السادسة والنصف صباحًا. غادرت ميناء ميتيلان إلى المطار. يحضرني قول الرحّالة السويسري نيكولاس بوفييه : “نحن لا نقوم برحلة، بل الرحلة هي التي تُقيمنا وتُقعدنا”.1 لقد قمت برحلة إنسانية وقانونية، وعدتُ محبطةً بسبب الطريقة التي تستقبل بها أوروبا أولئك الهاربين من جحيم الحرب والاضطهاد. إلا أنَّ التضامن بين المدنيّين الأوروبيّين جعلني أشعر بالانتماء لأوروبا والبحر المتوسط أكثر من أيّ وقتٍ مضى، ومنحني الشجاعة لاستكمال النضال القانوني على الأراضي الفرنسية. سافرتُ في إطار بعثةٍ إنسانيةٍ وقانونيةٍ تحمل اسم “محامون أوروبيون في ليسبوس” وهي مدعومةٌ من مجلس نقابات المحامين الأوروبيين وجمعية المحامين الألمان بالتعاون مع نقابات المحامين باليونان. كان الهدف من البعثة هو العمل على تواجد محامين أوروبيين خلال عام 2016 على جزيرة ليسبوس اليونانية، حيث يوجد مركز التسجيل الوحيد الذي يعمل بكامل طاقته، من أجل مساعدة اللاجئين وتقديم المشورة القانونية لهم، ومراقبة الأوضاع عن كثب.
مخيّماتٌ على أطراف أوروبا
تعدُّ ظروف معيشة واستقبال اللاجئين في “النقاط الساخنة” صعبةً للغاية، خاصّةً في مخيَّم موريا الواقع وسط حقول الزيتون، على بعد أكثر من 5 كيلومترات من مدينة ميتيلان، المدينة الكبرى في جزيرة ليسبوس. وتزداد الأمور تعقيدًا بفعل الكثافة السكانيّة، في مخيمات لا توفر الشروط الصحية. لكن أكثر ما يبعث على التوتُّر وينذر باندلاع حرائق أو ثورات، هو حالة الانتظار اللامتناهي، والغياب التام للوضوح الإداريّ والقانونيّ، وانعدام إمكانيات الاطلاع على القوانين، وحالة اليأس المسيطرة على سكّان تلك المخيَّمات. إدارة اللجوء اليونانية هي التي تضطَّلع بعملية الفرز ما بين المهاجرين. ولقد تلقَّت اليونان من الاتحاد الأوروبي مساعداتٍ ماليّةٍ كبيرة لمواجهة أزمة الهجرة، وكذلك مساعداتٍ بشرية ولوجستية تتمثَّل في تواجد موظفين أوروبيين متخصّصين تابعين لمكتب دعم اللجوء الأوروبي . وبالتالي تتمثّل المهمّة الرئيسية لتلك “النقاط الساخنة” اليوم في تسجيل طلبات اللجوء طبقًا لاتفاقية جنيف، وفي توجيه اللاجئين الى الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي التي يقيم فيها أفراد من عائلتهم (قانون دبلن III)، كما تتمثل بالتمييز ما بين طالبي اللجوء والمهاجرين لأسباب اقتصادية وذلك بهدف ترحيل من لا تنطبق عليه صفة لاجئ، (حسب اتفاقية جنيف) إلى تركيا.
