الاتحاد الأوروبي مسؤول عن أزمة اللاجئين!

عادة ما يتمّ تبرير الدعم الأوروبي لديكتاتوريات عربية بأن الأنطمة السلطوية تمثل متاريس ضد الإرهاب من ناحية وضد الهجرة غير الشرعية من ناحية أخرى. والحقيقة أن العكس هو الصحيح.

4 سبتمبر 2015، لاجئون سوريون يتظاهرون في محطة قطار بودابست.

صارت سياسات الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية بشأن اللاجئين والهجرة غير النظامية مسألة مثيرة للجدل داخل أوروبا وخارجها. هذه السياسات ليست سوى انعكاس للاستراتيجيات الأوروبية تجاه المنطقة العربية. أتفق مع خبراء أوروبيين في أن هذه الاستراتيجية تتسم بقصر النظر وتناقض قيم الاتحاد الأوروبي وتضر بأمنه على المدى الطويل، فضلا عن ضررها برفاهية وتطلعات شعوب أوروبا والمنطقة العربية. تشكلت هذه الاستراتيجية بناء علي مفاهيم مغلوطة لا تقدم سوى حلول قصيرة الأمد وغير مستدامة تقوم على حسابات سياسية ضيقة وتحليل غير دقيق للديناميات السياسية في المنطقة.

على مدى السنوات القليلة الماضية، سيطرت أولويتان على نظرة صانعي السياسات الأوروبيين إلي المنطقة العربية، وهما خطر الإرهاب ووقف تدفق اللاجئين والهجرة غير النظامية. استنادا إلى ضرورة معالجة هاتين الأولويتين، وضع الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء استراتيجيات قصيرة النظر جعلت من المستحيل معالجة الأسباب الجذرية للإرهاب وأزمة اللاجئين. واستندت هذه الاستراتيجية إلى غض الطرف عما يفعله الحكام الدكتاتوريون بشعوبهم في المنطقة العربية مقابل تعاونهم في مجال الأمن ومراقبة الحدود؛ وبشكل أعم، استندت هذه الاستراتيجية على إدراج نوع من المشروطية متعلقة بملف الهجرة في اطار التعاون الثنائي. غالبا ما يجري تبرير الشراكات الأوروبية مع الحكام العرب الاستبداديين بالفكرة الخاطئة القائلة أن الربيع العربي تسبب في الفوضى التي سمحت بانتشار الإرهاب في الشرق الأوسط وزيادة أعداد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. ولكن هذا لا يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة.

من المغرب إلى العراق مرورا بسوريا

يمكن فهم الربيع العربي بشكل أفضل على أنه محاولة للدفع بالإصلاح لوقف الفوضى من الانتشار في المنطقة. على مدى عقود، قاوم الحكام الاستبداديون العرب بعنف محاولات شعوبهم السلمية للدفع باتجاه إصلاح جدي. وتحقيقا لهذه الغاية، قام بعض الحكام بقتل شعوبهم بالغاز وبغيره من الأسلحة الكيميائية.1 ولجأ آخرون إلى التطهير العرقي، وعمليات القتل خارج نطاق القانون، والاختفاء القسري على نطاق واسع، والتعذيب المنهجي، والاحتجاز التعسفي، والمحاكمات الجماعية المسيّسة.2

لم تترك هذه السياسات الوحشية مجالا للإصلاح الاجتماعي أو الاقتصادي. وكان الهدف الرئيسي للحكام الاستبداديين هو القضاء على أي بديل مقبول لحكمهم وبأي ثمن، بما في ذلك علي حساب مؤسسات دولهم. وقد أدت تلك الممارسات الوحشية إلي قتل آفاق الاستقرار المستدام في هذه البلدان، المرتكز علي التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

