مَنْ يخافُ من الانتِخابات البلَديّة في فلسطين؟

اتَّخذت مَحكمةُ العدل العُليا الفلسطينية، بتاريخِ 8 أيلول/ سبتمبر 2016، قَراراً بتجميدِ الانتِخابات الفلسطينيّة التي كان من المقرَّرِ أن تتمَّ في غزّة والضفّة الغربيّة في الثامن من شهرِ تشرين الأول/ أكتوبر. جزءٌ كبيرٌ من اليسار الفلسطينيِّ الذي يُناضِل في سبيلِ الوِحدةِ الوطنيّةِ والمُصالَحة بين فتح وحماس، يَرى في هذا القرارِ انتِقاصاً في الحقوقِ الديمقراطيّة. عِلماً أنَّ تقويضَ الحياةِ الديمقراطيّة سببُه الأساسيُّ هو الاحتِلال الاسرائيلي، الذي يَحولُ دونَ مُساهَمةِ الفلسطينيّين في القدسِ الشرقيّة في الانتِخابات.

وأخيراً اتَّخذت مَحكمةُ العدلِ العُليا الفلسطينيّة في رام الله قرارَها بتجميدِ الانتِخابات البلديَّة في فلسطين، المُزمَعُ اجراؤها في 8 تشرين الأول/ أكتوبر2016، وذلك استِجابةً لدعوى رفعَها أحدُ المحامين. برَّرَت المَحكمةِ قرارَها هذا بسبَبيْن رئيسيَّين: الأوَّل هو أنَّ هذه الانتِخابات لا تَشمل القدسَ الشرقيَّة باعتِبارِها أرضاً محتلَّة عام 1967، والثاني شطبُ بَعضِ القوائم التابِعة لحَركةِ فتح في قطاعِ غزة.

قبلَ إلقاءِ الضوء على هذا القرار وما تبعَه من رُدودِ أفعالٍ بينَ مؤيِّد ورافِض، لا بدَّ من التطرُّق لمُجرَيات التحضيرات للانتِخابات، لا سيَّما لتشكيلِ القوائم، وما رافقها من إشكاليّاتٍ لها أبعادٌ كثيرة. فقرارُ المَحكمةِ ليسَ مُنعزِلاً عن مُجمَل ما عاشَته فلسطين خلالَ تَشكيلِ القوائم في الأسابيعِ الماضِية.

كانت الدعوَةُ لإجراء هذه الانتِخابات منذُ سنَوات مطلباً لدى العديدِ من القِوى السياسيّة ومؤسَّسات المُجتَمع المدَنِي، التي نادَت بضرورةِ تَجديدِ الشرعيَّة للهيئاتِ المحلِّيَّة والبلدِيّة. لاسيَّما وأنَّ أربعَ سنواتٍ مرَّت على الانتِخابات البلديّة السابقة، التي جرَت على ثلاثِ مراحلَ بين 20/12/2012 و6/1/2013، وتنافسَت فيها قَوائمُ مَحسوبةٌ على حَركةِ فتحَ وبَعضِ قوى اليسار، في حينِ أنَّ حماسَ قاطعتها، مِمّا حالَ دونَ إجرائها في قطاع غزة. يَجدرُ التذكيرُ أنَّ الانتِخابات البلدية التي تمَّت عام 2005 كانت شامِلةً حينذاك، وشهدَت انخِراطاً قويّاً لحركةِ حماس التي حازَت على نسبةٍ عالِية. مِمّا فُسِّرَ يومَها على أنَّه هزيمةٌ لحركةِ فتح.

انتِخاباتٌ أُعلِنت تحتَ رايَةِ الإجماع

في السنواتِ الأخيرة تشكَّلَ نوعٌ من الإجماع بين الفاعلين في الشأنِ العامّ، لا سيَّما لدى مؤسَّسات ِالمُجتَمع المَدنيِّ والعديدِ من القِوى السياسيّةِ على ضَرورةِ أن تَشملَ أيَّةُ عمليَّةٍ انتِخابيّة في فلسطين الضفَّةَ الغربيَّة وقِطاعَ غزَّة مَعاً وفي وقتٍ واحد، وألّا يُصارَ إلى انتِخاباتٍ في مكانٍ دونَ الآخر، وذلك حِفاظاً على الوِحدةِ السياسيَّةِ للأراضي الفلسطينيّة. يَعتمِد هذا الإجماعُ على رفضِ التعاطي مع الانقِسام على أنَّه أمرٌ واقع، لِما في ذلك من خُطورةٍ قانونيَّة.

