“هل تعرفون صراعًا إقليميًا واحدًا تبنَّت القاهرةُ والرياضُ رؤيةً موحّدةً تجاهَه”؟. يبدو هذا السؤالُ الصادِر عن صحفية في جريدة “الأهرام” اليوميّة المصرية –الرسميّة جدّاً – غريبًا، تمامًا كذلك العداءِ المنصوبِ دون حرجٍ تجاه المملَكة في وسائلِ الإعلام وفي أحاديثِ المسؤولين المصريّين. يكادون ينسَون صورَ الملك عبدالله التي كانت تغطّي جدران شوارعَ العاصمةِ غداةَ انقلاب 3 يوليو 2013 الذي قادَه المشير عبد الفتاح السيسي، لشكرِ الرياض على “مساعدتِها الأخويّة”، أو حتى صفحاتِ الجرائد اليوميّة في البلدين، التي كانت تمتدِحُ في نيسان/ إبريل الماضي الزيارةَ “التاريخيّة” لمصر والتي قام بها وليُّ العهد الملك سلمان. لقد مدَّدَ هذا الأخيرُ زيارتّه لمدَّة أسبوعٍ كامل، وفي سابقةٍ هي الأولى من نوعِها، تحدَّث فيها أمامَ البرلمان، قبلَ أن يلتقي بشيخِ الأزهر والبابا القبطي. بعدَها مباشرةً، وقَّع الطرفان 24 اتفاقيَّة تعاوُنٍ اقتصادي، تتضمَّنُ مشروعاتِ إنشاءِ تجمُّعاتٍ سكنيّة وزراعيّة، وتنميَةِ شبهِ جزيرة سيناء، والعديدَ من المشاريعِ الأخرى، بتكلُفةٍ إجماليَّةٍ تقدَّر بملياراتِ الدولارات.
لم تكَد تمرُّ بِضعةُ أشهرَ حتى تصدَّع هذا الوفاق الرائع. والسببُ في تلك الأزمة القائمة منذ عدّة أشهر يتمثَّلُ في ملفَّين رئيسيّين: الأوَّلُ هو ملفٌّ ثُنائيُّ الجانب، خاصٌ بترسيم الحدود البحريّة بين البلدين. أما الثاني، فهو ملَفٌ إقليمي، يتعلَّقُ بالمأساةِ السوريّة.
استِردادُ تيران وصنافير
يخصُّ الملف الأول مصير جزيرتين متناهيتَي الصغر، وهما تيران وصنافير، واللَّتان ما كان العالم لِيَعلمَ بِوجودِهما لولا أنَّهما تُمثِّلان مدخلَ مَضيق تيران، الذي كانَ إغلاقُه سببًا في الحربِ الإسرائيليّة العربيّة عامَ 1967. في 17 يناير عام 1950، تنازلَ الملكُ ابن سعود عن الجزيرتَين مؤقَّتًا لمصرَ التي كانت تحتَ حُكمِ الملك فاروق آنذاك؛ إذ كانَت إسرائيل قد استولت لتوِّها على صحراء النقب وأنشأت ميناءَ إيلات، وكان الوصولُ إليه يَعتمِد على التحكُّمِ في مضيقِ تيران. لم تكن المملكةُ العربيّة السعوديّة تمتلِك آنذاك الوسائلَ الكافيَة لحمايةِ الجزيرتَين، فعهدَت بهما إلى مصر. كان استِردادُ السعوديّة لتلك الأراضي مادّةَ مناقشاتٍ مستمِرَّة، كما أوضحَ دبلوماسيٌّ مصريٌّ: “لطالَما اعترَفنا بالسيادةِ السعوديّة على هاتيْن الجزيرتَين، ونعمَل على ردِّهما منذ عامِ 1985. وقد توصَّلت المفاوضاتُ إلى اتّفاقٍ أُبرِم عام 2010، إلا أنَّ سقوطَ الرئيس مبارك اضطرَّنا إلى تأجيلِ تنفيذِه”.
