تشكل ليبيا برهاناً آخرـ إن كنا نحتاج لمزيد من البراهين ـ على صعوبة التطبيق الفعلي للنظريات الجميلة لبناء الدولة “من الأعلى” التي طورتها المنظمات الدولية الكبرى والبلدان الغربية خلال العقود الأخيرة. ويتحتم الاعتراف، بعد سنة من إقامة حكومة الوفاق الوطني بطرابلس بضغط مباشر من “المجتمع الدولي” ـ أي الدول الأوروبية والولايات المتحدة ـ بأن البلاد لم تشهد تفتتاً أكبر مما هي عليه الآن. ففضلا عن الانقسام القائم مع انشقاق برقة (شرق ليبيا) التي ساندت في غالبيتها الجيش الوطني الليبي بقيادة المارشال خليفة حفتر ظهر خط تصدع جديد في غرب البلاد بين موالين ومعارضين لحكومة الوفاق الوطني.
ففي طرابلس انهار خلال الأسابيع الأخيرة التوازن الديناميكي والمتأرجح الذي دام لأكثر من عام بين الفريقين ولو بنوع من الصعوبة، حيث دارت اشتباكات بالأسلحة الثقيلة في عدة أحياء من العاصمة. فالتحالفات أو العداوات المرتبطة بخصومات شخصية بين القادة والأطماع في السلطة أو الأرض والخلافات الإيديولوجية والمصالح الاقتصادية والتنافس التقليدي بين الميليشيات المنحدرة من العاصمة والميليشيات “الخارجية” (وتأتي أساسا من مصراتة أو جبل نفوسة) تمحورت كلها حول التنافس السياسي بين معارضي ومؤيدي حكومة الوفاق الوطني. وهذا يعني إلى حد ما أن حكومة الوفاق الوطني قد ساهمت في خلق خط تصدع سياسي جديد تطور بشكل حتمي إلى مواجهات عسكرية بين الكتلتين.
تصدع إضافي على الصعيد الأيدلوجي
تأتي الموالاة لهذا المعسكر أو ذاك، كما هو الحال تقليديا في ليبيا، نتيجةً لاختيارات براغماتية لفاعلين يحظون بدعم متفاوت من مجموعاتهم الأصلية. غير أن بروز خط تصدعٍ إيديولوجي جديد، لم يكن حاسماً حتى الآن، قد يعقد البحث عن التسويات الضرورية للخروج من المأزق الحالي. ولا يدور هذا التعارض الإيديولوجي بين الإسلاميين والوطنيين كما يظهر غالباً في وسائل الاعلام الخارجية بل بين الإسلاميين “مَدْخَلِيين” (نسبة إلى الإمام السعودي ربيع المدخلي) المدافعين عن التشدد الوهابي والطاعة لولي الأمر من جهة و الإسلاميين الطامحين إلى السلطة أو على الأقل إلى المشاركة فيها، من جهة أخرى. ويمثل هؤلاء الأخيرين تحالفاً غير متجانس يتشكل من أتباع مفتي ليبيا صادق الغرياني والنشطاء السابقين في الجبهة الإسلامية الليبية للقتال والذي تحول بعضهم إلى مقاولين سياسيين تقليديين ولكنهم يجتمعون على اعتبار حكومة الوفاق الوطني كياناً مفروضا من الخارج. وقد خسر هذا التحالف معركةً خلال الاقتتال الذي دار في الأسابيع الأخيرة في طرابلس ضد الميليشيات الموالية لحكومة الوفاق الوطني والتي يوجد بينها منافسوهم “المَدخليون”1. ولكن لا يمكن تفسير هذه المعارك بالتناقض “الايديولوجي” وحده إذ برز من جديد خط تصدعِ بين سكان وميليشيات طرابلس من جهة والميليشيات التي تعتبر دخيلة على العاصمة من جهة أخرى. وقد تضاعفت بطرابلس الشعارات والمظاهرات المناوئة لمصراتة مستهدفة بذلك مباشرة ميليشيات جبهة الرفض التابعة لصالح بادي المصراتي التي تحركت ضد حكومة الوفاق الوطني، وهذه الميلشيات تبقى بشكل أساسي في ضواحي طرابلس كما هي الحال بالنسبة للقوة الوطنية المتحركة أيضاً2، والتي ينظر إليها هي الأخرى على أنها دخيلة على العاصمة.
استقطاب ثنائي بطرابلس
يسيطر على وسط العاصمة الليبية تحالف هش من ميليشيات طرابلس المؤيدة لحكومة الوفاق الوطني. أما الميليشيات المصراتة الموالية للحكومة فلقد رفضت الانخراط في المعارك الأخيرة وبقيت بعيدة عن النزاع مكتفية بالحفاظ على المصالح الاقتصادية للمصراتيين بالعاصمة.