أثمَرَ هذا الإجماع، بالإضافةِ الى كُلِّ اللقاءاتِ المُتعلِّقة بإجراء المصالحة، عن موافَقةِ حماس العامَ الماضي، على إجراء الانتِخابات البلدية في قطاعِ غزة أيْضا. وبالتالي، زالَت إحدى العوائق، خاصَّة وأنَّ كلَّ طرفٍ – أي فتح وحماس – كانَ يلقي على الآخرِ اللائمةَ في عرقلةِ الانتِخابات، وحرمانِ الشعب الفلسطينيّ من مُمارسةِ حقِّه بانتِخابِ ممَثِّليه في البلديات. ولاقى الوِفاقُ هذا استِحسانا وطنيّا عامّاً على أنَّه خُطوةٌ إيجابيّةٌ نحوَ تَجاوزِ حالةِ الانقِسام في الواقع.

بناءً على ذلك، قرَّرت لجنةُ الانتِخابات المركزيَّة إجراءَ الانتِخابات البلديّة في8 تشرين الثاني/ أكتوبر القادمِ في الضفَّة الغربيّة وغزة. وافَقت على خَوضِ الانتخابات كلُّ القوى السياسيّة، فتح، حماس، قِوى التحالُف الديمقراطي، ما عدا حَركةُ الجهادِ الاسلاميِّ التي قاطعَتها. وبدأت التحضيراتُ لتشكيلِ القوائمِ في كلِّ مُدنِ وبَلدات وقُرى الضفّةِ الغربيّة وقطاعِ غزّة.

نحوَ الخروجِ من حالةِ الاستِقطاب؟

بعدَ نِقاشاتٍ طويلة جَرت بين القوى الديمقراطيّة واليساريّة، تمَّ الاتِّفاق على تشكيلِ قوائمَ جامِعةٍ لهذه القِوى (الجَبهةُ الشعبِيّة، الجبهةُ الديمقراطيّة، حزبُ الشعب، فِدا، حركةُ المبادرةِ الوطنِيَّة، وفصائلُ اخرى)، وحملَت القائمةُ اسمَ “التحالُف الديمقراطيّ”. أتَت هذه المبادرةُ للخروجِ من حالةِ الثنائيّةِ بين فتح وحماس، فَحْواها السياسيُّ أنَّ ثمَةَ اتِّجاهٌ وخيارٌ ثالثٌ لدى الشعبِ الفلسطيني. يَبقى على هذا التيّارِ أن يُبلوِرَ برنامجَه ورؤيتَه من خلالِ خَوْضِ الانتِخابات البلديّة. وأن يأخذَ مسارَهُ في الحياةِ السياسيّة الفلسطينيّة. فالانتِخاباتُ البلديّةُ تجربةٌ سيُبنى عليها لاحِقاً في السياسة، وهي تَموْضعٌ يعكِس حالةَ القِوى السياسيّة في فلسطين - فتحَ وحماسَ والقوى الديمقراطية- كما صرَّحَ بذلك العديدُ من قادةِ التحالفِ الديمقراطي. ورغمَ أنَّ تحالفَ هذه القوى لم يَتكرَّسْ في بعضِ المناطقِ لأسبابٍ كثيرة، إلا أنَّ قوائمَ التحالفِ الديمقراطيِّ كانت حاضرةً في عدَّةِ مَناطق، خاصَّةً في قِطاعِ غزة.

في الضفّة الغربيّة، لم تنهمِك حركةُ حماس بقوّة ووضوحٍ في تشكيلَ قوائمَ بيِّنَةٍ كما حصلَ عام 2005. ولكنّها سعَت إلى التحالُف مع قوى أخرى، بما فيها مع حَركةِ فتح في بعضِ المناطق. ورغمَ أنَّ حماس في الضفَّة الغربيّة لم تتكلّم عن تشكيلِ قوائمَ مُباشرة، على عكسِ قِطاعِ غزة، إلا أنّها حافظَت على مَوقِفٍ مُساندٍ للانتِخابات، ومُندفِع للمشاركةِ فيه.