أثناء زيارتِه للقاهرة في نيسان/ إبريل 2016، طلبَ الملك سلمان ومعه وليُّ العهد أن تتمَّ تسويةُ هذا الملفِّ بشكلٍ نهائيّ. بالنسبة للسعوديّة، كان الهدفُ تسويَة آخرِ نزاعٍ حدوديّ معلَّقٍ مع جيرانِها، بعد الاتفاقيّات التي وقَّعَتها على مدارِ السنوات السابِقة مع اليمن وممالِك الخليج. كما أنَّه يُعدُّ إشارةً إلى حصولِها على مقابلٍ للتمويلات الضخمة التي تَضخُّها للقاهرة منذ عام 2013. عقبَ الإعلانِ عن استِرجاع ِ الجزيرتَين، أخذَ الإعلامُ السعوديُّ يردِّد على نطاقٍ واسعٍ “فخرَ السعوديين” بالقرار.
اصطدمَت الحكومَة المصريَّةُ، التي حاولَت تمريرَ القرارِ خِلسةً، بموجةِ احتِجاجاتٍ عارمةٍ لم تكن متوَقَّعة. حيث أثارَ قرارُها أكبرَ مظاهراتٍ معاديَةٍ للسلطةِ منذ سقوطِ الرئيس محمد مرسي، كما عارضَ الكثيرُ من مؤيِّدي الرئيس عبد الفتاح السيسي الإقرارَ بسعوديَّة الجزيرتَيْن، ولم يفهَموا ذلك القرارَ الذي يتعارَضُ مع خطابِ النظامِ القوميِّ، لا بَلْ الشوفيني. أنّى له أن يبيعَ جزءًا من أرضِ الوطن بثمنٍ بَخس؟ على إثر ذلك، قامت مجموعةٌ من محاميّي المعارَضة برفعِ قضيّةٍ أمامَ المحاكمَ المصرية، واستَطاعوا الحصول على حكمٍ بوقفِ تنفيذِ الاتفاقيّة، لحينِ اجتِماعِ مجلسِ الدولة في 19 كانون الأول/ ديسمبر1 .أمّا في السعوديّة، فيُنظَر إلى ثَورة الإعلامِ المصريِّ كما إلى قَراراتِ القُضاة بوصفِها أفعالاً موَجَّهةً من الحكومة. يقولُ أحدُ الدبلوماسيّين السعوديّين مُتهكِّمًا: “من يمكنُه أن يصدِّقَ للحظةٍ أنّ الإعلامَ والقضاءَ مستقلّون في مصر؟ لَسْنا في المملَكة المتّحدة”.
ذلك أنَّ هذا النزاع إنّما يتستَّرُ على جانبٍ هامٍّ من الاتفاقيّة، وهو أنَّها حَظيَت بالدعمِ الإسرائيليّ. تمثِّل هاتان الجزيرتان في الواقعِ جزءًا لا يتجزّأُ من مُعاهدةِ السلامِ المصريّة-الإسرائيليّة المُبرَمة عام 1979. ولضَمانِ التزامِ الطرفَين بتنفيذِ المعاهدة، تَنتشِر في شبهِ جَزيرةِ سيناء قوّاتٌ مُتعدِّدةُ الجنسيّات مكوَّنةٌ من ألفَي عُنصر، مِنهم عَشراتُ الأمريكيّين المُتمركزين في مَوقع الرصد المسمّى بـ“3-11” بجزيرة تيران، لمراقبةِ حركة المِلاحة. ستضطرُّ السعوديّة إذًا إلى التعاوُنِ مع الـ “العدوِّ الإسرائيليِّ”، وهو ما يخفيه المسؤولونَ السعوديّونَ بعنايَةٍ حتى اليومِ عن الرأيِ العامِّ السعودي، خشيَةَ استِغلال مُعارضيهم العرب أو الإيرانيّين لتلك المعلومة، التي من شأنِها تأكيدُ الشائعات حَولَ التقارُب السرّيِّ بينَ الرياض وتل أبيب.
تتعلَّق نقطةُ الخلافِ الثانية بين البلدين بالملفِّ السوريّ. لا شكَّ أنّ تلك الخلافاتِ ليست بالجديدة، فمنذ نهاية عام 2011 ،عارَضت السعوديّة نظامَ دمشق جهراً، بينَما أحجَمت القاهرةُ عن إعلانِ موقفِها. إلا أنَّ الموقفَ المصريَّ قد صارَ أكثرَ حسمًا في الشهور الأخيرة، بعدَ خطابِ الرئيس السيسي أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتَّحدة في سبتمبر 2016، والتي أوضَح خلالَها أنه “لا ينبغي هدمُ مؤسَّسات الدولة (السورية)”. بعدَها بيوميْن، كشفَت تصريحاتُ وَزير الخارجيّة المصريّ سامح شكري للصحفيّين المصريين، لأوَّل مرة، عن وجودِ تبايُنٍ في الرؤى مع السعوديّة: “... لا نعتقد ذلك، ولا يوجَد مكانٌ للمنظَّمات الإرهابيّة في سوريا... إن اللجوء إلى حلٍّ سياسيٍّ لا يتطلّبُ وقفَ إطلاق النار”.
