قلق مصري من التحالف التركي - السوداني

لعبة الشطرنج في البحر الأحمر · تتزايد حدة التوتر في الشرق الأوسط بين معسكر تقوده المملكة السعودية وآخر تقوده إيران. وتتبدى آثار هذا التوتر على صعيد تواجد تركي متنامِ في البحر الأحمر، وفي تأسيس سد النهضة الأثيوبي على ضفاف منابع النيل بما يسبب إزعاجا بالغا للقاهرة.

24 ديسمبر/كانون الأول. رجب طيب إردوغان أمام المجلس الوطني السوداني
AA.

لم تمر الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسودان مرورا هادئا بالمرة، فقد نجح الرجل في إعادة خلط الأوراق الإقليمية بشكل مكنه من تغيير خريطة التحالفات في المنطقة وجر كل من مصر والسعودية إلى رد فعل قد يبدو ظاهريا بطيئا وخجولا لكنه شديد التكثيف إذا ما صدقت الأخبار حول تمركز عسكري مصري في إرتريا قامت به مصر في الأيام القليلة الماضية. ولئن ظهر التصعيد الأخير بين مصر والسودان مسألة سيادية مرتبطة مباشرة بمفاوضات سد النهضة في إثيوبيا إلا أنه يخفي تحفظا مصريا سعوديا على تحول البوصلة السودانية من الحلف السعودي المصري الإماراتي إلى الحلف القطري التركي.

البحر الأحمر وجزيرة سواكن

الحكاية بدأت فعليا مع افتتاح رئيس الأركان التركي “خلوصي أكار” لأكبر قاعدة عسكرية تركية خارج أراضيها في مقديشو في الثلاثين من شهر سبتمبر الماضي، وقد حضر في افتتاح القاعدة الرئيس الصومالي حسن علي خيري الذي قال إن الهدف من هذه القاعدة هو تدريب الجيش الصومالي على قتال جماعات متشددة من بينها حركة شباب المجاهدين. ويلي افتتاح هذه القاعدة العسكرية اتفاق بين تركيا والسودان على أن تكون إدارة جزيرة “سواكن” بين يدي الأتراك لمدة غير محددة وذلك “لترميمها وإعادتها إلى أصلها القديم” حسب تصريحات أردوغان والتي استتبعها وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندوربتصريح آخر يقول “لقد وقعنا اتفاقا يمكن أن ينجم عنه أي نوع من أنواع التعاون العسكري بين البلدين”، كما أكد وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو الأمر نفسه عندما قال “تم توقيع اتفاقيات بخصوص أمن البحر الأحمر”. مؤكدا أن تركيا “ستواصل تقديم كل الدعم للسودان بخصوص أمن البحر الأحمر”، وهذا ما استنفر الانتباه المصري والسعودي استعدادا لما يمكن أن يكون تصعيدا عسكريا في المنطقة قد يؤدي إلى اشتباكات مباشرة.

وتعتبر جزيرة “سواكن” إحدى النقاط الجغرافية المهمة في البحر الأحمر وهي تقع شمال شرق السودان على الساحل الغربي للبحر الأحمر وتتبع محافظة بورتسودان وتشغل مساحة 20 كيلومترا مربعا. عرفت الجزيرة في السابق على أنها مرسى بحري مهم تمر منها السفن القادمة من السواحل الشرقية لأفريقيا في اتجاه موانئ البحر الأحمر المصرية والسعودية كميناء القنفذة وجدة وينبع والقصير وسفاجا في اتجاه قناة السويس، وهي محطة تاريخية للحجيج واعتبرها العثمانيون نقطة استراتيجية حساسة لانتشارهم العسكري، ولا يتجاوز عدد سكانها اليوم الـ43 ألف نسمة، ولها طابع معماري خاص ومميز.

ملف جزيرة سواكن الذي لم يكن في معزل عن عدد من الاتفاقات العسكرية واللوجستية من بينها إنشاء مرسى لصيانة السفن المدنية والعسكرية التركية والسودانية مع إشارة إلى تطور هذه الاتفاقات نحو أشكال أخرى أكثر عمقا مثلما توحي به تصريحات وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور المذكورة آنفا. يمكن لهذا الملف أن يؤشر إلى وصول تركيا والسودان إلى تفاهمات أمنية لم يتمّ الإعلان عنها خلال الزيارة، خاصةً في ظل حرص أردوغان على عدم الكشف عن تفاصيل بعض الاتفاقيات التي تم توقيعها، حيث قال خلال منتدى اقتصادي ضم رجال أعمال أتراك وسودانيين، وبعد إعلانه عن طلبه تخصيص إدارة جزيرة سواكن لوقت معين من أجل إعادة تطويرها من جديد، إن "هناك ملحق لن أتحدث عنه الآن".

