كان لهزيمة الدول العربية أمام العدوان الإسرائيلي في حزيران 1967 نتائج مباشرة على الصعيد الفلسطيني، تمثّلت في تحرر النضال الوطني الفلسطيني من قيود الوصاية الرسمية العربية، وسقوط الرهان نهائياً على دور الجيوش النظامية العربية، وبخاصة بعد موافقة مصر والأردن على قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي صدر في تشرين الثاني/نوفمبر 1967، وحلول هدف “إزالة آثار عدوان حزيران” محل هدف “تحرير فلسطين”. كما كان من نتائج تلك الهزيمة، تكريس التوّجه الذي بشّرت به حركة “فتح”، في النصف الأول من الستينيات، ومفاده أن على الشعب الفلسطيني الاعتماد على نفسه في الأساس في معركة تحرير وطنه، وذلك باللجوء إلى الكفاح المسلح باعتباره السبيل الوحيد إلى ذلك. وهكذا، راحت تبرز تنظيمات وحركات فلسطينية جديدة، يسارية وقومية، وتحوّلت ظاهرة الكفاح المسلح الفلسطيني إلى حركة مقاومة تحظى بتأييد شعبي واسع، ولم يعد الفلسطيني هو اللاجئ أو المشرد، بل أصبح هو الفدائي الذي يحمل السلاح.
فشل الرهان على جعل الأراضي الفلسطينية ساحة رئيسية للكفاح المسلح
كان الطموح الأولي لحركة “فتح” ولمنظمات المقاومة الفلسطينية الأخرى أن تشكّل الأراضي الفلسطينية المحتلة ساحة الكفاح المسلح الرئيسية. فعقب انتهاء العمليات العسكرية على جبهات القتال العربية-الإسرائيلية، ناقشت قيادة حركة “فتح” مسألة الشروع في ممارسة الكفاح المسلح داخل هذه الأراضي؛ وبينما قدّرت أقلية أن من الضروري تأجيل العمل العسكري إلى حين بناء التنظيم السري وتدريب الأعضاء على القتال وتوفير السلاح، رأت الأغلبية، التي وقف على رأسها ياسر عرفات، أن الشروع في المقاومة المسلحة سيرفع معنويات الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ويشجعهم على البقاء في أرضهم.
وأخيراً، تبنت قيادة “فتح” توجهاً يقضي ببناء قواعد ارتكازية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تبدأ بعمل فدائي انتقائي ومحدود قبل أن تتطور إلى حرب عصابات كلاسيكية. ومما شجع حركة “فتح” على اتخاذ ذلك التوجه ظهور علامات مبكرة على نشوء مقاومة مدنية في الأراضيالفلسطينية المحتلة، اتخذت شكل إضرابات واعتصامات وغيرها من أشكال الاحتجاج السلمي. وأوكلت قيادة الحركة إلى ياسر عرفات مهمة العمل على بناء هذه القواعد في الضفة الغربية المحتلة، فقاد هذا الأخير فريقاً من 30 رجلاً ، وأقام مقر قيادته في نابلس. ويوم 28 آب، أعلنت حركة “فتح” بدء العمليات القتالية في الضفة الغربية ، فيما أسمته “الانطلاقة الثانية”، التي أعقبت “انطلاقتها الأولى” في الأول من كانون الثاني 1965، عندما قامت وحدة سرية من وحداتها بأول عملية عسكرية ضد هدف إسرائيلي. وكان تصوّر قادة “فتح” آنذاك أن قواعد الارتكاز الآمنة التي ستقيمها ستتطور، مع الوقت، إلى مناطق شبه محررة.