في 8 أكتوبر، صوَّتت مصرُ في الأمم المتَّحدة على قرارٍ روسيّ بشأنِ سوريا، لم يَحصل في النهايَة سوى على أربعة أصوات. ولتبريرِ موقفه، أوضح دبلوماسيٌ مصريّ أن بلدَه “صوَّتت كذلك على القرارِ الفرنسي”، الذي رُفض على إثر الفيتو الروسي. وفقًا له، يَحتوي القراران – وهما شديدا التعارُض – على “نقاطٍ إيجابيّة”، خاصةً إعادةِ إحياءِ التفاوض السياسي، والدعوةِ إلى إنهاءِ الصراع في حلب. إلا أنَّ التصويت المصريّ قد قوبل بردٍّ لاذعٍ من المندوب السعوديّ، الذي علَّقَ قائلاً: “من المؤسِف أن يكونَ موقفُ ماليزيا والسنغال أقربَ لنا من مَوقِف مصر”.
قبلَ التصويت ببضعَة أيّام، وكدليلٍ على أنَّ الأزمةَ كانت موجودةً قبلَ الواقِعة، أخبرَت شركةُ آرامكو ARAMCO السعوديةُ مصرَ شفهيًا بوقفِ العقدِ الذي أبرمَته معها في نيسان/ إبريل الماضي خلالَ زيارةِ الملك لمصر، والذي يَقضي بإمدادِها بالموادِّ البتروليّة (700 ألف طن شهريًا). وقد وافَقت الكويت على أن تَحلَّ محلَّ السعودية. وممّا زاد الطينَ بلّة، إعلانُ دمشق في 17 تشرين الأول/ أكتوبر زيارة علي مملوك، رئيسُ مكتب الأمن الوطنيِّ السوريِّ والمقرَّب من بشار الأسد، للقاهرة. كما أنَّ ما نشرته جريدةُ السفير في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر حولَ إرسالِ مصر 18 طيارًا من المروحيّين إلى سوريا لمساعدَة الجيشِ الوطنيّ، قد أعطى مغزىً خاصًّا للتصريحاتِ التي أدلى بها السيسي لصحيفةٍ برتغاليّة يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر، والتي نقلَتها وكالةُ أنباء الشرق الأوسط، مؤكِّدًا على أنّه من الأوْلى دعمَ “الجيوش الوطنيّة”، في ليبيا وسوريا، لمحاربة الإرهاب، بدلاً من الاستِعانة بقوّاتٍ من الأمَم المتَّحدة. ويَرى معلِّقٌ سعوديّ في تلك التصريحات دِفاعًا عن الأنظِمة العسكريّة، التي يُعدُّ النظام المصريَّ أبرزَ نموذجٍ لها.
عقبَ وقف إمداداتِ الموادِّ البتروليّة، صارت النبرة في القاهرة أكثرَ عنفًا؛ حيث ندَّد بعضُ كتّاب الأعمِدة بـ “الطعنةِ السعوديّة في ظهر مصر” ونادوا برفضِ “الضغط َالسعوديّ”، حتى أنّ بعضَهم اقترَحَ التحالفَ مع إيران. أمّا في السعودية، فتعامَل الإعلامُ الرسميُّ مع الموقفِ بتحفُّظ شديد، بعد تَلَقّيه تعليماتٍ بذلك، حتى أنَّ إياد مدني، أمين عام منظمة التعاون الإسلامي، قد أجبِر بحزمٍ على تقديم استقالتِه بعد أن سخِرَ من الرئيس السيسي. إلا أنَّ الغضبَ السعودي قد انعكَس بصورة كبيرة على شبكاتِ التواصلِ الاجتِماعي. فعلى سبيلِ المثال، انتَقد خالد الطويجري، رئيسُ الديوان الملكي السابق، على تويتر (800 ألف متابع) موقِفَ السيسي، بعد أن كان من أشدِّ المؤيِّدين له، مُتسائلاً “أنسيتم مواقفَنا معكم كأشقّاء؟!”. بينما أعرَب الكاتبُ السعوديُّ المعروفُ محمد الرطيان، في تغريدةٍ له على تويتّر (2 مليون متابع)، عن غضبِه الشديدِ قائلاً: “منذ عَهد الفراعنة... لم يَحكم مصر َشخصٌ مَجنونٌ كهذا الرجل”.
