تونس: الإعلام المسموع والمرئي تحت تهديدات المال الفاسد

رغم تزايد حريّة التّعبير في تونس منذ الإطاحة بالديكتاتور السابق، إلا أن تهديدات جديدة قادمة بالأساس من ناحية القطاع الخاص أصبحت تشكل تحديا حقيقيا يتجسد في مشروع قانون جديد.

تظهر الصورة مبنى حديث بتصميم معاصر. يتكون المبنى من عدة طوابق ويتميز بواجهة بيضاء كبيرة ونوافذ زجاجية. أمام المبنى توجد حديقة مصممة بعناية تحتوي على نباتات خضراء وأشجار. كما يظهر في الصورة بعض الأضواء الدائرية وأعمدة الإنارة. يبدو أن المبنى يحتل موقعًا مهمًا، حيث يتميز بمظهره الأنيق والمتقن.
مقر التلفزة في تونس العاصمة
Citizen59, 2012.

إنّ مشاركة أطراف من المجتمع المدنيّ في النقاش الدّائر حاليّا داخل قبّة مجلس نوّاب الشّعب بشأن مشروع القانون المتعلّق بإنشاء هيئة جديدة لتعديل السّمعيّ والبصريّ، لتذكّرنا بأنّ حريّة التّعبير تظلّ دائما المكسب الأهمّ الذّي حقّقه التّونسيّون منذ لجوء الرّئيس السّابق زين العابدين بن عليّ إلى المملكة العربيّة السّعوديّة.

ولعلّ هذا التّبادل للآراء بين برلمانيين ينتمون إلى تشكيلات سياسيّة مختلفة ومناضلين جمعياتيين يعدّ شرفا لتونس في هذا الزّمن الصعب والمخيف داخل عالم عربيّ لا يكفّ عن الانزلاق في التسلّطيّة والتعصّب والنّزاعات الدّامية. ذلك أنّ هذا الصّنف من النّقاش المتعدّد يعتبر عملة رائجة في مجتمعات يتلقّن مواطنوها منذ نعومة أظافرهم أنّ الحقّ في حريّة التّعبير والصّحافة ـ التّي هي مع ذلك ليست بلا حدود أو ضوابط ـ يمثّل حجر الزّاوية في أيّ نظام ديمقراطيّ جدير بهذه التّسمية، وأحد مفاتيح نجاحه على كلّ الأصعدة.

وقد دأبت شتّى الهيئات في الدّول الدّيمقراطيّة على دعوة ممثّلي المجتمع المدنيّ للمشاركة في المناقشات الخاصّة بمشاريع القوانين قبل عرضها عل السّلطة التّشريعيّة. ويبدو أنّ هذا التّقليد لا يزال مع الأسف في حالة تعثّر في تونس، تحت نظام أفرزته الانتخابات لكنّه ميّال إلى تفضيل الحوار مع جمعيّات قريبة من الأحزاب الحاكمة أو من رجال أعمال كدّسوا ثرواتهم تحت نظام بن عليّ.

وكان المرسوم عدد 116 المتعلّق بحريّة الاتّصال السّمعي والبصريّ وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري (هايكا) نوقش من الأطراف المعنية في الأوساط المهنية وفي المجتمع المدني قبل أن تتولى السلطة التنفيذية المؤقتة إصداره في تشرين الثاني/نوفمبر 2011.

أما مشروع القانون الجديد فلم يحظ بمثل ما حظي به سلفه من استشارة واسعة ومثمرة. وتؤكد مصادر متطابقة وجديرة بالثقة في الأوساط الجمعياتية والجامعية ان نص المشروع الذي أعدته الوزارة المكلفة بالعلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان، ما كان قط نتاج حوار بين الحكومة والمجتمع المدني “في إطار إرساء قواعد الديمقراطية التشاركية” مثلما ينص عليه الفصل 2 من الأمر الحكومي 465 لسنة 2016 بتاريخ 11 نيسان/إبريل 2016 المتعلق بإحداث هذه الوزارة.

مشروع قرار خطير

وقد اعتبرت عديد المنظمات الوطنية والدولية في رسالتين مفتوحتين وجّهتا إلى رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي ورئيس مجلس نوّاب الشّعب محمد الناصر ورئيس الحكومة يوسف الشاهد في حزيران/يونيو وكانون الأول/ديسمبر 2017، أنّ مشروع إحداث هيئة للاتّصال السّمعيّ والبصريّ عوضا عن “الهايكا” يهدّد المكاسب الدّستوريّة في مجال حريّة التّعبير والصّحافة واستقلاليّة هذه الهيئة الدّستوريّة.