إن التلاعب بأزمة اللاجئين هو مثال رئيسي على المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الحكام العرب من أجل تأمين سلطتهم. في سوريا، قتلت قوات الرئيس بشار الأسد وحلفائه 90٪ من القتلى المدنيين (الذين يصل عددهم إلى أكثر من 190,000 شخص). أحد الدوافع وراء الضربات الجوية العشوائية للأسد ضد المدنيين السوريين كان تعزيز موقفه السياسي و غمر أوروبا باللاجئين ليفقدها توازنها ويجبرها علي مراجعة مواقفها الرافضة لاستمراره في الحكم. ومن الجدير بالذكر أن أكثر من 50٪ من سكان سوريا قد صاروا إما لاجئين أو مشردين داخليا، ناهيك عن أنه بحلول عام 2015، وصل تدفق اللاجئين من سوريا إلى أوروبا إلى مليون شخص.

منذ انطلاق الثورة السورية، صور الأسد مجازره الوحشية ضد شعبه على أنها حرب ضد التطرف، مؤكدا أنه هو مركز الثقل الوحيد ضد الإرهاب، ولكن الواقع على الأرض كان مختلفا. في عام 2011، بدأ الأسد بإطلاق سراح الجهاديين من السجون، ما أدي في وقت لاحق إلى تنشيط الشبكات الجهادية السورية، وهو الذي مكّن من ميلاد داعش. ذكر الملك عبد الله الثاني ملك الأردن في عام 2015، متفقا مع العديد من الخبراء الغربيين، أنه في حين كانت داعش في طور التشكيل “كان النظام السوري يضرب الجميع باستثناء داعش. ... فقد كان بحاجة إلى إيجاد طرف في الصورة يكون أكثر شراً من الأطراف الموجودة على الساحة”. بعبارة أخرى، كان الأسد في حاجة إلى وحشية داعش المذهلة، حتى يجعل جرائم الحرب التي ارتكبها تبدو أقل وحشية بالمقارنة، بل ربما مقبولة. فلم يقتصر الأمر علي تركيز نظام الأسد جهوده الحربية على أي طرف غير داعش، بل كان أيضا أكبر مصدر لتمويل لداعش من خلال شراء الغاز والنفط منها. أولى قليلون الانتباه إلى هذه الحقائق، ويبدو أن الغالبية العظمى من الدول التي كانت تدعو سابقا لإسقاط الأسد ترى الآن انه يجب ان يبقى في السلطة لوقف الإرهاب. ولن أكون مندهشا إذا رشحوه أيضا لجائزة نوبل للسلام!

سياسة السيسي تشجّع الإرهاب

إن النجاح المبهر لاستراتيجية الأسد المتلاعبة جرت محاكَاتها بشكل مثير للدهشة في مصر. عندما يُسأل الرئيس عبد الفتاح السيسي عن سياساته الوحشية، فإنه غالبا ما يرد بأن مصر هي أمة تضم أكثر من 90 مليون شخص في منطقة مضطربة، ملمحاً إلي أن عدم الاستقرار في مصر سيؤدي إلى موجات من اللاجئين أكبر بكثير من تلك التي خرجت من سوريا ذات التعداد السكاني الأصغر. إن بطاقة السيسي الرابحة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الآن هي التهديد بالانهيار.

هذا التهديد المقنّع يلعب على سيكولوجية الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الغارقة في حسابات سياسية قصيرة النظر يتم علي أساسها صياغة ترتيب أولوياتهم. وهي قصيرة النظر لأن الاتحاد الأوروبي ودول مثل فرنسا الخائفة من الإرهاب ووصول المزيد من اللاجئين والمهاجرين، تواصل التواطؤ مع سياسات الحكومة المصرية القمعية على الرغم من أن تلك السياسات هي في الواقع تؤجج الإرهاب وتزيد أعداد اللاجئين والمهاجرين. كما أدت سياسات الحكومة المصرية إلى انتشار الإرهاب داخل البلاد منذ تولي السيسي السلطة، إذ زاد عدد الجماعات الإرهابية الناشطة في مصر واتسع نطاق الهجمات الجغرافية، بداية داخل شمال سيناء، إلى أن فاضت إلي المدن المصرية الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية وطنطا. كانت الهجمات تستهدف في البداية بشكل حصري تقريبا أفراد الأمن، ولكنها تستهدف الآن المدنيين، بمن فيهم المسيحيين الأقباط. وقد أدىت إحدي الهجمات مؤخراً الى مصرع اكثر من 300 من المصلين المسلمين الصوفيين.