وقد واجهت الحكومة الإسرائيلية توجه “فتح” ومنظمات المقاومة الأخرى هذا بحملة أمنية واسعة، وعمل الجيش الإسرائيلي على فرض نظام حظر التجول في مناطق عدة، وقام بتقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مربعات أمنية وإلى تمشيطها بانتظام من أجل كشف جميع المخابئ والمعابر. وأسفرت تلك الحملة، في نهاية سنة 1967، عن استشهاد واعتقال المئات من الفدائيين والمناصرين، وعن انحسار ظاهرة العمل الفدائي المسلح في الضفة الغربية. من الصحيح أن هذا العمل حافظ على زخمه في قطاع غزة حتى سنة 1971، إلا أن الآمال بإمكانية بناء قواعد ارتكازية للمقاومة المسلحة في الأراضي الفلسطينية المحتلة كانت قد تبددت، الأمر الذي فرض انتقال مركز الثقل في نشاط حركة المقاومة العسكري والسياسي إلى خارج هذه الأراضي، وأهملت استراتيجيات المقاومة المدنية والتعبئة الجماهيرية التي روّج لها الشيوعيون، ولم يطرأ تعديل جوهري على هذا التوجه إلا بعد عشرين عاماً، مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين في كانون الأول 1987.
معركة الكرامة: منعطف في تطور حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة
بعد فشل الرهان على جعل الأراضي الفلسطينية المحتلة ساحة الكفاح المسلح الرئيسية، برزت الحاجة إلى البحث عن “ملاذات آمنة” في الدول العربية المحيطة بفلسطين. وكان واضحاً أن الأردن هو المرشح الأول لتوفير مثل هذه الملاذات، إذ تقيم فيه أغلبية اللاجئين الفلسطينيين، ويملك أطول حدود عربية مع إسرائيل ومع الضفة الغربية. وسرعان ما تحوّلت الضفة الشرقية لنهر الأردن إلى أكبر منطقة انطلاق للمقاتلين الفلسطينيين، وإلى ممر رئيسي للتسلل إلى الأراضي المحتلة. ومن جهة أخرى، ساعدتقواعد الفدائيين الفلسطينيين التي أقيمت في سورية في النصف الثاني من سنة 1968 على تمدد الوجود الفدائي الفلسطيني إلى الجنوب اللبناني.
في 21 آذار 1968، وقعت معركة كبرى في بلدة الكرامة الأردنيّة الصغيرة، في غور الأردن، بين القوات الإسرائيليةومجموعة مشتركة من مقاتلين فلسطينيين وجنود الجيش الأردني، أسفرت عن تكبيد الجيش الإسرائيلي، على الرغم من نجاحه في تدمير قاعدة المقاتلين الفلسطينيين في البلدة، خسائر فادحة نسبيّاً بالمقارنة مع خسائره في حروبه السابقة. وأدّت أخبار تلك المعركة وصمود المقاتلين الفلسطينيين فيها إلى تزايد شعبية حركة المقاومة الفلسطينية التي شهدت انضمام عشرات الآلاف من المتطوعين الفلسطينيين والعرب إلى صفوفها. كما كان لصمود المقاومة الفلسطينية في تلك المعركة تداعيات مهمة على الصعيد الرسمي العربي، إذ سارعت المنظمات الفدائية إلى فتح مكاتب لها في مدينة عمان وفي مخيمات اللاجئين على مرأى من الحكومة الأردنية، وقام الملك السعودي فيصل باستقبال وفد قيادي من حركة “فتح”وتعهد له بدعم مالي كبير، كما تطورت علاقات “فتح”بمصر، بعد سورية، إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، إذ قدّر جمال عبد الناصر، الذي كان يحضّر لخوض معركة استنزاف ضد إسرائيل على جبهة قناة السويس، أنه يمكنه الاستناد إلى عمليات منظمات المقاومة الفلسطينية وبخاصة حركة “فتح” ضد الأهداف الإسرائيلية. وبعد أن استقبل جمال عبد الناصر وفداً قيادياً من حركة “فتح”، ترأسه ياسر عرفات، اُرسلت شحنة سلاح كبيرة إلى الحركة تعويضاً عن خسائرها في معركة الكرامة، وازداد عدد مقاتليها الذين يتلقون التدريب في مصر.
