أندرو باسيفيتش، أستاذ فخري في التاريخ والعلاقات الدوليّة في «جامعة بوسطن»، تخرّج في «ويست بوينت» و«جامعة برينستون». وهو كولونيل سابق في الجيش الأميركي، شارك في فيتنام بين عامي 1070 و1971. من أبرز مؤلفاته: «حدود القوّة: نهاية الاستثنائيّة الأميركيّة»1 ، «النزعة العسكرية الأميركيّة الجديدة: كيف تُغري الحروب الأميركيين».2 وهو يعرف نفسه كشخص محافظ ويكتب دورياً في مجلة The American Conservative وفي .TomDispatch
سيلفان سيبيل. — هل ثمة فرق بين سياستي ترامب وأوباما في ما يخص التدخل العسكري الخارجي؟
أندرو باسيفيتش. — صعوبة الإجابة عن هذا السؤال، تكمن في الآتي: هل يوجد بالفعل شيئ يُسمّى بـ«سياسة ترامب»؟ عندما يتعلّق الأمر بفهم رؤية الولايات المتحدّة اليوم ونواياها، ما هو الوزن الذي يجب أن نعطيه للملاحظات التي تخرج عن الرئيس عندما يستخدم شاشة التلقين مثلاً، أو من خلال ما ينشره على تويتر، أو تعليقاته العفويّة؟ وعندما تختلف وجهات نظر الرئيس عن معاونيه، على غرار وزير الدفاع جايمس ماتيس، إلى من يجب أن نُرجع الدور في تقرير سياسة الولايات المتحدة فعلياً؟ ليس لديّ جواب صالح لهذه الأسئلة. وأتوقّع أنّ القادة في بيكين وطوكيو وموسكو وبرلين وباريس لا يملكون أجوبة أيضاً. إنّ عدم اليقين الناتج عن هذا الأمر هو أحد العوامل التي تجعل هذه الفترة خطيرة.
أمّا فيما يخصّ التدخل العسكري، فإنّ ما نستطيع قوله هو الآتي: ما يسمّى بالـ«انعزالية» كشعار شكّل محوراً بارزاً في حملة ترامب، لا ينطبق بأي حال على سياسة هذه الإدارة. فالاستعداد الجامح لاستخدام القوّة الذي اتصفت به الإدارات السابقة، يستمر مع الإدارة الحالية. لقد وعد ترامب بأن يربح حروب أمريكا، أو بأن يجعلها تغادرها. ولكنّه، بباسطة، سيواصلها، وهذا واضح في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن والصومال. إنّ تخميني ــ وهو ليس أكثر من تخمين ــ هو أنّ التصعيد في الانخراط العسكري الأميركي في هذه الأماكن يعكس ميل الجنرالات الذين يشغلون المناصب العليا في الإدارة، أكثر مما يعكس الخيارات الشخصية لترامب.
كيف يختلف تسيير الحروب الأميركيّة اليوم عمّا كان عليه الأمر تحت إدارة أوباما؟ الفرق الأهمّ هو تركيز أكبر على استخدام القوّة الجويّة مع اعتبار أقّل للضحايا المدنيين. إنّ المقياس الأكبر للاستمراريّة هو أنّ هذه الإدارة، كما سابقتها، لا تملك جَلداً لمجابهة عدد كبير من الخسائر البشريّة الأميركية. نحن نريد من الآخرين أن يقاتلوا ويموتوا عوضاً عنا.