وفضلا عن هاتين الرّسالتين المفتوحتين اللّتين بقيتا إلى اليوم بلا ردّ من السّلطتين التنفيذيّة والتّشريعيّة، فقد تمّ نشر دراستين نقديتين لمشروع القانون خلال الأسبوع الأوّل من شهر كانون الثاني/يناير 2018: الدّراسة الأولى أعدّتها جمعيّة “يقظة من أجل الدّيمقراطيّة والدّولة المدنيّة” عشيّة تقديم المشروع، يوم 4 كانون الثاني/يناير، أمام لجنة الحقوق والحريّات بمجلس نواب الشّعب. أمّا الدّراسة الثّانية فكانت من إعداد المنظمّة الدّولية “المادّة 19” التّي عرفت منذ إنشائها في نوفمبر 1987 بخبرتها الواسعة في تحليل مشاريع نصوص القوانين ذات العلاقة بحريّة التّعبير والصّحافة.

وقد استخرج مؤلّفو الدّراستين من مشروع القانون نقائص عديدة تفوق ضمانات احترام حريّة التعبير واستقلاليّة تعديل السّمعيّ والبصريّ المعمول بها في البلدان الدّيمقراطيّة. هذا واعتمد خبراء القانون التّونسيون الثلاثة الذّين أعدّوا دراسة تحليليّة لحساب جمعيّة “يقظة” على “الواقع التّونسيّ والتّجارب الدّوليّة المقارنة في مجال قانون وسائل الإعلام”، وأكّدوا في هذه الدّراسة على ضرورة توفّر “مشروع قانون شامل عن حريّة الاتّصال السّمعيّ والبصريّ وتعديله وفقا للمعايير الدّولية”. وذكّروا في هذا السياق بأنّ البلدان الدّيمقراطيّة تنحو أكثر فأكثر منحى توحيد النّصوص القانونيّة لا تجزئتها.

وتواصلت منذ أشهر ودون انقطاع التّحذيرات من الانعكاسات السّلبيّة لمشروع القانون على حقّ المواطن في صحافة حرّة تحترم قواعد المهنة وأخلاقياتها. وكان آخرها بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2018، وقد أرسلته إلى الحكومة حوالي ستّون منظّمة غير حكوميّة تونسيّة ودوليّة، من ضمنها منظّمات أعضاء في الشّبكة الدّوليّة لحريّة التّعبير (IFEX)، وتضمّن دعوة إلى سحب مشروع القانون.

لكنّ هذه التّحذيرات لم يكن لها وقع على إصرار الوزير مهدي بن غربيّة على تسريع وتيرة المسار المؤدّي إلى إدخال هيئة مستقلّة لتعديل السّمعيّ والبصريّ بيت الطّاعة، وهي الهيئة التّي أحدثت بنصّ قانون عارضه الوزير بشراسة استنادا إلى مزاعم واهية، إبّان مروره بالمجلس الوطنيّ التّأسيسيّ.

كما تمّت في السّنوات الأخيرة صياغة تحذيرات أخرى من قبل منظّمات غير حكوميّة تونسيّة ودوليّة تلفت النّظر إلى المخاطر النّاجمة عن رفض تطبيق المرسوم 116 طيلة حوالي 18 شهرا وإقدام الرّئاسة على غصب الهايكا بعض صلاحياتها، لا سيّما تلك المتعلّقة بحوكمة وسائل الإعلام السّمعيّ والبصريّ العموميّ.

نسمة برودكاست وصاحبها كمال القروي

إن تعجّل الحكومة المشوب بكثير من التعتيم والذي تبدو من خلاله متشبثة بالحصول على مصادقة مجلس نواب الشعب على مشروع قانون جزئي لا يشمل إلا إحداث هيئة تعديلية اقلّ استقلالية من سابقتها بكثير، لَيخدم بلا شكّ مصالح بعض أرباب وسائل الإعلام الخاصّة الذّين تنهشهم مطامح سياسيّة وتجاريّة جشعة على حساب غالبيّة المواطنين المتعطّشين لإعلام حرّ يحترم قواعد المهنة وأخلاقياتها. وأرباب الإعلام هؤلاء، والذّين يتنامى تأثيرهم على صنّاع القرار السياسيّ أكثر فأكثر هم ذاتهم الذّين لم يدّخروا جهدا منذ 2011 في شنّ حملات إعلاميّة تضليليّة. وتهدف هذه الحملات إلى نسف كلّ محاولة جادّة لإصلاح وسائل الإعلام على أسس صلبة وطبقا للمعايير الدّوليّة، وإلى إلغاء المرسوم 116 ودفع الهايكا إلى مربّع العجز كما إلى التّشهير بمناضلين جمعياتيين يتمثّل جرمهم في انتقاد سوء التصرّف لدى هؤلاء المالكين لوسائل الإعلام أو لفت النّظر إلى نقص الشّفافيّة في مؤسّساتهم وعدم احترامهم لأخلاقيات مهنة الصّحافة.