حركة “فتح” ومنظمات المقاومة تسيطر على منظمة التحرير الفلسطينية
وانعكس هذا النفوذ المتعاظم لحركة المقاومة على بنية منظمة التحرير الفلسطينية، التي فقدت مصداقيتها، كونها أنشئت في مطلع حزيران 1964 بقرار رسمي عربي، واضطر رئيسها أحمد الشقيري إلى تقديم استقالته، الأمر الذي وفّر شروط حدوث تغيّر على بنيتها التنظيمية، تجلّى في سيطرة المنظمات الفلسطينية المسلحة، وبخاصة حركة “فتح”، على هيئاتها ، منذ الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني، في تموز 1968.
وقد أقرت الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني “ميثاقاً وطنياً” جديداً، كرّس أفكار الوطنية الفلسطينية. فخلافاً لـ “الميثاق القومي” لمنظمة التحرير، المقرّ في الدورة الأولى للمجلس الوطني في أيار-حزيران 1964، الذي عرّف فلسطين بأنها “وطن عربي”، شدّد “الميثاق الوطني” الجديد على أن فلسطين هي “وطن الشعب العربي الفلسطيني”، وعلى أن هذا الشعب “هو صاحب الحق الأول والأصيل في تحرير واسترداد وطنه”، و“هو يرفض كل أنواع التدخل والوصاية والتبعية”. وتجاوباً مع هذا التوجه، حُذف من بنود الميثاق الجديد البند الذي كان يشير إلى أن منظمة التحرير الفلسطينية “لا تمارس أية سيادة إقليمية على الضفة الغربية”، وجرى التأكيد على أن منظمة التحرير هي “الإطار الممثل” لقوى الثورة الفلسطينية المسلحة، وهي “مسؤولة عن حركة الشعب العربي الفلسطيني في نضاله من أجل استرداد وطنه وتحريره والعودة إليه وممارسة حق تقرير المصير فيه”. وفي الدورة الخامسة للمجلس الوطني، التي انعقدت في القاهرة في مطلع شباط 1969، تكرّس هذا التحوّل بانتخاب ياسر عرفات، الذي كانت حركة “فتح” قد اختارته في نيسان 1968 ناطقاً رسمياً باسمها، رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وبعد سيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية، طمحت حركة “فتح” ومنظمات المقاومة الأخرى إلى نيل الاعتراف العربي والدولي بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وصارت تشعر بالمزيد من المسؤولية عن مواقفها. وكانت الهزيمة العربية القاسية التي لحقت بالجيوش العربية قد بيّنت عدم واقعية التصوّرات التي سادت في المرحلة السابقة إزاء مستقبل اليهود الإسرائيليين في فلسطين، وأظهرت لحركة المقاومةالفلسطينية، بخاصة بعد إقرار عدد من الدول العربية بوجود إسرائيل كأمر واقع، أن التعايش مع هؤلاء اليهود هو أمر لا مفر منه، وأنه لا بد بالتالي من طرح صيغة معقولة، ويمكن أن تكون مقبولة على الصعيد العالمي، لتنظيم هذا التعايش. وهكذا، بادرت حركة “فتح” إلى طرح شعار “الدولة الفلسطينية الديمقراطية” في مذكرة وجهتها إلى هيئة الأمم المتحدة في تشرين الأول 1968، وذلك قبل أن يتبناه المجلس الوطني الفلسطيني رسمياً، بعد نقاشات حامية، في دورته الثامنة التي انعقدت في القاهرة في نهاية شباط ومطلع آذار 1971.
مصادر رئيسية
حوراني، فيصل، الفكر السياسي الفلسطيني 1964-1974. دراسة للمواثيق الرئيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، مركز الأبحاث-منظمة التحرير الفلسطينية، 1980.
الشريف، ماهر، البحث عن كيان. دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908-1993، نيقوسيا، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1995.
صايغ، يزيد، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة. الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993، ترجمة باسم سرحان، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.