وكما هو الحالُ في القاهرة، لم تكن التفسيرات التي قدّمها المسؤولون في الرياض، بشكلٍ غير رسميّ، لذلك التصعيد المصريّ المفاجئ، أقلُّ ضراوة. يقول أحدُهم: “إنَّ ما يمارسُه المصريّون ببساطةٍ هو ابتزازٌ صريح، أملاً في الحصولِ على المزيد من المساعدات”. ويقولُ آخر: “لسنا مجرَّدَ مانحي شيكات بالمليارات. لدينا انطباعٌ بأننا نُلقي بأموالنا في حفرةٍ بلا قاع، وبأنَّ الأموال تذهبُ إلى خزائن القادة العسكريّين، وليسَ إلى الشعب”. كما يتساءلُ باحثٌ آخر بسخريَة عن “أهمية مصر”: “إن دورَ مصر الإقليمي ينحصرُ في امتلاكِها مفاتيحَ معبرِ رفح في غزة”، وفي السماح بمرور الفلسطينيّين من عدمِه، وبالتالي في الاحتفاظ بحقِّها في الإدلاء برأيِها في ذلك الملف. لقد أثار عزوفُ مصر عن المشاركة بشكلٍ كامل في حربِهم على اليمن إحباطَ السعوديّين، إذ كانوا يأمَلون في أن ترسلَ مصرُ بقوّات بريةّ. وقد فسّروا هذا الموقفَ بأنه تقليلٌ من شأن “الخطرِ الإيراني”.
تَكتيكُ المَلك سَلمان
في هذا السياق، قد تُفسَّر أيُّ جملةٍ غيرِ مباشرة أو غامضة بشكلٍ خاطئ. حيث أثارَ تبنّي الكونجرس الأمريكي، في 28 سبتمبر، قانون “العدالة ضدَّ رُعاة الإرهاب” Justice against Sponsors of Terrorism (Jasta) – والذي يتيحُ للمواطنين الأمريكيين ملاحقةَ الدول المتوَرِّطة في أعمالٍ إرهابيّة – بالرغم من تصويتِ باراك أوباما ضدَّه في بادئ الأمر، ارتباكًا حقيقيًّا في الرياض. فتلك الأخيرةُ هي أوَّل عاصمةٍ يستهدفُها القانون، والذي يشيرُ إلى أحداث 11 سبتمبر، المتورِّط فيها 15 سعوديًا. عمليًّا، أمضى وزيرُ الخارجيّة السعودي عادل جبير شهريّ أكتوبر ونوفمبر في الولاياتِ المتّحدة، في محاولةٍ للضغط على أعضاءِ الكونجرس لإثنائهم عن إصدارِ هذا القانون. وإذا كانَ ردُّ فعل السعودية وغيرِها من الدوَل القلقة من هذا “الملحق” من القانونِ الأمريكيِّ حازمًا، فقد تفرَّد ردُّ فعلِ وزيرِ الخارجيّة المصريِّ بـ“اعتدالِه”، إذ أكَّد ببساطةٍ أن القاهرة تتابعُ القرار “باهتمام”.
ويَعزو الجانبُ المصريُّ المشاكلَ القائمةَ بين البلدَين إلى تولّي الملك سلمان زمامَ الحكم. “كان عبدالله يدافعُ عن مواقفَ قائمةٍ على المبادئ، وكان القضاءُ على الإخوان المسلمين على رأسِ أولويّاته وأولويّاتنا. أمّا سلمان، فإنَّ تفكيرَه يقوم بشكلٍ أساسيّ على التكتيك، ومن هنا كان تحالفُه مع الإخوانِ المسلمين في سوريا، وبشكلٍ خاصّ في اليمن. إنّه لا يأخذُ مصالحَنا في عينِ الاعتِبار”، بحسبِ دبلوماسيٍّ مصري.