ولهذا الاستقطاب الثنائي المتجدد بالعاصمة آثار مباشرة على التوازن غير المستقر بمصراتة بين الموالين لحكومة الوفاق الوطني ومعارضيها، حيث برزت علناً في هذه المدينة، التي كانت تبدو حتى الآن ملتفة بوحدة شكلية، انقسامات لم تجتز مع ذلك الخط الأحمر أي المواجهات العسكرية بين الطرفين. وقد قرر المجلس العسكري لمصراتة في 22 مارس3، كرد فعل على إبعاد ميليشيات مصراتة المعارضة لحكومة الوفاق الوطني من طرابلس وعلى الجو العام المناوئ للمصراتيين في العاصمة، إقالة المجلس البلدي المنتخب في المدينة المتهم بقربه من حكومة الوفاق الوطني. وتم تحويل الصلاحيات الإدارية والتسييرية للمجلس البلدي إلى هيئة تقوم بتصريف الشؤون اليومية. وإذا كان هذا التحرك مثيراً للقلق بالنسبة لتماسك النسيج الاجتماعي للمدينة في المستقبل فهو ليس قضاءً لا يرد، بل يمكن أن يخضع للتفاوض في مدينة يحظى فيها رجال الأعمال بتأثير كبير. وبالفعل، فلهؤلاء قدرة ممارسة الضغط على كل الأطراف حفاظاً على ازدهار أعمالهم التي قد تتأثر من انقسام المدينة.
مواصلة هجوم الجيش الوطني الليبي
في نفس الوقت وعلى بعد مئات الكيلومترات شرقاً، في منطقة الهلال النفطي وفي الجنوب بواحة الجُفرة اندلعت معارك أخرى خلال الأسابيع الأخيرة بين الجيش الوطني الليبي بقيادة المارشال حفتر الذي يحظى بقاعدة اجتماعية غالبة ببرقة (شرق ليبيا) وسرايا الدفاع عن بنغازي التي تحظى بدعم العديد من ميليشيات مصراتة. تتشكل سرايا الدفاع عن بنغازي من بقايا السرايا الثورية لبنغازي واجدابيا التي التحق جزء صغير منها براية أنصار الشريعة. والكثير من هؤلاء الذين يصفهم خصومهم دون أي تمييز ب“الإرهابيين” ينحدرون من سكان تعود أصولهم إلى الغرب (مصراتة) هاجروا منذ فترة طويلة إلى بنغازي وليس لهم خيار آخر سوى الالتحاق بذلك المعسكر كرد فعل على انحياز مواطنيهم في بنغازي المنحدرين من قبائل محلية إلى صف الماريشال حفتر. وهكذا تغذّى الاستقطاب السياسي وغذّى بدوره العصبيّات التي أدت مع مرور الوقت إلى عنف حربي مشابه بين السكان المتجاورين شديد الخطورة على النسيج الاجتماعي .
وفي نهاية هذه المعارك تمكن الجيش الوطني الليبي لخليفة حفتر المدعوم عسكريا من الامارات العربية المتحدة في يوم 14 مارس من استرجاع الموانئ النفطية التي كانت قد احتلتها ألوية الدفاع عن بنغازي قبل ذلك بأيام قليلة. ويبدو أن هدف الجيش الوطني الليبي أصبح يتمثل في مواصلة الهجوم نحو الجنوب قصد الاستيلاء على الجُفرة وفي أمد أبعد على منطقة سبها بدعم من الميليشيات المحلية.
ويكشف تعيين الجنرال مبروك السحبان في يوم 27 مارس على رأس العمليات لسرت عن نية معسكر الشرق في العودة إلى هذه المدينة التي يسيرها حالياً رئيس بلدية عينه في ديسمبر الماضي المجلس المحلي،وهي تحت السيطرة العسكرية لميليشيات مصراتة التي طردت منها تنظيم الدولة الإسلامية. ثمة دلالة رمزية في هذا التعيين للجنرال السحبان ابن قبيلة المقارحة أهم حليف للقذاذفة بسرت في ظل النظام السابق، فهو معروف، فضلاً عن انتمائه القبلي، كشخصية مؤثرة في ليبيا خاصة في المدن التي كانت تدعم النظام في 2011. وبالفعل فقد كان هذا الضابط يقود لواءً قوياً يحمل اسمه ولقد أحكم قبضته على موقع “غريان” الاستراتيجي جنوب طرابلس وظل مسيطراً عليه تقريباً حتى دخول المتمردين إلى العاصمة. ويمكن أن ينظر في تعيينه على رأس العمليات للاستيلاء على سرت كوسيلة “لكسب قلوب” سكان المدينة الذين ما زالوا ينظرون إلى رجال مصراتة على أنهم قوة احتلال.
ولا يمكن استبعاد أن يقوم الماريشال حفتر متشجعاً بانتصاراته الأخيرة والانقسامات في الغرب المذكورة آنفا بمواصلة نهجه العسكري في الزحف على غرب ليبيا بكل ما يحمله ذلك من مخاطر اندلاع صراع واسع.
