أمريكا تعين سفيرها في إسرائيل من بين مموّلي المستوطنين المتعصبين

في 23 مارس/آذار تم تثبيت قرار تعيين ديفيد فريدمان الرجل الذي اختاره دونالد ترامب سفيرًا للولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل، بعد تصويت مجلس الشيوخ لصالحه ب52 صوتاً ضد 46، هذا الرجل المعروف بدعمه المالي للاستيطان يتبنى رؤى اليمين الإسرائيلي الديني المتعصب، المتطرف، وهو المعروف أيضًا بلجوئه دون هوادة إلى المنطق القائل بأن كل معارض للسياسة الإسرائيلية هو إعادة تجسيد للرغبة في إبادة اليهود، وكل يهودي معارض لهذه الرؤية المحملة بعقدة الاضطهاد إنما هو “عميل” للنازية.

“مبنى فريدمان” هو أحد أبنية مدرسة “رعياه” للبنات. بمجرد عبور البوابة، تقع العين على لوحة معلقة بالجدار محفور عليها “إهداء من ديفيد وتامي فريدمان إلى روح والديهما”، وهو ما يفسر الدافع لتشييده. يقع المبنى في مستوطنة “بيت إيل” (بيت الرب) الدينية الواقعة في الضفة الغربية، والتي تبعد 15 كيلومترًا عن القدس وتضم نحو ستة آلاف مستوطن، وقد تبرع لإنشائه ديفيد فريدمان – “رجل السلام” بالألمانية – سفير الولايات المتحدة الجديد لدى تل ابيب الذي عينه دونالد ترامب. وتحتضن مستوطنة “بيت إيل” بالضفة الغربية أشد المستوطنين تطرفًا في إسرائيل. في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، حصد حزبان من أقصى اليمين 97% من الأصوات، وقد ذهب 60% منها إلى البيت اليهودي، ثاني حزب في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، والذي ينادي بضم الضفة الغربية إلى إسرائيل (أما الحزب الآخر فيجاهر بخطابٍ عنصريٍ معادٍ للعرب).

في واقع الأمر، لم يكن من المفترض أبدًا أن يظل المبنى على وضعه الحالي، فقد صدر قرار بهدمه عام 2002 بأمر من المحكمة الإسرائيلية العليا، والسبب أنه بُنيَ على ملكية فلسطينية خاصة في حي أولبانا. والحق أن مستوطنة بيت إيل بأكملها تم بناؤها عام 1977 على أراضٍ فلسطينية خاصة بعد أن تمت مصادرتها من أصحابها. وكما هو متَّبع في أغلب الحالات، صادر الجيش في البداية هذه الأراضي لأسباب “أمنية”، ثم ما لبث أن منحها للمستوطنين. لكن، ولسبب غير معلوم، تمكن المالكون الفلسطينيون تلك المرة، في واقعة نادرة جدًا، من إثبات أحقيتهم في بعض الأراضي بالاحتكام إلى القضاء. وقد نُفِّذ قرار الهدم ضد عشرين منزلاً عقب صدور الحكم، بينما لم يطل القرار عشرة مبانٍ، من بينها مبنى فريدمان. منذ ذلك الحين تواصل عائلة قاسم المالكة للأرض معركتها القانونية أمام القضاء، وتبدو فرص نجاحها ضئيلة للغاية .

ممولون للاستيطان

أُنشئ مبنى فريدمان، شأنه في ذلك شأن العديد من المباني الأخرى، بتمويل من مانحين أسخياء يعيشون بعيدًا، هم “أصدقاء مستوطنة بيت إيل في امريكا”، وهي منظمة خاصة لجمع الأموال بالولايات المتحدة الأمريكية “تضخ سنويًا ملايين الدولارات في تلك المستوطنة”1. وقد تولى ديفيد فريدمان مؤخرًا منصب رئيس المنظمة. إلى جانب مهامه كـ“مدير” لأصدقاء المستوطنة، شارك هذا الأخير شخصيًا في تمويل مدرسته الحاخامية (اليشيفا)، والتي يُعَد مؤسسها الحاخام زلمان ميلميد من أبرز قادة “كتلة الإيمان”، أحد الإفرازات السياسية للصهيونية الدينية الاستيطانية. في أعقاب اتفاقيات أوسلو المبرمة في أغسطس عام 1993، كان ميلميد من بين من هاجموا بضراوة رئيس الوزراء اسحاق رابين حتى مقتله بعدها بعامين، إذ كان يصبُّ لعناته على كل من ينتهك “الشريعة اليهودية” ويغامر بالتخلي عن أي شبر من “الأراضي الإسرائيلية” للفلسطينين. هذا الحاخام هو أيضًا مؤسس إذاعة “اروتز شيفا” ذات التوجه الاستيطاني شديد التطرف، وقد كان فريدمان لسنوات، وحتى وقت قريب، أحد أكثر كتاب الأعمدة اجتهادًا في موقعها الإخباري.