تكمن المشكلة الأولى التي تواجه المهاجرين في حاجز اللغة، وعدم توافر المعلومات الضرورية والمساعدة القانونية. إذ يجهل الكثير منهم وجود الاتفاقية المُبرَمة بين أوروبا وتركيا، وليس بمقدورهم اللجوء إلى مترجم. كما ينتظر بعضهم لعدة أشهر قبل أن يتمكنوا من تسجيل طلبات اللجوء الخاصّة بهم. هذا بالإضافة إلى وجود تفرقة بناءً على الجنسية، إذ تُسجَّل طلباتُ السوريين قبل العراقيين، كما تواجه بعض المجموعات التجاهُل التام، كاللاجئين الفلسطينيين الفارّين من سوريا. وبصفةٍ عامّة، يُعقَد اللقاء مع أحد موظَّفي إدارة اللجوء باللغة الإنجليزية أو اليونانية، ولا يوجد سوى ثلاثة أو أربعة مترجمين باللغتين العربية والفارسية لكلِّ لاجئي المخيم. عادةً ما يكون ممثلو إدارة اللجوء في المخيم، من الموظفات الفتيات غير المتمرِّسات، وهن اللواتي يقمن بالمقابلات. في إحدى الحالات، اضطَّررتُ للتدخُّل بنفسي عدّة مرّات من أجل تطبيق احترام مبدأ السرية (الشبابيك والأبواب كانت مفتوحة على مصراعيها...). كما كانت المقاطعات عديدة بسبب الهاتف الأرضي، وغالبًا ما يكون المترجم الناطق باللغة الفرنسية على الهاتف غير قادر على فهم كل ما يرد من حديث على لسان اللاجئين، وبالتالي كيف يمكن لأشخاص تعرَّضوا للاضطهاد والملاحقة أن يتحدثوا بسهولةٍ في سياقٍ كهذا يتميز بغياب الروح المهنية. يعيش أكثر من 5000 شخص من 45 جنسية مختلفة في مخيَّم موريا الذي لا يمكنه بالأساس أن يستوعب أكثر من 1000 شخص. كما أنَّ عدد الأشخاص المعرضين للخطر أكثر من غيرهم بحكم وضعهم كبيرٌ جدًا، وهم متروكون فريسةً للمهرِّبين وتجّار البشر (قوادين ومجرمين...). أكثر ضحايا هذا النظام غير الإنسانيّ (بسبب غلق الحدود ومعسكرات الفرز) الذي وضعه الاتحاد الأوروبي هم الأطفال وذويهم، بالإضافة إلى القصَّر غير المصحوبين بذويهم. وفقًا لتقريرٍ أصدره المجلس الأوروبي في يونيو 2016، يمثِّل الأطفال ثلث المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يعبرون الحدود بين تركيا واليونان: “تقدر بثلاثمائة ألف طفل أعداد الأطفال الذين عبروا البحر المتوسط، في 2015 وحدها، هربًا من ويلات الحرب وبحثًا عن اللجوء بعد أن راعهم العنف والموت”.
وقفة تأمل في حقِّ أساسيّ
هنالك مصادر قانونية عدّة فيما يخصُّ حقِّ اللجوء. فقد قامت فرنسا بإدخال المصدر القانوني القائم على اتفاقية جنيف لعام 1951 الى التشريع الفرنسيّ، إلى جانب المصدر الدستوريّ (وهو قليلاً ما يُستخدَم). حيث نُقِلت تلك القواعد إلى القانون الفرنسيّ وتم تقنينها، ونجدها في الكتاب رقم VII من قانون دخول وإقامة الأجانب وحق اللجوء. كما يشير ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي – الذي لم يجر بعد تطبيقه في القانون الفرنسي والأوروبي – إلى الحقِّ في اللجوء (المادة 18) والحماية في حالة الطرد أو الترحيل أو التسليم (مادة 19). كما اتجهت الدول المنضمّة إلى الاتحاد الأوروبي إلى مزيدٍ من التكامل الاقتصاديّ والسياسيّ والقانونيّ، ما قادها بالتالي إلى قبول التنسيق القانونيّ في مجالات القانون التجاريّ وقانون الأسرة وحقِّ اللّجوء. وفيما يتعلَّق باللّجوء، صدرت تعليماتٌ أو قوانين أوروبية جديدة تلزم الدول الأعضاء بتكييف تشريعاتها وتعديلها إن لم تكن مطابقة لتلك المعايير القانونية الأوروبية. وقد صوَّتت فرنسا على سبيل المثال على قانون تعديل حق اللجوء في 29 يوليو/تموز 2015.