ثقافة التسيير الذاتي
ليس التعقيد الظاهر للوضع في الغرب الليبي مرادفاً لفوضى يستعصي فهمها. فكل الفاعلين المحليين يسعون إلى أهداف منسجمة مع الطموحات السياسية ومصالح المجموعات المختلفة. وبالنظر إلى العدد الهائل للأسلحة والذخيرة الموجودة في ليبيا يمكن القول أن العنف محدود نسبياً وهو في المقام الأول وسيلة فقط لضمان مصالح وأمن كل مجموعة. فحالة طرابلس وبنغازي على الخصوص لا تمثل أبداً ما يجري في ربوع ليبيا حيث لم يتمكن الفاعلون المحليون من الحفاظ على السلم الاجتماعي داخل المجموعات فحسب بل تمكنوا أيضا من تنظيم وإضفاء حالة من السلم على العلاقات مع المجموعات المجاورة الأخرى. ونذكر في هذا الصدد مدينة الزنتان التي كانت سنة 2014 معزولة كليا عن بيئتها الجغرافية ومحاصرة من مجموعات معادية تساند عملية “فجر ليبيا”. وبعد أقل من عامين أبرمت اتفاقيات حسن جوار مع منازعيها بالأمس مما جعل منطقة الزنتان والمدن المجاورة من بين الأماكن الأكثر أمناً في ليبيا.
وتشكل هذه القدرة الكبيرة للمجموعات المحلية على تسيير شؤونها ذاتيا في غياب الدولة إرثا للثقافة السياسية الليبية كان نظام القذافي شجع بعضا من جوانبها، بمجرد عدم ردعها. وقد ناقش في هذا الصدد حوالي عشرون رئيس بلدية منتخب في أهم بلديات الغرب والجنوب الليبي في بداية مارس بروما لمدة يومين المشاكل والحلول التي ابتكروها خدمة لمصالح مجتمعاتهم المحلية ويعد هذا الاجتماع دليلاً على إرادة وقدرة الفاعلين المحليين في حماية النسيج الاجتماعي الليبي ومواجهة التحديات الكبرى المفروضة عليهم في بلاد بدون دولة وبعدة حكومات متنافسة.
مساعي الأمم المتحدة في مأزق
أيام قليلة قبل نهاية ولاية المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة مارتن كوبلر يبدو المسار الأممي في مأزق كبير، ولا يمكن لأي من المؤسسات التي تدعي الشرعية أو التي لها شرعية حسب المجتمع الدولي أن تفرض نفسها في ظل تزايد معاناة السكان يومياً من التقشف وانعدام الأمن. ولم تفلح المحاولات الآتية من الخارج في بناء كيان سياسي مركزي ولن تفلح في المستقبل المنظور بالرغم من وجود الآلاف من أوجه الاستعدادات الطيبة في ليبيا والمئات من الفاعلين المحليين ممن يعملون بجد لصالح مجتمعاتهم. كما توجد أيضا مؤسسات واصلت عملها الدؤوب (البنك المركزي، الشركة الوطنية للنفط، الشركة الوطنية للكهرباء، والنهر الاصطناعي الكبير) وصمدت بالرغم من حرب 2011 وسقوط النظام السابق وتفتت البلاد. فقد واصل، لحسن الحظ، موظفون وتقنيون أكفاء تسيير هذه المؤسسات خدمة لكل الليبيين.
وبدلاً من تدعيم هذا أو ذاك من “أبطالها” وتدريب هذه الميليشيا أو تلك أو نواة جيش في غياب الدولة حريٌ بالمجتمع الدولي أن يقوم بدعم وتشجيع الأمور التي تسهر على العمل والانطلاق من المستوى المحلي لإنشاء مسيرة حميدة مستدامة متوافقة مع الثقافة السياسية الليبية. وتشكل الأصوات التي تتعالى من جديد في الخارج قصد تنظيم انتخابات وطنية جديدة لتعيين هيئة منتخبة جديدة مثالاً لعبث المطابخ الانتخابية المتكررة التي لا تأخذ بعين الاعتبار الوقائع على الأرض. فانتخاب هيئة وطنية جديدة في هذا الظرف ليس من شأنه إلا إضافة دافع تصدع جديد للدوافع الموجودة أصلاً.
وستكون مهمة المبعوث الخاص القادم للأمم المتحدة في ليبيا صعبة ومليئة بالمطبات. غير أن هناك الآلاف من دواعي الأمل في ليبيا شريطة عدم تكرار أخطاء السنوات الماضية.
1تموقعت ميليشيا حي سوق الجمعة القوية التي يقودها عبد الرؤوف كارة إلى جانب تحالف الميليشيات الكبيرة الموالية لحكومة الوفاق الوطني في محاربة الميليشيات المعادية لها خلال المعارك الأخيرة.
2تحتوي القوة الوطنية المتحركة على نسبة كبيرة من المقاتلين ذوي الأصول الأمازيغية من جبل نفوسة
3المجلس العسكري يعلن عن تنحية المجلس البلديhttp://alwasat.ly/ar/mobile/article...