س. س. — قاد ترامب حملة ملتبسة، مدافعاً عن تقليص التدخل الأمريكي خارج الحدود وعن تعزيز القوة العسكريّة الأميركيّة، في نفس االوقت. الآن، وبعد مرور العام الأول لحكمه، هل يمكننا أن نحدّد إستراتيجيّة دوليّة عامّة متناسقة؟
أ. ب. — تتواصل نقاشات عدّة في واشنطن حول الزيادة في النفقات العسكريّة الأميركيّة، دون أن يُقدِّم أيّ كان تفسيراً واضحاً عن ضرورة الأمر. في الوقت الحالي، فإنّ الأزمات المختلفة القائمة ــ لا سيما الجدل المتعلّق بالارتباط المزعوم لحملة ترامب بروسيا ــ يجعل من الصعب على الكونغرس الانخراط في نقاش عقلاني حول سياسة أمن قوميّ. وبينما سبق للبيت الأبيض أن أصدر «إستراتجية الأمن القوميّ»، فيما أصدر البنتاغون «إستراتجيّة الدفاع القوميّ»، فإنّ الوثيقتين تستفيضان في الخطابة في وقت أنّهما توجزان التفاصيل الملموسة. وقد أثارت كلاهما موجة تفاعل صغيرة، سرعان ما تلاشت كليّاً تقريباً بعد ذلك. أظنّ أنّ هذه الإدارة، تستهلكها الاعتبارات قصيرة المدى على حساب الأمور بعيدة المدى، وذلك أكثر من سابقاتها. إذا ما كان اتفاق، أو مبادرة ما، يجلب منفعة آنية للولايات المتحدة الأميركية، فإنّ إدارة ترامب تدعمه. أمّا إذا تطلّب الاتفاق، أو المبادرة، تحمّل تكاليف على المدى القريب مع منافع لاحقة، فإنّ إدارة ترامب تكون ضدّه.
وإذا كانت الإدارة الحالية قد أدخلت محوراً ما على النقاشات الراهنة بشأن الشؤون العالميّة، فهو محور «تنافس القوى الكبرى». وهو يبدو مرتكزاً على التعامل مع روسيا والصين، على أساس أنّهما خصمان. طبعاً، فإنّ روسيا، ومن عدّة أوجه، قوّة تتراجع، بينما تُمثِّل الصين الشريك التجاري الأكبر لأميركا. في تقديري، سيكون لواشنطن تقييم أكثر واقعية لوضع البلاد، إذا ما أقرّت بأنّ عالمنا الآن أصبح عالماً متعدد الأقطاب، لم تعد تنطبق فيه تقسيمات «حليف» و«خصم».
س. س. — يسعى ترامب إلى أن يجسّد، في نفس الوقت، النزعتين التقليديتين الرئيسيتين للسياسة الخارجية الأميركية: النزعة الانعزالية والنزعة الإمبريالية. هل لإحداهما أفضليّة على الأخرى في الواقع؟
أ. ب. — أنا لا أتّفق مع منطلق سؤالك. «الانعزاليّة» أمر خيالي: لم تمرّ الولايات المتحدّة الأميركيّة من وضع الجمهوريّة الضعيفة والهزيلة في ثمانينيات القرن الثامن عشر إلى وضع الأمّة الأغنى والأكثر نفوذاً في أربعينيات القرن العشرين من خلال عزل نفسها عن العالم. إنّ المحور الأساسي لسياسة الولايات المتحدة كان منذ البداية التوسّع الانتهازي ــ انتهاز الفرص عندما تسنح، وذلك لتصبح أكبر وأغنى وأكثر قوّةً. وبرغم بعض الخطوات الخاطئة، فقد عملت هذه المقاربة ببراعة لمدّة قرنين من الزمن.
عندما انتهت الحرب الباردة، كثرٌ في أميركا تصوروا أنّ الولايات المتحدّة قد حقّقت التفوّق الدائم، وأنّ التاريخ ذاته قد بلغ «نهايته». كان هذا ذروة الجنون. أعتقد أنّ مشكلتنا اليوم تتمثّل في أنّه لم يعد ثمة مجال للنزعة التوسّعية، في وقت أننا لم نضع إستراتجيّة بديلة، كما أنّه لا توجد أيّ مؤشرات على أنّ إدارة ترامب ستفعل ذلك.