في أعقاب الربيع العربيّ، والصراع السوريّ والعراقيّ، وتدفُّق اللاجئين وهجمات 2015، شهدت أوروبا عودةً للقومية وكراهية الأجانب والشعبوّية وغلق الحدود الأوروبية الداخلية والخارجية. كما يمارس الاتحاد الأوروبي ضغطًا غير مسبوقٍ على بلدان الجنوب (الشرق الأوسط والمغرب العربي وأفريقيا وأفغانستان...). وقد طالب المجلس الأوروبي في 2015 بعقد قمةٍّ دوليةٍ من أجل تعزيز التعاون السياسي حول قضايا الهجرة مع الدول الأفريقية التي تعدُّ مصدرًا أساسيًا لتدفُّق اللاجئين أو نقاطًا يعبرون منها إلى أوروبا. عقدت تلك القمة في فاليتا في 11 و 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حيث اتَّفق القادة الأوروبيون والأفارقة على خطّة عملٍ مشتركة، وعلى إطلاق مبادرات أساسية وأخرى مؤقتة بدأ العمل بها منذ عام 2016.
يتمثَّل الإجراء الرئيسي الآخر الذي اتّخذه الاتحاد الأوروبي، في إعادة توطين المهاجرين في باقي الأراضي الأوروبية. في سبتمبر/ايلول 2015، كان المجلس الأوروبيّ يأمل في إعادة توطين أكثر من 40 الف لاجئ قدموا إلى أوروبا من اليونان وإيطاليا، وكان الهدف هو ثنْي المهاجرين وطالبي اللجوء عن العبور من الجزر اليونانية والإيطالية الى طريق البلقان، ومن ثمَّ الوصول إلى الاتحاد الأوروبي. نحن نشهد اليوم ميلاد إجراءٍ قانونيٍّ وسياسيٍّ جديد فيما يتعلَّق بحقِّ اللّجوء الأوروبي في “النقاط الساخنة” (مراكز الاستقبال) باليونان وإيطاليا، والتي صارت مخيَّمات لفرز اللاجئين، ومراكزًا لتسجيل طلبات اللجوء، وسجونًا في الهواء الطلق.
نضال المحامين الأوروبيين من أجل تطبيق الحقِّ في اللجوء
أدان المحامون اليونانيون والأوروبيون المتخصِّصون في قانون الأجانب وحقِّ اللجوء، الاتِّفاق المُبرَم بين الاتحاد الأوروبيّ وتركيا، والذي يجعل منها “بلدًا ثالثًا آمنًا” يُرسَل إليه المهاجرون الذين رُفِض منحهم حق اللجوء. كما يدينون تحوُّل النقاط الساخنة اليونانية والإيطالية إلى مخيِّماتٍ مُغلَقةٍ لفرز المهاجرين، غير مهيّئة لاستقبال سكّانٍ يتكوَّن أغلبهم من أطفال وقاصرين أتوا من دون ذويهم ونساءٍ حوامل ومُسنّين أو مرضى. ويحاول هؤلاء المحامون اتِّخاذ موقفٍ قانونيّ على المستوى الأوروبيّ، وتخطّي القوميات القانونية. وكنتيجةٍ لذلك، قام كلٌّ من مجلس نقابات المحامين الأوروبيين وجمعيّة المحامين الألمان بتنظيم مشروعٍ مشترك بعنوان “المحامين الأوروبيين في ليسبوس”، بهدف إرسال محامين أوروبيين متطوِّعين إلى جزيرة ليسبوس لتقديم المساعدة القانونية إلى اللاجئين حسب الطلب. وقد أكَّد البعض استحالة تطبيق حق اللجوء الأوروبي في مثل تلك الأوضاع، واعتبروا من واجبهم استنكاره بشدة ووضوح.