ويتقدّم مديري المؤسّسات الإعلاميّة الخاصّة نبيل القروي رئيس النّقابة التّونسيّة لمديري وسائل الإعلام ومؤسّس شركة “نسمة برودكاست” في 2008 بالاشتراك خاصّة مع “بريما تي في” و“ميدياسات انفستمنت” لصاحبها سيلفيو برلسكوني، أحد أقطاب الصّحافة ورجل السّياسة الإيطاليّ. ويهدف هؤلاء إلى حصول المصادقة على مشروع قانون أعدّ حسب المختصّين وخبراء تعديل السّمعيّ والبصريّ لتيسير وضع اليد من قبل مجموعات ضغط سياسيّة وماليّة على وسائل الإعلام السمعيّة والبصريّة الخاصّة ولتهميش وسائل الإعلام العموميّة والجمعياتيّة.1 ومعلوم أنّ نبيل القروي عضو سابق بالمكتب السياسيّ لحزب “نداء تونس” ومدير عامّ قناة “نسمة تي في” إلى حدود سنة 2016 وما زال يمارس تأثيرا كبيرا على دواليب التصرّف في هذه القناة وهو ما فتئ يزعم أنّه لعب دورا مهمّا في انتخاب الباجي قائد السّبسي رئيسا للجمهورية في 2014.

وبين 2011 و2013 تمّت تعبئة المجتمع المدنيّ وقامت الفقيدة نجيبة الحمروني الرّئيسة السّابقة للنّقابة الوطنيّة للصّحفيين التّونسيين بدور بارز في مقاومة بارونات الصّحافة المعادين لمبادئ التّعديل والمقرّين العزم على استغلال مؤسّساتهم الإعلاميّة كمعبر للوصول إلى الحكم أو لمساندة أصدقائهم السّياسيين، وهو ما ساهم بدرجة كبيرة في ممارسة ضغوط من أجل تطبيق المرسوم 116 وإحداث الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعيّ والبصريّ (هايكا) في 03 أيار/مايو 2013. وقد أضرب الصحفيون عن العمل في مناسبتين: 2012 و2013. وكانت هذه المقاومة المثاليّة، التّي آتت أكلها مسنودة من منظّمات دوليّة للدّفاع عن حريّة التّعبير ومنظّمات أمميّة كمنظمّة الأمم المتّحدّة واليونسكو والاتّحاد الافريقيّ. وأكّدت هذه المنظّمات أنّ المرسومين 115 لسنة 2011 و116 لسنة 2011 المتعلّقين على التّوالي بحريّة الصّحافة المكتوبة وحريّة الاتّصال السّمعيّ والبصريّ يمثّلان خطوة حاسمة على طريق دمقرطة البلاد التّونسيّة، وأنّهما لا يهدّدان بأيّ شكل من الأشكال حريّة وسائل الإعلام أو استقلاليتها، مثلما يزعم دوما بعض أرباب الصّحافة عديمو الصّلة بالدّفاع عن حريّة الإعلام أو عن قواعد الصّحافة وأخلاقياتها.

المال الفاسد يتحكم

وكانت حكومة الترويكا رفضت في سنة 2012 التعاون مع الهيئة الوطنيّة لإصلاح الإعلام والاتّصال والأخذ بتوصياتها ومنعت الهايكا من القيام بمهمّتها في كنف الاستقلاليّة إلى جانب تأخيرها تطبيق المرسومين 115 و116 لحوالي سنة ونصف السّنة. وما من شكّ في أنّ هذا الوضع قد ساهم في تشجيع الفوضى والتعتيم والتمرّد ضدّ أوّل هيئة مستقلّة لتعديل السّمعيّ والبصريّ في العالم العربيّ. على أنّ حظّ حماية استقلاليّة الإعلام العموميّ ومكافحة الفساد والممارسات المافيوزيّة لم يكن في حالة أفضل في ظلّ الحكومات المتعاقبة قبل انتخابات 2014 وبعدها. وحسب مصادر متطابقة من بينها الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الانسان والهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، فإنّ مظاهر الفساد والممارسات الوضيعة لم تكنّ قطّ آنذاك أكثر زحفا وتغلغلا في مفاصل الإعلام.

ولعلّه منذ سنوات لم تنعدم التقارير واتخاذ المواقف من لدن شخصيات مستقلّة للفت النّظر إلى الخطر الذّي يمثّله التّداخل بين وسائل الإعلام و“المال الفاسد” وبين وسائل الإعلام ولوبيات السّياسة والمال. وكذا الشّأن بالنّسبة إلى الدّعوات المنادية بمواصلة الكفاح ضدّ أعداء حريّة الصّحافة وضدّ الانتهاك المفزع لأخلاقيات مهنة الصّحافة. إنّ بقاءنا مكتوفي الأيدي أمام “شرعنة” الفوضى في قطاع وسائل الإعلام وأمام هذا النّوع من الخطر الخانق لحريّة الصّحافة والمثقل بالتهديدات لمستقبل تونس هو، لعمري، لشكل من أشكال الهروب الذّي يشين ولا يزين.

1كمال العبيدي: حرب بارونات وسائل الإعلام التّونسيّة على تعديل الإعلام المستقلّ « Tuunisia’s Media Barons Wage War on Independent Media Regulation », Cima.med.org : مساهمة في المؤلّف المشترك « In the service of power: media capture and the threat to democracy » Edited by Anya Shiffrin.2017. The National Endowment for Democracy