سادَ اتِّجاهٌ عشائريٌّ وعائليّ في تشكيلِ القوائم، وكان ذلك بارِزاً في معظمِ المناطق. حتّى في رام الله المعروفةِ بتنوُّعِ سكّانِها. فالكثيرون من أهلِ المدينة وافِدون عليها، سواءً من الخارجِ مع قدومِ السلطة (العائدون)، أو من مَناطقِ الضفّة وغزّة للعمل، أو في إطارِ مؤسَّسات السلطة. وأشار تقريرٌ لوكالةِ مَعاً الإخباريّة إن “العشائريّة حضرَت في تشكيلِ قوائمِ الانتِخابات في مَدينةِ رام الله ايضا”. أتى الحضورُ العشائريُّ على حسابِ القوى السياسيَّةِ عُموما، التي اضطرَّت الى التعاطي مع هذا الواقعِ تَحتَ مُسمّى “المُختلَط السياسيّ والعَشائريّ والعائلي”. قد يُعبِّر هذا الامرُ عن ارتِباكٍ لدى القوى السياسية، أو عن فشلِها كما يرى بعضُ الكتّابِ والمحلِّلين، وتمَّ تناقلُه عبرَ شبكاتِ التواصلِ الاجتِماعيِّ بقوَّة. فبدا أنَّنا أمامَ قوائمَ ومُرشَّحين للعائلات، وإن كان ذلك في إطارِ قوائمِ القوى السياسية.

نقاشاتٌ داخليَّة في حَركةِ فتح

منذ البداية، كان لدى حركةِ فتح شعورٌ بعدمِ قدرتِها على السيطرة على جمهورِها، فقد كانَ مِنَ المتوقَّع أن تَنزلَ قوائمُ برئاسةِ وعضويَّة فتحاويّين موازاةً للقائمةِ الرسميَّةِ لفتح، وذلك خلافاً ونَقضاً لقرارِ فتح الرسميِّ بعدمِ نزول قوائمَ لمُناصريها مُقابلَ قوائمِها الرسميَّة .

ولذلك اتَّخذَ محمود عباس، منذُ البداية، قراراً ينصُّ أنَّ كلَّ عضوٍ في فتح يُشكِّلُ قائمةً خارجَ القائمةِ الرسميَّة سيكونُ محلَّ عقوبةٍ داخليَّةٍ في حركة فتح. ورغمَ ذلك، تمَّ تَسجيلُ الكثيرِ من القوائمِ برئاسةِ وعُضويَّةِ فَتحاويّين، علماً أنها تأتي في مَرتبةٍ مُوازِيَةٍ ومُنافسةٍ لقائمةِ فتح الرسمية. وبعدَ قرارِ تجميدِ الانتِخابات بأيَّام، اتَّخذَ عباس قراراً بفصلِ العديدِ من أعضاءِ حركةِ فتح مِمَّن شكَّلوا هذه القوائم، كحالةِ الوزيرِ السابقِ خالد فهد القواسمة من الخليل، وجودي أبو سنينة، وآخرينَ في مَناطق مُتعدِّدة.

تمَّ في عديدٍ من البلداتِ والقرى تشكيلُ قائمةٍ واحدةٍ على أسُسٍ عشائريَّةٍ وسياسيَّة، فيما عُرفَ تحتَ اسمِ “القوائم بالتزكية”، في محاولةٍ لتجاوُزِ عددٍ من الإشكاليّات العشائريّة والحزبيّة. وكان ذلك محلَّ انتِقاد لأنَّه حرمَ المواطنَ من التمتُّع بحقِّه في الترشُّح والانتِخاب، وأفقدَ العملِيَّة الانتِخابيَّة جوهرَها ورسالتَها في تثبيتِ حقِّ المواطِنين بالاختِيارِ وفقاً لبرامِجَ سياسيّة.

تلك هي بعضُ المظاهر التي رافقَت مرحلةَ تسجيلِ القوائم. شعرَت حركةُ فتح في تلكَ المرحلةِ أنَّ النجاحَ حسبَما تريدُ ليسَ مَضموناً، لأنَّ بعضَ أعضاءِ فتح رشَّحوا أنفسَهم في قوائمَ موازِيَةٍ لقوائمها الرسمِيّة، ولأن حماس دخَلت بقوَّةٍ في العمليَّةِ الانتِخابيّة. كما رأى كثيرٌ من المراقِبين أنَّ حماس أخذَت اتِّجاهاً بدعمِ بعضِ القوائم في الضفّة ضِدَّ قائمةِ فتحَ الرسميَّة، أي أنَّ حماس لعبَت دورَ الغائب الحاضر. ممّا أدخلَ حركةَ فتح المسَيْطرةَ على الجهازِ السياسيّ الرسميّ في السلطةِ الفلسطينيّة في حالةِ ارتِباك. وهذا ما شكَّلَ الأساسَ السياسيَّ لما آلت اليه الأمورُ عبرَ الذهاب إلى المَحكمةِ العليا والاحتِكام إلى قرارِها.