تحييد جبهة عبد الله كولن

ورغم أن أنقرة حاولت الإيحاء بأن تطوير تعاونها العسكري مع السودان يأتي في سياق اهتمامها بأمن إفريقيا والبحر الأحمر، إلا أن ذلك لا ينفي سعيها الحثيث إلى منافسة النفوذ العربي، على المستويين العسكري والاقتصادي، في شرق إفريقيا. كما لا يمكن فصل تلك الاتفاقات عن سعي الإدارة التركية إلى حصار ما يسميه نظام أردوغان بـ“الكيان الموازي” الذي يتزعمه المعارض التركي فتح الله غولن في تشاد، وقد تم الإعلان عن ذلك صراحة أثناء زيارة أردوغان إلى تشاد بعد زيارة السودان حيث أكد الرئيس التشادي إدريس ديبي “إن مدارسنا لم تعد بيد الإرهابيين”، في إشارة إلى حركة “خدمة” تحديدا، كما صرح أردوغان قائلا “إنه تمت إحالة إدارة كافة المدارس التي كانت تابعة لتنظيم الكيان الموازي في تشاد إلى وقف المعارف التركي”.

تسمية “كيان موازي” هي تسمية أطلقها نظام أردوغان على تنظيم “خدمة” الذي يتزعمه المعارض فتح الله غولن بعد أن فشلت محاولة الانقلاب صائفة 2016، والتي قال النظام التركي أن غولن وحركته يقفان وراءها. ويعتبر فتح الله غولن أحد أبرز المعارضين لرجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية بعد أن كانا حليفين خاصة في بداية حكم أردوغان سنة 2003 إلى حدود سنة 2013 عندما بدأت الخلافات تبرز على السطح نتيجة كشف عملية فساد داخل الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية طالت عددا من المقربين من أردوغان وعلى رأسهم نجله بلال، وأيضا لخلافات سياسية في النظرة إلى الإسلام حيث يقدم غولن نفسه على أنه صاحب أفكار أكثر تحررا وحداثة وتنويرا من أردوغان.

ولفتح الله غولن اليوم مجال نفوذ واسع في العديد من دول العالم خاصة الفقيرة منها، وأهم القطاعات التي تهيمن عليها حركة “خدمة” التي أسسها غولن سنة 1971هو قطاع التعليم. وتمتلك الحركة مدارس عديدة في مصر وبعض دول القوقاز وفي المغرب وتشاد والسودان قبل أن يتم غلقها من قبل السلطات، كما أن للحركة خدمة نشاطات تعليمية واجتماعية في بعض دول جنوب شرق آسيا وأفريقيا.

تصاعد التوتر الإقليمي

بحث وزيرا الخارجية المصري والسعودي سامح شكري وعادل الجبير تطورات الأوضاع في المنطقة العربية، وفي منطقة القرن الأفريقي وأمن البحر الأحمر “باعتباره امتداداً للأمن القومي العربي”.

وذكرت الخارجية المصرية، في بيان صحفي السبت 6 كانون الثاني/ يناير، أن ذلك جاء خلال اجتماع الوزيرين على هامش مشاركتهما في اجتماعات اللجنة العربية السداسية المعنية بالقدس في عمان. وقال المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية أحمد أبو زيد، إن “المحادثات عكست إدراكا مشتركا لطبيعة التحديات التي تواجه المنطقة، وتوافقا في الرؤى بشأن سبل مواجهة كافة أشكال التدخل الأجنبي في شؤون الدول العربية”. وحسب المتحدث، أكد الوزيران على الأهمية البالغة لزيادة التنسيق والتضامن بين البلدين في مواجهة تلك التحديات، وتبني المواقف المشتركة التي من شأنها أن تحافظ على مصالح الشعبين الشقيقين، والأمن القومي العربي واستقرار المنطقة بصفة عامة.

تتطابق هذه التصريحات مع التكهنات التي أحيطت بزيارة أردوغان إلى السودان وتشاد مؤخرا وهي أن الوجود التركي في الصومال والسودان وتشاد يمثل طوقا لمصر والسعودية خاصة وأن المناطق التي تركّز فيها الوجود التركي (خاصة العسكري) تعتبر قريبة جدا من السعودية ومصر معا، وهي مناطق عرفت تاريخيا بالمجال التقليدي للنفوذ المصري، وللأجهزة المصرية اطلاع دقيق على مجريات الأمور فيها نظرا للأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر بالنسبة لمصر وقناة السويس وأيضا جملة الموانئ الحساسة التي تقع على الساحل الغربي للمملكة العربية السعودية.