هذه الهجمات القاتلة والوحشية لم يسبق لها مثيل قبل صعود السيسي إلى السلطة. بالإضافة إلى ذلك، هناك شهادات عديدة حول انتشار التطرف في السجون المصرية. فقد نشر سجين سياسي مصري سابق شهادته على أوريان 21 وتضمنت أن سجناء داعش يتم الإفراج عنهم بسهولة أكبر من أولئك الذين ينتمون إلى الإسلاميين المسالمين. وعزا ذلك إلى أن الأولوية الحقيقية للحكومة ليست مكافحة الإرهاب، بل تقويض أي جماعة سياسية سلمية منظمة قادرة على تعبئة المواطنين، بداية باليسار والليبراليين إلى الإسلاميين السلميين. هذا الفشل في مكافحة الإرهاب،والذي يقابل في أغلب الوقت بصمت أوروبي، خلق أيضا ظروفا أدت إلي التهجير القسري لمسيحيي سيناء، حيث هربوا من ديارهم بعد أن هاجمتهم داعش. وفي الوقت نفسه، يصدر كبار المسؤولين الأوروبيين تصريحات مثيرة للقلق على وتيرة “السيسي ينقذ أوروبا والشرق الأوسط”.

“نحن لسنا أحياءً هنا”

إن الفوضى في المنطقة العربية ليست نتيجة للربيع العربي، بل هي نتيجة مقاومة الحكام المستبدين الوحشية لما يجسده الربيع العربي. بين عامي 2011 و 2016 وصل نحو 630,000 من اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين إلى إيطاليا عبر البحر الأبيض المتوسط. ولكن نحو 80٪ من هؤلاء قاموا برحلتهم بين عامي 2014 و2016، وهي ذروة سنوات الثورة المضادة وقمع قوى الربيع العربي.

في عام 2016، غرقت سفينة مهاجرين غير شرعيين قبالة ساحل مصر مات فيها أكثر من 200 شخص، وقال الناجون إنهم بالفعل يخططون للمحاولة مرة أخرى للوصول إلى إيطاليا. ونقلت الصحيفة عن رجل قوله: “نحن لسنا أحياء هنا، فلماذا لا نخاطر بالموت؟” وهذا يؤدي إلى السؤال: كيف يمكن للاتحاد الأوروبي مساعدة هؤلاء على البقاء و“العيش” في وطنهم بدلا من الموت في البحر؟ الجواب قصير النظر الذي يتكرر كثيرا، هو زيادة المساعدات التنموية والأمنية لمحاربة الفقر وتحسين مراقبة الحدود. لكن للأسف تعتمد هذه المقاربة علي نفس الوسائل غير الفعالة نسبيا، كما ثبت من قبل. فبدون معالجة للأسباب الجذرية للفقر وانعدام الأمن والظلم والتهميش التي تخلق اللاجئين والمهاجرين الباحثين عن الأمل والسلامة وسبل العيش، تمنح هذه المساعدات الحكام الفاسدين دفعة قصيرة الأجل دون أن تدفعهم إلى تغيير سياساتهم الأكثر تدميرا. فقد خنق المستبدون العرب، مثل عبد الفتاح السيسي، وببطء الفاعلين الأساسيين في تنفيذ الاستراتيجيات الإنمائية للاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، أي المنظمات غير الحكومية الإنمائية المحلية والدولية.3 وبالإضافة إلى ذلك، فإنه دون حكم رشيد ومحاربة للفساد،4 وانهاء للقمع المنهجي للشباب والمجتمعات المهمشة، والنقابات، فإن جهود الاتحاد الأوروبي ستستمر دون جدوى. ولا يزال يجري امتصاص المساعدات الخارجية دون التأثير على التوجهات العامة للاضطهاد والحوكمة الفاشلة والتخلف. بحسب روبرت سبرينجبورج، وهو خبير أكاديمي بارز في الشأن المصري، فإن المسار الحالي سيؤدي على الأرجح إلى انهيار الدولة.5 أي إنتاج سوريا أخري.