الذهابُ إلى المَحكمة بدلاً من الانتِخابات

وفقاً لآراءِ العديدِ من القوى والشخصيات، أتَت سرعةُ رفعِ الدعوة وسرعةُ الحكمِ لتشيرَ أن قرارَ المَحكمة سياسيٌّ ومستغرَبٌ من ناحيَة تبريراتِه. فالتبريرُ الأول، أي عدم إجراء الانتخاباتِ في القدس الشرقية، باطلٌ من حيثُ سابقاتِه، إذ إنَّ دَورات الانتِخابات البلديّة الماضِيَة جرَت والقدسُ خارجَها، ولم يؤدِّ ذلك إلى تجميد العمليّة. أمّا إسقاطُ بعضِ القوائمِ لحركةِ فتحَ في قطاع غزّة، فهو لا يبرِّرُ تجميدَ الانتِخابات على المُستوى الوطنيّ. وهذا ما أشارَت إليه بياناتٌ من مختلَف قوى التحالُف الديمقراطيِّ ومن حماس.

في كلِّ الأحوال، يُعيدُ تجميدُ الانتِخابات إلى الواجٍهةِ قضيَّةَ الانقِسام بين فتح وحماس، أو ما يُسمّيه البعض بين غزّة والضفّة، باعتبارِه من أهمِّ أسسِ تقويضِ الحياةِ الديمقراطيّة في فلسطين. فلم تَشفع كلُّ التصريحات بـأن الانتِخابات البلديّة هذه المرّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزة قد تُشكِّلُ مَدخلاً لتحقيق حلمِ الوحدةِ الوطنية. يبدو أنَّ البناء على ذلكَ كانَ سَطحيّا، وأنّه يَصعبُ إنهاءُ الانقسامِ بين حماسَ وفتحَ بهذه السهولة، فهو انقسامٌ أدّى على مَدى السنوات إلى تَشكُّلِ مصالحَ يَصعبُ لكلِّ طرفٍ أن يتخلّى عنها.

الاحتِلالُ وتقويضُ العمليَّة السياسيّة

الاحتِلال عاملٌ آخر يَجب عدمُ إغفالِه كعائقٍ لأيّةِ عمليّةٍ انتخابيّةٍ ديمقراطيّة جدِّيَّةٍ في فلسطين. رغمَ كلِّ الانتِقاداتِ الموَجَّهة لقرارِ التجميد، فمجرًّدُ طرحِ قضيَّةِ القدس باعتبارِها أرضاً محتلَّة، وأنَّ أيَّةَ عملِيَّةٍ انتخابيَّةٍ تضعُ القدس خارجاً منقوصة حتماً، كانَ طرحاً ضرورياً ومُريحاً للبعض. كما أنَّ مُمارَساتِ الاحتِلال من اعتِقالٍ لأعضاءِ لجانِ الانتِخابات، خاصَّةً من حماس، وصَفَها البعضُ على أنَّها تدخُّلٌ مُباشَر في الانتِخابات، ويؤثِّرُ على مسارِها الديمقراطي.

من الواضحِ أنَّه في ظلِّ الانقِسام، وفي ظلِّ الاحتِلال، يَصعَبُ الحديثُ عن أيَّة عمليَّة ديمقراطيّة فعليَّة في فلسطين، فالانتِخابات ليسَت علميَّةً إجرائيّةً تتحقَّق في صناديقِ الاقتِراع وحسب، بل هي مَشروطةٌ بفضاءٍ سياسيّ- اجتِماعيّ- ثقافيٍّ سليمٍ ومُناسب، يَفترِضُ حريَّةَ الترشُّح والانتِخاب، حريَّةَ الحركة، حريَّةَ طرحِ البرامج والوصولِ الى الناخبين، حريَّةَ الإعلام ...إلخ. هذه الأسُسُ ليست مُتوَفِّرة في فلسطين.