في الواقع، يسعى الملك سلمان، والذي تؤكِّد العديدُ من المصادر ممانعتَه لانقلاب 3 تموز/ يوليو في حينِه، إلى تكوينِ حلفٍ سنيٍّ كبير، يضمُّ أعضاءَ منظَّمة التعاونِ الإسلاميِّ بشكلٍ أساسيّ. وهو لم يتردَّد في تعزيزِ محوَر الرياض-أنقرة، بالرغم من إدانةِ الرئيسِ التركيِّ لـ“انقلاب 3 يوليو” والقمعِ في مصر كلَّما أتيحَت له الفرصة. بالإضافة إلى أنّه يقبلُ بإمكانيّة إفساحِ مكانٍ، ولو صغير، للإخوان المسلمين في تلكَ الجبهة، وهو ما لا يحتملُه النظام المصري، الذي يشعرُ بالقلق من تَنامي قوّة الإسلام السياسي. وقد أكَّد فَوزُ الإخوان المسلمين في الانتِخابات التشريعيّة الكويتية مخاوِفَ السيسي، وهو الذي لا يفرِّق بين الإخوانِ المسلمين وتنظيمِ القاعدة وتنظيمِ الدولة الإسلاميّة.
مُسلمون “حقيقيّون” وآخرون “مُزيَّفون”
كما تمثِّل الوهابية التي ترفعُ المملكة رايتّها مصدرًا آخرَ للخلاف والقلق في القاهرة. وقد تبنّى المؤتمر الإسلاميُّ المنعقِد في جروزني من 25 إلى 27 آب/ أغسطس، تحتَ رعايَة الرئيس الشيشاني رمزان كاديروف، بيانًا ختاميًّا بعنوان “من هم أهلُ السنّة؟”، استثنى فيه السلفيّين من توصيفِ “أهل السنّة والجماعة”، الأمرُ الذي عُدَّ إدانةً صريحةً للوهابيّة. وفي هجومٍ آخر، ذَكر النصُّ كبرى الجامعات الإسلاميّة التي تُعَدُّ مرجعيّة، دون ذِكر أيَّةِ جامِعة سعوديّة. وقد استغلَّ شيوخُ السعودية ذلك المؤتمر لإدانةِ مشارَكة شيخ الأزهر أحمد الطيِّب. وإذا كان هذا الأخيرُ قد اشتهّر في القاهرة بعدائه للوهابيّين – وهو أيضًا موقفُ بعض الصحف الرسمية، خاصّةً جريدةِ الأهرام اليوميّة – إلا أنّه ظلَّ ممتنِعًا حتّى تلك اللحظة عن اتِّخاذ مواقفَ رسميّة. ولتبرير مواقفِه، ذهب بعضُ المحلِّلين إلى القول بأنّه تمَّ تشجيعُه من بعضِ الأمراء السعوديّين الراغبين في تخليصِ مملكتِهم من قبضة الإسلاميين.
مَهما يكن من أمر، فقد أدانت المؤتمرَ هيئةُ كبار العلماء، وهي أعلى هيئةٍ دينيّة في السعودية. كما شنَّ آخرون هجومًا عنيفًا على مصر على تويتر، من ضمنِهم محمد آل الشيخ، الكاتبُ بجريدة الجزيرة اليوميّة السعوديّة، والذي غرَّد يوم 30 آب/ أغسطس على صفحتِه (160 ألف متابع) قائلاً: “يجب علينا تغييرُ تعاملِنا مع مصر، فوطنُنا أهمّ، ولتذهب مصرُ السيسي إلى الخراب”. وأخيرًا، أصدرَ الأزهرُ بيانًا مرتبِكًا أوضحَ فيه أنّه لا علاقةَ له بتنظيمِ المؤتمرِ ولا بالرئيس رمزان كاديروف. وقد استقبلَ الملك سلمان هذا الأخيرَ يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، ممّا وضعَ نهايةً لتلك المعاركِ العقائديّة.