هذا هو إذًا الرجل الذي اصطفاه دونالد ترامب ليتبوأ منصب سفير الولايات المتحدة الأمريكية “المفوَّض فوق العادة” لدى إسرائيل. وقد أقدم على تلك الخطوة، بلا شك، شكرًا وعرفانًا لمحاميه المتخصص في قضايا الإفلاس، والذي نجح بفضل حيله التي لاتنتهي في الإفلات من سداد ديونه (حيث تعرضت ملاهي ترامب الليلية للإفلاس ست مرات بين عامي 1991 و 2009). ليس هذا فحسب، فقرار ترامب ينبع من قناعة تامة على الصعيد السياسي. فحتى وإن كان التيار الذي ينتمي إليه فريدمان يشكل أقلية، إلا أنه يعد الأكثر نشاطًا في الحركة اليهودية الأمريكية بدعمه للتوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعدائه لكل أشكال التسوية الإقليمية. كما تجسِّد هذا التوجه “المنظمة الصهيونية الأمريكية” التي يرأسها مورتون كلاين – الذي تربطه علاقات وطيدة بالحركة المسماة بـ“العنصريين البيض” الممثَّلة في موقع “بريتبارت نيوز” ومديره ستيف بانون الذي يشغل حاليًا منصب مستشار دونالد ترامب الاستراتيجي – وهي مقربة من أوساط “الصهاينة المسيحيين” الإنجيلية، والتي يعد بات روبرتسون – مؤسس التحالف المسيحي الأمريكي الذي يتبنى خطابًا عنصريًا ضد المسلمين – أحد وجوهها البارزة.

وقد أسست المنظمة الصهيونية الأمريكية، بالتعاون مع المسيحيين الإنجيليين، شبكة تمويل واسعة تضخ سنويًا ملايين الدولارات في المستوطنات الإسرائيلية الأشد تطرفًا في الأراضي الفلسطينية2. ومن بين المانحين الأكثر سخاءً لمستوطنة بيت إيل نجد على سبيل المثال، ليس فقط ديفيد فريدمان، وإنما دونالد ترامب شخصيًا، والذي تبرع بمبلغ 10 آلاف دولار، بالإضافة إلى تشارلز كوشنر، بتبرعه البالغ 38 ألف دولار. وكوشنر هو والد زوج ابنة دونالد ترامب جاريد كوشنر، والذي عينه ترامب مستشارًا أعلى بالبيت الأبيض. وقد تبرع كوشنر الأب أيضًا بمبلغ 264،500 ألف دولار للمنظمات الإسرائيلية الاستيطانية الخاصة3.

الصهيونية الدينية اليمينية المتطرفة

على الصعيد السياسي، يمثل هذا التيار الذي ينتمي إليه فريدمان فصيلاً لطالما كان حاضرًا أيديولوجيًا في الحركة الصهيونية، إلا أنه ظل هامشيًا للغاية، ولم يكتسب نفوذًا سياسيًا واجتماعيًا كبيرًا سوى في اعقاب حرب يونيو 1967 والاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطيني. وقد غدا هذا النفوذ بارزاً منذ جيل على وجه التحديد. ويجمع هذا التيار بين القومية الأكثر تعصبًا ومعتقد ديني متشدد يرى في إعادة إحياء دولة إسرائيل تمهيدًا لإعادة بناء مملكة داوُد والهيكل، إيذانًا بعودة المسيح الموعودة. ولا يمثل هذا التيار سياسيًا في إسرائيل بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة وحزب الليكود فحسب، كما يعتقد البعض، وإنما نفتالي بينيت، رئيس الحزب الديني الاستيطاني “البيت اليهودي”. وبالرغم من طموحات هذين القائدين المتنازعة، إلا أن هناك صلات عديدة تربط بين حزبيهما.