س. س. — في الشرق الأوسط على وجه التحديد، هل ترى إستراتجيّة متينة لترامب؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فما هي مرتكزاتها؟
أ. ب. — عندما يتعلّق الأمر بالإدارة الحالية، فأنا أتردّد في الإجابة على أي سؤال يتضمّن مصطلحات على غرار «متين» و«إستراتيجيّة». يبدو الرئيس غافلاً عن تعقيدات سياسات الشرق الأوسط، وهو أيضاً غير مستعدّ للتمكّن منها. إعلان انتقال سفارة الولايات المتحدة إلى القدس كان لفتة لقاعدة ترامب السياسية، وهي حركة خلقت لحظة دراميّة كان خلالها ترامب اللاعب المركزي. ولكنّها لا تعني شيئاً. أيّاً كان يظنّ أنّ ترامب قد قتل بذلك «عمليّة السلام»، فهو لم ينتبه إلى أنّ «عمليّة السلام» هذه قد ماتت منذ سنوات. نتنياهو كان يخادع واشنطن لسنوات.
أمّا فيما يخصّ علاقة ترامب الرومنسية بالعائلة السعوديّة المالكة، فأنا لا أجد تفسيراً لها. نحن لا نحتاج النفط السعودي ــ مرّة أخرى أصبحت الولايات المتّحدة المنتج الأوّل للنفط الخام في العالم. كما أنّه لا مصلحة لنا بالتأكيد في التنافس السعودي ــ الإيراني، أو في الخلاف بين الإسلام الشيعي والإسلام السنّي. لن يأتي خير جرّاء الانحياز للسعوديّة في السياسة الأميركيّة. أو دعني أصحّح: لا خير سيأتي سوى الكثير من بلايين الدولارات من مبيعات الأسلحة التي ستستفيد منها المنظومة العسكريّة ــ الصناعيّة الأميركيّة.
س. س. — بعد إعلان تمديد وجود الولايات المتحدّة العسكري في أفغانستان، ألا تقود سياسة ترامب الآن إلى تواجد أميركي مستمّر لفترة طويلة في سوريا أيضاً؟
أ. ب. — نعم، بالطبع. ما هو مثير للاهتمام أكثر هو أنّ الإعلان عن بقاء القوّات الأميركيّة في سوريا لفترة غير محدّدة قد مرّ دون أن يلفُت انتباه الأميركيين. ولا أبالغ في التأكيد على النقطة الآتية: إنّ الولايات المتّحدة الآن في حالة حرب مستمرّة، والمواطنون الأميركيون ليسوا منزعجين على الإطلاق من هذا الواقع ــ أو على الأقلّ هم غير منزعجين ما دامت الغالبيّة العظمى للقتلى هي من غير الأميركيين. هذا ما يوصّف «الطريقة الأميركيّة الجديدة في الحرب»، والتي بدأها أوباما وبلغت الآن حالة من الإتقان مع ترامب: عمل عسكري مستمرّ، مع أقل ما يمكن من الخسائر البشريّة الأميركيّة، وإنجازات سياسيّة لا تكاد تذكر.
س. س. — لماذا اختار ترامب أن يجعل من إيران عدوّه الأوّل في الشرق الأوسط، وحتّى على نطاق عالمي؟
أ. ب. — يبدو واضحاً أنّ الجنرال ماتيس والفريق ماكماستر3 معاديان لإيران. ويعود ذلك إلى تجاربهما في حرب العراق حيث دعمت إيران المقاتلين المعادين للولايات المتحدّة، وقد منحت الأخيرة أسباباً لإيران للتصرّف على هذا النحو من خلال: أ) إعلان إيران جزءاً من «محور الشرّ»؛ ب) اعتماد سياسة الحرب الوقائيّة؛ ج) اجتياح العراق، وهو بلد يمكن القول إنّ لإيران فيه مصالح حيويّة، وهذه الأمور لا يبدو أنّها تدخل في حسابات أناس مثل ماتيس وماكماستر. لم تكن سياسات إيران حميدة، ولكنّها كانت عقلانيّة. (في المقابل، السياسات السعوديّة لم تكن لا حميدة ولا عقلانيّة). هذا دليل واضح على عدم قدرة هذه الإدارة على مجاراة اللعبة طويلاً.
