يناير 2011 مازال حياً نابضاً في مبادرات الشباب التونسي

علاقة عضوية بالمواطنين المحرومين · بعد مضي أكثر من ست سنوات ونصف على طفرة 2011 كيف ترجم الفاعلون في المجتمع المدني شعارات التحرر والعدالة والتقدم والتنوير؟ بعض المنظمات غير الحكومية راهنت على الثقافة والتعليم و انخرطت أخرى في حملات التوعية بمخاطر الفقر والتهميش

مدخل جامعة محمد علي الحامي الشعبية في حي “سيدي حسين السيجومي”
DR

“مرحبا.. إسمي آية، وأنا ممن كانوا يعتقدون أن المصير الأفضل في الحياة هو السفر إلى سوريا للجهاد، لكنني غيرت رأيي أنا ورفيقتي هالة بعد أن حضرنا حصة الفرنسية في مقر جمعية”جيل ضد التهميش“.. لقد أوضح لي الشباب هنا أن الحياة أفضل من الموت وأن الحرية هي الأمانة التي قدمها لي الله وأن الإنسان قيمة لا تقدر بثمن”. بهذه الكلمات التي ألقتها آية أمام رفاقها في قاعة الاجتماعات بمقر جمعية “جيل ضد التهميش” بدأت إبنة الثامنة عشرة ربيعا في تقديم شهادتها عما حدث لها مع أعضاء الجمعية في فترة تعتبرها “حالكة السواد في حياتها”، فقد تمكّنت من اختراق جدران كثيفة في داخلها تمنعها من الانفتاح والحوار مع الآخر لرفضها حقيقة الاختلاف ومسلمة الحرية.

وتضيف آية1 “ربما بحديثي إلى الناس هنا في الجمعية تفطنت أنني لست الوحيدة التي قرأت الدين وأن هناك رُؤى أخرى للإسلام تمثل طاقة للحياة وليس للفناء، فالحوارات التي تدور بيني وبين أعضاء الجمعية تبدأ بالتسامح وتنتهي بالتسماح، ومن خلال هذا تفطّنت إلى أن العالم أوسع من أن يُختزل في مسار متطرف وأن الوقت الذي أمضيه في التفكير السلبي لا بد من استغلاله للكتابة حول الأدب والحضارة والتاريخ، فقد ناقشنا فترة ما قبل الإسلام واكتشفت أن فيها شعرا وفنونا كثيرة، و كذلك علمت أن الحضارة الإسلامية انتجت علوما وفلسفة وأذواقا وجماليات.. وهذا بفضل النقاشات التي دارت بيننا”.

جيل ضد التهميش

قد تكون هذه إحدى الشهادات التي يمكن أن تقدمها آية لكل من يسألها عن نشاط جمعيتها الجديدة “جيل ضد التهميش”، وهي واحدة من بين عشرات الناشطات والناشطين في هذه الجمعية التي أحيت الأمل في التغيير الشعبي والميداني، بعيدا عن تنظير السياسيين والنّخب والأكاديميين في الإعلام والصالونات الفخمة والمقاهي الفندقية البعيدة.

تقوم جمعية جيل ضد التهميش بالعمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان والمواطنة في الأحياء الشعبية، خاصة في الحي الذي فيه مقرها وهو حي “الكبارية”. و يبعد حي الكبارية حوالي خمسة كيلومترات من العاصمة تونس ويُعتبر أحد أهم الخزانات السكانية المهمشة في تونس ويبلغ عدد سكانه تقريبا (في منطقة ابن سيناء) حوالي الـ60 ألف نسمة، يعيش جلّهم في مستوى معيشي أقل من المتوسط وتصل أحيانا في مناطق مثل “حي بوحجر” إلى الفقر المدقع حيث الأبنية العشوائية ومكبات الفضلات.. حيث تعشش الجريمة ويتعاظم استهلاك المخدرات. ويقول أحمد ساسي أحد مؤسسي جيل ضد التهميش أن نشاطهم تطوعي وقد جاء في سياق غمرة التحركات الاجتماعية والسياسية التي حدثت في تونس اثناء وبعد 2011. ويضيف “إننا هنا من أجل سكان حينا المهمش وشبابه المظلوم في كل حقب وتاريخ تونس منذ الاستقلال، الوضع هنا سيء والكبارية حي عرف عنه ارتفاع نسبة الجريمة وتراجع نسبة التمدرس وظهور موجة من التطرف بعد الثورة، ونحن هنا من أجل المساهمة بما نملكه من جهد من أجل القضاء على هذه الظواهر”.