يبدو أن هناك عدالةً جديدةً تلوح في أوروبا، وخصوصًا في اليونان. حيث تصدر القرارات الخاصة بالمهاجرين وتطبيق حقِّ اللجوء الأوروبيّ باسم الدولة اليونانية، إلا أنَّ القضاة الذي يشكِّلون لجان الاستئناف قد ينتمون إلى جنسيات مختلفة. تتمثَّل إذًا المشكلة الأساسية في ليسبوس في ضمان تطبيق الحق في اللجوء في سياق سياسي أوروبي يخيِّم عليه التوتر، ومع الأخذ في الاعتبار الخصوصية القومية للدولة اليونانية، وتوابع الأزمة الاقتصادية التي تمرَّ بها، ونظامها القضائيّ والقانونيّ الذي لا يزال ضعيفًا فيما يتعلَّق اللجوء. ويبدو أنَّ القانونيين والمحامين الأوروبيين في طريقهم للانخراط أكثر فأكثر في المنظومة القانونيّة اليونانيّة الخاصّ باللجوء، إلا أن العملية ليست سهلة تماماً. ومن الطبيعي، والحال هذه، أن يبرز تخوُّف لدى المحامين المحليين المنتسبين الى نقابة محامي ليسبوس حيال الزملاء الغرباء القادمين من بلدان أوروبية أخرى أو حتى من نقاباتٍ يونانية أخرى. نحن اليوم إذًا إزاء مرحلة تفرض التواصل والتبادلٍ بين النقابات اليونانية والأوروبية، وهو ما يجعل تطبيق حقِّ اللجوء الأوروبيّ في معسكرٍ للاجئين كمعسكر موريا أمراً يتزايد تعقيدًا. ومن غير المعروف إلى أيِّ مدى يتمتَّع المحامون والقضاة اليونانيون باستقلالية في ظل الاضطَّرابات السياسية الشديدة، على المستويّين الداخلي والأوروبي. فمنذ ربيع 2016، مارس الاتحاد الأوروبي ضغوطًا على الحكومة اليونانية من أجل حملها على تغيير تشكيل لجان الاستئناف المُختصّة باللجوء التي تعمل منذ يناير 2011، إذ اعتبر الاتحاد الأوروبي أن هذه اللجان غير جادة في إعادة اللاجئين الى تركيا، بحجة أن هذا البلد برأي اللجان ليس بال “بلد الثالث الآمن”. وقد أدان بعض أعضاء تلك اللجان التعديل الذي أُجري بتاريخ 16 يونيو 2016. وما زالت هناك صعوبات كثيرة على طريق الوصول إلى نظامٍ حقيقيٍّ وفعّال للدفاع عن المهاجرين وطالبي اللجوء.
في مواجهة تلك المأساة الإنسانية الحقيقية، لا يعدُّ بناء مخيماتٍ لفرز اللاجئين في الاتحاد الأوروبي حلاً قابلاً للاستمرار. حيث تحوَّلت اليوم “مخيمات الاستقبال” تلك إلى مراكز احتجاز يتكدَّس فيها آلاف من البشر في ظروف غير إنسانية. ويشتدَّ التوتُّر القائم بين المهاجرين وممثِّلي إدارة اللجوء اليونانية والأوروبية على حدٍّ سواء. ولا بد، للخروج من هذه الأزمة، من حملة حقيقية يقودها القانونيون الأوروبيون، بالإضافة الى توفر الإرادة السياسية الحقيقية. فلا يجوز أن يقتصر التعاون القانونيّ بين السلطات اليونانية وجيرانها الأوروبيين على نشر قواتٍ عسكرية أو نظام رصد للحدود أو توفير الخدمات اللوجيستية القانونية فحسب، بل يجب أن يعود التضامن والدفاع عن حقوق الإنسان الى صلب البناء الأوروبيّ. وإذ تمثل مشروعاتٍ مثل “محامون أوروبيين في ليسبوس” حلولاً غير كافية لا شك، إلا أنها تسعى مع ذلك الى مناهضة المغالاة القومية الأوروبية المسيئة، والتي تهدِّد بتفكيك أوروبا.
1من كتاب “كيفية استخدام العالم” (رحلة في طرائف البشر من جنيفا الى خَيْبَر) دار نشر بايو وريفاج 2001