س. س. — تناولت في كتابك فكرة «نزعة عسكرية أميركيّة جديدة»، تشكّلت بعد الحرب الباردة. ما هو موقف ترامب من هذه «النزعة العسكرية الجديدة»؟
أ. ب. — تستمر النزعة العسكرية الأميركيّة برغم رقم يكاد يكون قياسياً من الفشل وخيبات الأمل الناتجة عن التدخّلات العكسريّة للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. لقد تداخلت النزعة العسكرية مع الثقافة الأميركيّة المعاصرة، وهي تظهر في كلّ الأحداث العامّة تقريباً. فالتعبير عن التعاطف والدعم «للقوّات» أصبح جزءاً ــ وربّما الجزء الأهمّ ــ من ديننا المدني. وكما هو الحال في جميع الأديان اليوم، فإنّ حاصل النفاق يميل إلى الارتفاع. فنحن ندعم القوّات من بعيد، دون إيلاء أي اهتمام إلى مكان وجودها، وما الذي تقوم به ولماذا.
س. س. — ذكرت أيضاً فكرة مفادها بأنّ الولايات المتحدّة أصبحت بلداً «في حالة أزمة أمن قوميّ مستمرّة»، إذ إنّ فكرة كونها في «حالة حرب» موجودة دوماً منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. هل تحتاج الولايات المتحدّة دائماً إلى «عدوّ»، حقيقي أو متخيّل؟
أ. ب. — بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، أشار وزير الخارجيّة دين آتشيسون إلى أنّ بريطانيا العظمى قد خسرت امبراطوريّتها ولم تجد لنفسها دوراً بعد. تواجه الولايات المتّحدة اليوم تشخيصاً مماثلاً. انتهى عصر الصعود الأميركي، والنظام العالمي بصدد التغيّر بطرق مذهلة ــ ليس فقط بظهور لائحة جديدة من القوى العظمى، ولكن أيضاً بتصاعد مجموعة من المشكلات الجديدة، بما فيها تحديّات على غرار التغيّر المناخي. ما هو الدور الخاص بالولايات المتّحدة في هذا النظام الجديد؟ لا نعرف. وإدارة ترامب غير مؤهّلة لإعطاء إجابة. هل كانت هيلاري كلينتون ستبلي بلاءً أفضل؟ أشكّ في ذلك. فكلينتون تمثّل نظاماً قائماً لا يزال غارقاً في ماضٍ لم يعد موجوداً. حين يتعلّق الأمر بالسياسة الخارجيّة، فإنّ واشنطن4 قد أصبحت منطقة ميّتة.
س. س. — هل يمكن أن تقود المسألة الإيرانيّة إلى إمكانيّة حرب في الشرق الأوسط تشارك فيها الولايات المتحدّة بشكل مباشر أو غير مباشر؟ وما هو رأيك في فكرة أنّ ترامب يمكن أن يشنّ حرباً إذا ما وُضع في مأزق سياسي محليّاً؟
أ. ب. — من الواضح أنّ ترامب متهوّر، حتّى في الأمور المتعلّقة باستخدام القوّة. لنتذكّر القصف الجوّي الذي أمر به ضدّ مطار عسكري سوريّ بعد تولّيه الرئاسة بفترة قصيرة ــ قرار يبدو أنّه اتّخذه بعد مشاهدة صور تلفزيونيّة تُظهر أطفالاً سوريين تعرّضوا لهجوم بالغاز. عندما أعطى ذلك الأمر، استجاب الجيش الأميركي. ولكن هل يطيعه الجنرالات إذا ما تصرّف حسب هواه وأعطى أمراً بهجمة استباقيّة ضدّ إيران أو كوريا الشماليّة؟ تخميني هو نعم. لكنّ أملي هو أنّ أشخاصاً أعقل قد يتدخّلون لإقناع الرئيس بالتراجع عن قراره. لكنّ هذا الأمر مقلق بلا شكّ.
1The Limits of Power: The End of American Exceptionalism (Metropolitan Books, 2008)
2The New American Militarism: How American are seduced by wars (Oxford University Press, 2005)
3مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي (المترجم).
4في اللغة السياسية الأمريكية يشار بكلمة واشنطن ليس فقط إلى الحكومة وإنما إلى مؤسسات صناعة الرأي والقرار بصفة عامة.