ويعاني شباب الكبارية بشكل عام من غياب المشاريع التنموية المقترحة من قبل الدولة باعتبارها إلى الآن القاطرة الرئيسية للتنمية في تونس. فمنذ بداية تشكل هذا الحي على ضواحي تونس في سبعينات القرن الماضي، قام النشاط الاقتصادي اليومي في هذا الحي والأحياء المجاورة على التجارة الطفيلية بالأساس والتي تقوم على بعث مشاريع مجهرية تقوم على تمويل ذاتي ضعيف جدا (مثل أكشاك صغيرة لبيع السجائر، أو عربات السندوتش الصغيرة فوق أرصفة الشوارع، بيع قطع غيار السيارات أمام المنازل...) وقد تعاظمت هذه الظاهرة في الثلاثة عقود الأخيرة لتصبح السمة الرئيسية لتلك الأحياء، الأمر الذي عمم الفقر وبالتالي الانقطاع المبكر من التعليم والانخراط في تلك النشاطات الطفيلية التي غالبا ما تكون خزانا لعالم الجريمة المنظمة. يقول أحمد العياري وهو أحد نشطاء جيل ضد التهميش أنه يركز دائما على استقطاب أصدقائه من المعهد الذي يدرس ووسط حيه كي يشاركهم متعة العزف على الغيثارة والاستماع إلى أنماط مختلفة من الموسيقى ومشاهدة الأفلام في القاعة المخصصة للسينما في مقر الجمعية. وقد أكد العياري أنه لاخظ تغيرا كبيرا في سلوك أبناء حيه بعد فترة من العمل والنشاط مع أصدقائه قائلا “لقد أصبحنا نتشارك الاهتمامات ذاتها، حتى أن بعض الأصدقاء أصبحوا يشاهدون أفلاما بشكل منفصل ثم يناقشونها مع المجموعة في الجمعية، وقد أضاف ذلك أفكارا جديدة لديهم واكتشافا آخر للفن وهذا شيء مفرح فعلا”.

الجامعة الشعبية

يأتي “جيل ضد التهميش” ضمن المشاريع المدنية التطوعية التي قام بها شباب مثقف أراد أن يقترب أكثر من الإنسان التونسي المهمش والمنسي بين أزقةٍ نسيت الدولة التونسية أنها تحت سيادتها ومسؤوليتها. إذ توجد أيضا “الجامعة الشعبية”.. الجامعة التي فتحت أبوابها للعموم من مختلف الأعمار والشرائح مجانا ودون أي مقابل، وكي يكون لذلك معنى فتحت هذه الجامعة أبوابها في أحد الأحياء الفقيرة والمهمشة أيضا “سيدي حسين السيجومي”.

تقول الوثائق التأسيسية لجامعة “محمد علي الحامي الشعبية” أن الجامعة بعثت في سيدي حسين نظرا للنسبة الكبيرة من الانقطاع عن الدراسة في هذا الحي وغيره من الأحياء القريبة المجاورة التي تحتضن نسبة هامة من السكان. ويشير مؤسسو الجامعة إلى أن المحتويات العلمية التي تقدم للطلبة هي محتويات تفاعلية تقوم على ديناميكية جديدة للتعليم وهي المشاركة في المضمون العلمي للحصة الدراسية، مع توفير قاعات للمسرح والموسيقى والرقص والمطالعة.. خاصة المطالعة التي بعثت الجامعة الشعبية من أجلها مكتبة هامة أُقيمت بتبرعات المساهمين وهي مفتوحة للجميع كي يطالعوا الكتب وغالبا ما تتلو حصص المطالعة ندوات للنقاش والإثراء والنقد.

ويقول نصر الدين السهيلي أحد مؤسسي النواة الأولى التي بَعثت الجامعة (وهو فنان مسرحي ومخرج سينمائي) أن الجامعة مفتوحة أمام الناس جميعا دون استثناء ممن يبحثون عن العلم والمعرفة علما أن الجامعة موجهة بالخصوص إلى الناس غير القادرين على مواصلة الدراسة في الجامعة وكل من يطمح للمعرفة في مفهومها الواسع ويبحث عنها، مضيفا أن “مشروع الجامعة لا ينتمي إلى أي حزب أو تيار أو منظومة، بل هي جامعة بعثت وسط حي شعبي لتبثّ الثقافة والنور والعقلانية إلى أعماق تونس المنسية لمكافحة الفكر المتطرف والظلامي ولتطوير عقلية المواطَنة في الأحياء الفقيرة”.

وتُقدم الجامعة الشعبية دروسا في القانون مع الأستاذ المعروف قيس السعيد ودروسا في الفلسفة والمسرح والموسيقى والأدب والحضارة من مختلف اللغات الحية وكذلك الاقتصاد السياسي والرياضيات، كما تفتح أبوابها لكل التلاميذ والطلبة في أوقات المراجعات استعدادا للامتحانات.

