرويكا (والّتي ضمّت أحزابَ النهضةِ والمؤتمرِ من أجلِ الدّيمقراطيّةِ والتّكتُّلِ الدّيمقراطيّ) في تونس، حكمَت مَحكمةُ المهديَّةِ الابتدائيّةِ على جابر مجري وغازي بيجي بالسِّجنِ عدّةَ سنواتٍ بتُهمةِ”بثِّ منشوراتٍ وكتاباتٍ من شأنِها الإخلالُ بالنِّظامِ العامِّ وانتِهاكُ الأخلاق".

لا يملكُ الجميعُ جرأةَ – أو تلقائيّةَ – هذَينِ النّاشِطَينِ اللّذَين أعلنا إلحادَهُما. إذ يتخفّى العديدُ من مُستخدِمي الإنترنت العربِ الّذينَ ترَكوا الإسلامَ خلفَ أسماءٍ مُستعارة، للتَّعبيرِ عن آرائهم بشكلٍ أكثر عنفًا.

الإلحادُ: للرّجالِ فقط؟

ليست المرأةُ غائبةً بلا شكٍ عن هذا الجدلِ شديدِ الحساسِيّة. برأي برايان ويتاكر، في تلك المجتمعاتِ الذُّكوريةِ الأبويّة، حيثُ تحتلُّ المرأةُ مساحةً محدودةً في الحيِّز الدينيّ - إذ نادرًا ما نجدُ داعياتٍ أو قاضيات، إلخ – يمكنُنا أن نحسَبَ أنَّ لديها من الأسبابِ ما يفوقُ الرجلَ للتخلّي عن دينِها. إلا أنَّ النِّظامَ الذُّكوريَ الأبويّ بالذات يمنعُها في أغلب الأحيان من اتِّخاذِ تلكَ الخطوة. ففي المجتمعاتِ العربيّة التَّقليديّة، ينبَغي على المرأةِ أن تكونَ “تقيةً” و “خاضِعة” حتّى يتسنَّى لها الزَّواج، فغالباً ما تَقرُنُ الذهنيَّةُ العامَّةُ الإلحادَ بالفجور، ممّا يَجعلُ تحوُّلَ النِّساءِ نحوَ الإلحادِ أمرًا أكثرَ صعوبة، إن لم يكُن مستحيلاً. ويذهبُ البعضُ إلى حدِّ الاعتقادِ بأنَّ الإلحادَ في العالمِ العربيّ هو “شأنٌ خاصٌّ بالرِّجال”! وهذا خطأ. إذ دفَعَ نفاقُ وكذِبُ بعضِ الأزواج، الّذين لا يتورَّعونَ عن الاستنادِ إلى آياتٍ من القرآنِ لتبريرِ العُنفِ الزَّوجيّ، كثيرًا من النِّساء، وفقًا لويتاكر، إلى إعادةِ التَّفكيرِ في القرآنِ ككُلّ. كما يفقدُ العديدُ من الرِّجالِ كذلِكَ إيمانَهُم بسببِ وضعِ المرأةِ في الإسلام. عام 2009 في المغرب، أطلق عشراتُ النُّشطاءِ الشَّباب “الحركةَ البديلةَ للحُرِّيّاتِ الفرديّة” (ماليMALI ). تُدينُ الحركةُ “القوانينَ القاتِلةَ للحُرِّيّاتِ” في القانونِ الجنائيِّ المغربيّ، وتدافعُ عن حُرِّيّة الاعتقاد، وحرِّيّةِ ممارسةِ الشَّعائرَ الدينيّة، وحرِّيّةِ اختِيارِ التوجُّهِ الجنسيّ، وبصفةٍ أعَمّ، إقامةِ دولةٍ عَلمانيّةٍ في المغرب. وقد جَعَلَت “مالي” شعارَها مقولةَ طه حسين: “وحدهُنَّ النِّساءُ المُحرَّراتُ يلدنَ أجيالاً من الرِّجالِ الأحرار”. لا تُخفي أبرزُ عضوتَينِ بالحرَكةِ زينب الرَّزاوي، الصحفيّة بشارلي ايبدو، وابتسام الأشقر، إلحادَهُما. كما تلعبُ العديدُ منَ النِّساء دورًا هامًّا في مُختلَفِ فروعِ “مجلسِ المسلمينَ السّابقين”، الذي تأسَّسَ في يوليو عام 2013 بمبادرةٍ من وليد الحسيني، وهو لاجئٌ فلسطينيٌّ في فرنسا على خلفيّةِ اعتقالِهِ في قطاعِ غزّة بتهمةِ الكفر. وبالنَّظرِ إلى وزنِ الدّينِ في حياةِ العربِ اليوميّة، يبدو منَ المفهومِ كيفَ أنَّ رفضَ الدّينِ قد يمثِّلُ بالنِّسبةِ للبعضِ إجابةً شافِية.

إلّا أنَّ الأمرَ أبعدُ من مجرَّدِ الخروجِ عنِ الإسلام، وفقًا لويتاكر، فهناكَ مطالبُ متزايدةٌ بتغييراتٍ سياسيّةٍ واجتماعيّة. صارَت الشُّعوبُ العربيّة، سواءً كانت مؤمِنةً أم لا، كسائرِ الشُّعوبِ المُسلِمة، أقلَّ تقبُّلاً لفكرةِ تدخُّلِ الدّينِ في حياةِ الأفرادِ الشَّخصيّة. وقد رأينا كيفَ تمَّ تجريدُ الشُّرطةِ السعوديّةِ “المطاوِعة” من سلطاتِها تدريجيًّا في السَّنواتِ الأخيرة. ولكن في الوقتِ نفسِه، فالنِّظامُ السّعوديّ، والذي تقلقُ مضجَعَهُ انتقاداتُ جزءٍ من الشَّعبِ للسُّلطاتِ الدّينيّة، يصفُ الإلحادَ على أنَّهُ “جريمةٌ إرهابيّةٌّ” عقوبتُها الإعدام. وبهذا، يتَّضِحُ لنا أنَّ الحريّاتِ الفرديّة، والحقَّ في ممارسةِ الشَّعائرَ الدّينيّةِ من عدمِها، وفي نقدِ المؤسّساتِ الدّينيّة، لن تتحقَّق بين ليلةٍ وضحاها في أغلبِ الدوَلِ العربيّة. وبشكلٍ ما، يمثِّلُ المُلحِدون العرب، والّذين يُعانون التَّهميش، طليعةَ حركةٍ أكبرَ من المواطنينَ المُتعَبينَ من رؤيةِ حكّامِهِم يستغلِّونَ الإسلامَ لتدعيمِ أواصرِ نُظُمِهِم الدّيكتاتوريّةِ الاستِبداديّة.