ويتسم حزب بينيت بعدائه العنيف لحقوق الفلسطينيين، متفوقًا في ذلك على حزب الليكود الأكثر تنوعًا. حيث يضم البيت اليهودي الكثير من المتطرفين الذين دأبوا على قطع أشجار الزيتون والليمون وسد آبار المياه في الأراضي الفلسطينية، أو الاعتداء على الفلاحين الفلسطينيين لحملهم على ترك أراضيهم. كما نجد بينهم فريقًا يسارع إلى نعت أي معارض أو ناقد لإسرائيل بـ“المعادي للسامية” أو بـ“النازي”، حتى وإن كان هؤلاء الناقدون من اليهود. وهم لا يقيمون وزنًا لدولة القانون؛ فمعظم الاقتراحات الأخيرة التي تهدف إلى إسكات أي صوت معارض يدين الاستيطان الإسرائيلي صادرة عنهم، مثل مشروع القانون الذي تقدم به البيت اليهودي ووافق عليه أعضاء البرلمان في قراءة أولى في 6 مارس/آذار بـ46 صوتًا مقابل 28 صوتًا، والذي يقضي بمنع كل من يدعو إلى مقاطعة إسرائيل أو أي من منتجات المستوطنات الإسرائيلية من دخول البلاد.

وقد نظم المتظاهرون وقفة احتجاجية أثناء مثول فريدمان أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ في جلسة الاستماع المنعقدة يوم 16 فبراير/شباط ضمَّت مناصرين للقضية الفلسطينية وآخرين من ممثلي المنظمات اليهودية المعارضة بشدة لمواقفه. وقد ندد هؤلاء بتصريحاته وأفعاله المشينة. وكان خمسة سفراء أمريكيين سابقين لدى إسرائيل قد أصدروا في وقت سابق بيانًا مشتركًا يحثون فيه مجلس الشيوخ على عدم التصديق على تعيينه4. فقد أعرب فريدمان في عدة مناسبات عن رفضه التام لإقامة دولة فلسطينية وإخلاء المستوطنات الإسرائيلية، كما أعرب عن نيته سحب المواطنة الإسرائيلية من الفلسطينيين الذين يتواجدون ضمن الحدود الإسرائيلية المعترف بها دوليًا، والبالغ عددهم 1.2 مليون مواطن.

وفي كتاباته بموقع أروتز شيفا، أدان فريدمان عدة مرات ما وصفه بـ“مائة عام من معاداة وزارة الخارجية الأمريكية للسامية”(وزارة الخارجية نفسها التي أصبح اليوم أحد موظفيها) قبل أن يتهم وزير الخارجية الأسبق جون كيري والرئيس أوباما بـ“عدائهما السافر للسامية”. في المقابل، حين يُشتبه في معاداة رجل كستيف بانون، مستشار ترامب الخاص، للسامية، لا يجد فريدمان ما يقوله، بل ولا يجد غضاضةً في وصف قادة رابطة مكافحة التشهير المعنية بمكافحة معاداة السامية في الولايات المتحدة بـ“الحمقى” لتوجيههم تلك الاتهامات إلى بانون. باختصار، لا يعرف فريدمان سوى أعداءالسامية التقدميين، و “لا يوجد لديه أعداء في اليمين”.

“عملاء النازية”

لقد ادَّخر فريدمان أكثر هجماته بغضًا لـ“جي ستريت”، اللوبي اليساري المؤيد لإسرائيل بالولايات المتحدة و “المحب للسلام” كما يطلق عليه، والذي يدعو إلى تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سلميًا عن طريق التفاوض. وقد صرح فريدمان خلال حملة ترامب الانتخابية بأن أعضاء منظمة جي ستريت هم “أسوأ من من الكابو”5. و “الكابو” هو مصطلح أطلق على اليهود الذين تعاونوا مع النازيين أثناء المحارق قبل أن يتم تصفيتهم هم أيضًا. ولم يكن ذلك أول هجوم كريه من هذا النوع يقوم به فريدمان. ففي مقال له عام 2015 أُفرده بالكامل للحديث عن مدى كراهيته للـ“اليهود التقدميين”، قال فريدمان: “للأسف، منذ قديم الأزل وانتهاءً بالكابو في ظل النازية، دائمًا ما كانت هناك أقلية يهودية تخون بني ملتها”6.