توجد جمعيات وقوى مدنية أخرى متطوعة تعمل في أماكن أخرى مهمشة في تونس كي تقاوم التطرف والجهل والانقطاع المبكر عن الدراسة وتساهم في تطوير فكر المواطنة وتجذيره في الشرائح الاجتماعية التي لم ينصفها تاريخ التنمية المبتور في تونس كما ظلمتها الجغرافيا لأن تلك الشرائح غالبا ما تكون في خاصرة المناطق الثرية والتي تتركز فيها الثروات والأحياء الفخمة والمعبدة والمكاتب الأنيقة. وليس المثالين المقدمين هما الوحيدين في هذا المجال، بل إن آلاف الشباب العامل بصمت في جهات تونس ومناطقها القصية يحمل في صدره رسالة نبيلة مفادها أن ما تم بدؤه سنة 2011 يجب أن يستكمل إلى آخر الطريق.. طريق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

مكافحة الفقر والعزلة

قد تبدو تسمية منوبة في تونس ذات شحنة سيميائية لها دلالة على الجنون، نظرا لوجود مستشفى الرازي للأمراض العقلية وهو المستشفى الحكومي الوحيد في مجال الأمراض النفسية والعقلية، وتبعد منوبة عن العاصمة تونس حوالي 110 كيلومترات. لكن هذه المحافظة تزخر بطاقات شبابية ضخمة في مجالات عديدة وخاصة العمل التطوعي في تبليغ أصوات أصحاب المهن الهشة إلى الجهات الرسمية المعنية في المحافظة، وبالرغم من التصاق محافظة منوبة (خاصة محافظة دوار هيشر) بأحداث إرهابية خطيرة دارت بين سنتي 2012 و2015 إلا أن أبناء المحافظة من الشباب يقاومون التطرف بالفكر والحركة والاستقطاب. يقول الناشط في الجمعية والباحث في علم الاجتماع جهاد حاج سالم “لقد كونا جمعية”أصوات منوبة“وهي جمعية شبابية هدفها العمل المدني مع أصحاب المهن الهشة مثل سائقي سيارات الأجرة دون رخصة والباعة المتجولين والباعة والفلاحين الموسميين والمعينات المنزليات وغيرها من المهن. إذ نقوم بالاتصال المباشر مع هؤلاء ونتحرى حقيقة عيشهم ونرصد أهم الإخلالات التي تحصل في حقهم في تنقلهم وخلاص أجورهم وعلاقتهم بالمشغل أو بالحرفاء أو بالسلطات، وبعد جمع هذه المعطيات نقدمها للسلطات الجهوية إما الوالي (المحافظ) أو الإدارة الأمنية أو فرع وزارة الشؤون الاجتماعية. تقديم المعطيات لهذه الإدارات يكون مصحوبا عادة بحركة ضغط من أجل حقوق تلك الفئات الضعيفة والمهمشة”.

أثناء العمل الميداني الذي تقوم به جمعية “صوت منوبة” اكتشف النشطاء أن هناك علاقة ما تربط بين تلك العائلات المهمشة والمفقرة وبين تفشي ظاهرة الإرهاب في المنطقة، خاصة في “دوار هيشر” المدينة الصغيرة التي تبعد عن مركز محافظة منوبة حوالي 5 كيلومترات. فالفقر والتهميش يؤديان إلى التطرف والانغلاق وتبني نظرة متشددة إزاء الذات والآخر والعالم. ويفسر جهاد الحاج سالم هذه الظاهرة بالقول “الفقر يشجع تلك الفئة الحلومة من الشباب على الانخراط في الجماعات المتطرفة لأنها غنية وتمتلك الكثير من المال، ويتسبب التهميش في الشعور الحاد بالقهر وعدم الانتماء إلى الدولة لأنها لم تقدم له شيئا. الشعور بالتهميش والفقر يقابله وفرة في المال وأمان الانتماء لجماعة.. هذا يجعل منك أرهابيا في أيام معدودة، وقد عملت جمعيتنا على مقاومة هذه الظاهرة بالعمل على توعية المسؤولين والدولة بضرورة محاربة ظواهر الفقر والتهميش كي تكون مقاومة الإرهاب فعالة حقاً”.

قدرة الإرهاب على التسلل إلى هذه الفئة من خلال إحباطها وفقرها لها مثيلتها أيضا بالنسبة للأحزاب السياسية الأخرى التي تنشط في تونس. فقاعدة “الاستقطاب” لتلك الأحزاب ليس البرامج والمخططات والإستراتيجيات التنموية، بل إن كسب الناس يكون غالبا بإغرائهم بالمال والعطايا الأمر الذي أثر على الحياة السياسية في تونس وأسس لطبقة سياسية فاسدة وغير قادرة على إدارة دوليب الدولة وفق منطق حكم سليم، وهو الأمر الذي أضعف صورة الديمقراطية لدى هته الفئة وحصر جل تفكيرها في الحصول على القوت ودعم من يدفع أكثر في المناسبات الانتخابية السياسية.

الخيط الناظم بين الجمعيات التي ذكرت هي العمل الميداني بين الناس والفقراء والبسطاء والشباب، وقد اختارت هذه الجمعيات النفس الميداني المباشر لتلتحم عضويا مع تلك الفئات التي تتمركز في الأطراف.. تلك الفئات التي قال عنها جورج طرابيشي أنها “معقل المعركة الحقيقية ضد غول الظلام” ظلام الفقر والتهميش والديمغاوجيا.

1لا نفصح عن هوية المتحدثين حفظاً لسلامتهم