وبالرغم من نفي المصريين مرارا عزمهم إنشاء قاعدة عسكرية مصرية على الأراضي الإرترية، إلا أن عددا من التقارير يشير إلى وصول تعزيزات عسكرية من مصر إلى قاعدة “ساوا” العسكرية في إرتريا، والتي تعتبر المقر الرئيس لتدريب جنود الخدمة الوطنية، وتقع القاعدة في إقليم “القاش بركا”، وهو الإقليم المحاذي للسودان عن طريق الشرق، وقد ردت السودان على ذلك بإرسال الآلاف من الجنود إلى حامية كسلا على الحدود الشرقية وإغلاق الحدود مع إرتريا فيما ردت بعض المجموعات المتمردة من إقليم دارفور بأن تجمعت هي الأخرى على قبالة المثلث الحدودي مع إرتريا والسودان.

لم يتوقف التحرك السوداني عند تلك الحدود، بل استدعت الخارجية السودانية سفيرها في مصر مساء الخميس 4 يناير، قبل أن تتردد أنباء عن عودته ونفي الخارجية السودانية لتلك الأنباء. جاء التصعيد بعد ورود معلومات حول نية مصر إبعاد السودان من المفاوضات التي تخص سد النهضة الذي تنوي إثيوبيا إقامته قرب حدودها مع السودان على النيل الأزرق، كما لا يمكن نسيان أزمة المنطقة الحدودية بين مصر والسودان والمتمثلة في منطقتي “حلايب” و“شلاتين” التي تدعي السودان أنهما عائدتان إلى التراب السوداني. وقد جدد السودان شكواه لمجلس الأمن يوم الإثنين 8 كانون الثاني/ يناير الحالي بشأن مثلث حلايب المتنازع عليه. كما سبق لوزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة أن أدى صلاة الجمعة في مسجد حلايب بمحافظة الأحمر ونقلها التليفزيون المصري على الهواء، الأمر الذي لم يرق للسودانيين.

الخلاف حول مياه النيل

رد مصر على هذه التطورات لم يكن تصعيديا بدوره، فقد أكد أحمد أبو زيد في اتصال تلفزيوني أن مصر “تدرس هذا القرار جيدا وتقوم بعملية تقييم شاملة لمعرفة أسباب القرار وتداعياته ومراجعة الموقف بشأن العلاقات المصرية السودانية وعلى ضوء هذا التقييم سوف يتم اتخاذ الإجراء المناسب”. وأتي ذلك في ظل تصريحات من قيادات عسكرية ليبية حول مدى دعم السودان لجماعات إرهابية مسلحة واحتضانها لها وتدريبها وإدخالها إلى الأراضي الليبية. أي أن تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية قد يكون إشارة ضمنية إلى امتلاك مصر لمعلومات تفصيلية حول نشاط السودان مع الجماعات الإسلامية المسلحة وأن خيار فضح تلك المعلومات مطروح على الطاولة في حالة الاتجاه نحو تصعيد عسكري مباشر.

مفاوضات سد النهضة التي تؤرق الجانب المصري خوفا على مصالحه في تدفق مياه النيل والتحركات التي تشبه لعبة الشطرنج للجماعات المسلحة والمتمردين من إقليم دارفور على الحدود السودانية الإرترية من جهة وتبادل الزيارات بين وفود عسكرية ودبلوماسية بين السودان وأثيوبيا وتجهز مصر لاستقبال رئيس الوزراء الإثيوبي، كلها أحداث قد تؤكد تحفزا مصريا ضد التطويق التركي القطري السوداني لمصالحها ومصالح السعودية في منطقة البحر الأحمر التي تعد بوابة هشة لأي قوة أو تحالف يريد الضغط على الحلف الذي تقوده المملكة العربية السعودية والمنخرطة فيه مصر والإمارات. وجل هذه التطورات تعكس ردة فعل الحلف السعودي على انخراط السودان في الحلف المقابل بعد أن عرض السودان خدماته طويلا على السعودية بالمشاركة في الحلف العسكري العربي الذي يشن حربا ضد الحوثيين في اليمن منذ أكثر من ثلاث سنوات. وبهذا لم تكن زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة إلى السودان سوى إعلان عما يشبه تسجيل نقاط جيوسياسية وإستراتيجية على حساب الحلف المقابل خاصة مصر والسعودية.