ذلك الخطاب الذي يعتبر كل معارض للسياسة الإسرائيلية بمثابة إعادة تجسيد للرغبة في إبادة اليهود، وكل يهودي معارض لهذه الرؤية المحملة بعقدة الاضطهاد “عميلاً” للنازية – واعيًا أو مُنقادًا – ليس جديدًا في إسرائيل، ولكنه يزداد حدةً وانتشارًا بشكل مخيف. وهو ينتشر على وجه الخصوص في صفوف الفصيل الاستيطاني الأكثر نشاطًا في إسرائيل (حتى وإن كان ينتشر بكثافة خارجه). من منا لا يذكر صور اسحاق رابين وشمعون بيريز وقد تم إلباسهما القبعة والزي النازييَّن على لافتات المتظاهرين الذي خرجوا عامي 1994 و 1995 ضد اتفاقيات كامب ديفيد؟ أو زي الترحيلات المخطَّط والمزين بنجمة صفراء الذي ارتداه المستوطنون أثناء إجلائهم من قطاع غزة عام 2006 من قبل حكومة أرائيل شارون؟ في الحالتين، الفاعل واحد: معسكر المستوطنين القوميين المتدينين المتطرفين وحاخاماتهم، أي من ظلّ فريدمان وأتباعه الأمريكيون يمولونهم.

في جلسة الاستماع بمجلس الشيوخ، قال السفير أنه “نادم” على بعض الألفاظ التي استخدمها في تصريحاته، والتي أرجع سببها إلى “حملة انتخابية مشحونة للغاية” دون أن ينكرها، وأكد معرفته “للفارق بين الخطاب المتحزِّب وما يمليه العمل الدبلوماسي”. كما وعد بـ“بيع الأعمال” التي يمتلكها في إسرائيل – والتي لا نعلم ماهيتها تحديدًا، عدا شقة بنتهاوس شخصية بالقدس ومتجرًا للنبيذ والمشروبات الروحية. وحول ما إذا كان يملك استثمارات في شركات أمنية إسرائيلية ناشئة، لم يقدم فريدمان جوابًا شافيًا حتى اليوم.

ويبدو أن تلك التطمينات قد لاقت استحسان أعضاء مجلس الشيوخ. في هذا الصدد، صدقت الحكومة الإسرائيلية في الأول من فبراير/شباط على إنشاء ثلاث آلاف وحدة سكنية إضافية في الضفة الغربية، من بينها 300 وحدة في مستوطنة بيت ايل. وبحسب الصحافة الإسرائيلية، تمول جمعية أصدقاء بيت ايل في أمريكا بناء عشرين وحدة.

1جودي مالتز “داخل المستوطنات الدينية في الضفة الغربية التي صاغت سياسة الرئيس ترامب حيال إسرائيل” صحيفة هآرتس 17 يناير/ كانون الثاني 2017

2راجع أوري بلاو “مانحون أميركيون يتبرعون بأكثر من 220 مليون دولار معفية من الضرائب لصالح المستوطنات، على مدى خمس سنوات” صحيفة هآرتس 7 ديسمبر/كانون الأول 2015

3شارلز كوشنر، وهو مقاول عقاري مثل ترامب، قضى 14 شهراً في السجن بين عامي 2005 و 2006 بعد اعترافه بارتكاب 14 جنحة في تمويل غير الشرعي للانتخابات والتهرب الضريبي

4يتعلق الأمر هنا بتوماس بيكرنغ ودان كروتزر وإدوارد وولكر وجيمس كنيغهام ووليام هاروب. ولقد رفض مارتن إنديك،مدير قسم الشرق الأدنى في مؤسسة بروكينغز والمقرب من لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية “أيباك”، رَفَضَ الانضمام الى هذه المجموعة

5دافيد فريدمان “اقرأ بيتر بايننرت وسوف تصوّت لدونالد ترامب”موقع أروتز شيفا 6 مايو/ أيار 2016

6دافيد فريدمن “اليهود الليبراليون : من السهل أن تحبهم، من الصعب أن تستسيغهم” موقع أروتز شيفا 30 يوليو 2015