طلاقٌ غيرُ جائز
هناك عاملٌ آخر يؤثِّر على السياسات الإقليمية للبلدين وبالتالي على علاقاتِهما، إلا أنّه نادرًا ما يُذكر في سياق التوتُّرات المشتعِلة بين الجانبَين؛ وهو انسِحابُ الولايات المتَّحدة من المِنطقة. على إثرِ ذلك الانسِحاب، صارَ المصريّون والسعوديّون كاليَتامى، حيث مَثَّل التحالفُ مع واشنطن، وعلى مدى عقود، المقياسَ لنجاعَة سياستِهما الخارجية. بعد أن فقدَتا بوصلتَهما، حاولت الدولتان في الشهورِ الأخيرة ارتِجال استراتيجيّةٍ إقليميّة، بشكلٍ مُرتبِك أحيانًا، وتنتظِران بقلق، ولكن أيضًا بقليلٍ من الأمل، إدارةَ ترامب الجديدة. لم يُخفِ هذا الأخيرُ إعجابَه بالرئيس السيسي، كما لاقت انتقاداتُه لإيران استِحسان السعوديّة، التي كانت تتوجَّس خيفةً من التقارب الذي حدثَ بين أوباما وإيران على إثر الاتِّفاق حولَ الملفِّ النوَوِيّ الإيراني. ولكن، هل يعيدُ ترامب النظر في الغِياب الأمريكي عن المنطقة؟ من المبكِّر جدًا التنبؤ بهذا، لكن المخاوِف التي أبدَتها إسرائيل2 حولَ المخاطرِ التي تتهدَّد أنصار “الاستِقرار” من جرّاء تدَهْورِ العلاقات بين الرياض والقاهرة – والذي قد يَصبّ في مصلحة إيران – ستؤثِّر على خِيارات واشنطن.
هل تُدرج مصر والسعودية القطيعةَ الحاصِلة بينَهما في جدوَل أعمالِهما؟ “نحن نتعاملُ مع دولتَين كبيرتَين في الشرق الأوسط، واتفاقُهما حَول جميعِ الملفّات هو أقربُ ما يَكون إلى المُستحيل. ولكنَّ المهمَّ هو كيفيَّة إدارةِ تلك الخلافات، وهو أمرٌ ليس بالسهل دائمًا، بالنظر إلى الحساسيّات التي تَكنُّها بعضُ الأطراف تجاهَ بعضِها البعض”، بحسبِ سفيرٍ عربيّ في الرياض. خاصّةً وأنه، كما أكَّد عددٌ من المراقبين في القاهرة، من الصعْب معرفةُ خبايا السياسات التي قرَّرَ السيسي اتباعّها، بشكلٍ منفرد وغير متوقَّع، بعد أن همَّشَ وزارةَ الخارجيّة المصريّة.
من الواضحِ أنَّ الأولويّات في الدولتين ليست دائمًا مشتركة؛ فأكثرُ ما يُقلق مضجعَ المملكة هو التهديد الإيرانيّ، بينما تنغمِس مصرُ في حربٍ ضدَّ الإرهاب في سيناء وليبيا. إلا أنّهما تتقاربان تجاهَ بعضِ المسائل، خاصّةً في عدائهما لثَوراتِ “الربيع العربي” ورغبتِهما في “استِقرار” المنطقة. كما تتعاوَن الدولتان كذلك في الملفِّ الفلسطيني، وتعملان سويًّا لمجابهةِ النفوذِ الإيرانيِّ في القرنِ الأفريقيِّ، خاصّة في اريتريا والسودان، وهو ما ليسَ معروفًا للعامّة. وقد أدَّت تلك المناوَرات التي تقومان بها إلى قَطعِ العلاقاتِ الدبلوماسيةبين الخرطوم وإيران. عن العلاقة بين مصر والسعودية، يقولُ أحد الدبلوماسيّين العرب مبتسمًا: “إنها علاقة زواج قائمة على العقل. كما أنّه زواجٌ كاثوليكي، لا يَجوزُ فيه الطلاق”.
1« Case to determine sovereignty of Tiran and Sanafir islands adjourned to December 19 », Mada Masr, 5 décembre 2016.
2Eran Lerman, « Saudi - Egyptian Tensions : Rifts Within the “Camp of Stability” Serve Iran’s Interests », BESA Center Perspectives n° 384, 4 décembre 2016 ; Ben Caspit, « Saudi-Egypt crisis leaves Israel concerned”, Al-Monitor, 5 décembre 2016. http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2016/12/israel- saudi-arabia- egypt-us-sunni-axis- abdel-fattah- al-sisi.html