أتذكر شخصياً العديد من الحالات الفردية التي أعرفها من المصريين المقيمين في الخارج الذين عادوا إلى مصر خلال وبعد انتفاضة يناير 2011 التي أطاحت بحسني مبارك. لقد فعلوا ذلك مؤمنين بأن بلادهم تمر بمرحلة انتقالية ويمكن أن تصبح دولة متقدمة وحديثة. فعلوا ذلك لأن الربيع العربي أعطاهم الأمل والفرصة للمشاركة في مستقبل بلادهم ، لأول مرة في حياتهم. ولكن اليوم، فإن معظم الذين ذكرتهم قد غادروا مصر مرة أخرى، مع العديد من الآخرين الذين لم يفكروا أبدا في مغادرة بلدانهم في المقام الأول، بمن فيهم أنا شخضيا. لقد طردهم الإحباط واليأس والغياب الكامل للأمل في أن يتمكن بلدهم من المضي قدما ولو خطوة واحدة طالما استمر على مساره الحالي. لا يتعلق الأمر بالديمقراطية وحقوق الإنسان فحسب بل يتعلق أيضا بالتخلف وعدم الكفاءة والاختلال الوظيفي والفساد السياسي والمالي المتجذر مؤسسيا، والانزعاج المتأصل بين النخبة الحاكمة من التقدم والتحديث حيث تهدد تلك المبادئ الهدف الأساسي للنخبة الحاكمة، وهو الاستمرار في السلطة للأبد. وبالإضافة إلى ذلك، فإن القمع المستمر للتطلعات المشروعة للشعب من أجل حياة أفضل يبعث برسالة واضحة مفادها أن الشعوب ليسوا مواطنين، بل ضيوفا في بلدانهم.

يحتاج الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية مثل فرنسا إلى إعادة النظر في استراتيجيتهم الأوسع نطاقا تجاه المنطقة. إنهم بحاجة إلى التمسك بقيمهم وبعث الأمل. هذا الأمل سيترجَم في نهاية المطاف إلى تطوير شركاء موثوقين وشعوب يفضلون بناء بلدانهم، بدلا من الفرار من ديارهم وغرقهم في البحر سعيا لتحقيق حياة آمنة وكريمة في مكان آخر.

1على سبيل المثال، قام صدام حسين بشن هجوم كيميائي سيء السمعة في حلبجة ضد الأكراد العراقيين في عام 1988. كما استخدم بشار الأسد أسلحة كيميائية ضد المدنيين على مدار الحرب الأهلية السورية.

2مجزرة حافظ الأسد للمدنيين خلال قصفه العشوائي لحماه، والإبادة الجماعية التي ارتكبها صدام حسين ضد الأكراد العراقيين باستخدام الأسلحة الكيماوية، والفظائع التي ارتكبها ضد المدنيين الشيعة خلال انتفاضة عام 1991 حيث قتل نحو 100 ألف شيعي، فضلا عن وحشية الملك الحسن الثاني المروعة خلال “سنوات الرصاص” في المغرب، كلها تقدم لمحة عما يستعد المستبدون العرب لفعله ليستمروا في السلطة دون منازع.

3أصدرت مصر مؤخرا قانونا للمنظمات غير الحكومية من المتوقع أن يجبر 70٪ من الجمعيات التنموية والخيرية في مصر على الإغلاق، .وهذا يساوي حوالي 30,000 جمعية

4قام الرئيس السيسي بفصل هشام جنينة، الرئيس السابق لهيئة الرقابة الإدارية في مصر، من منصبه ثم حكم عليه بالسجن لمدة سنة واحدةلإعلانه أن الفساد في مصر يكلف الدولة 68 مليار دولار أمريكي

5Egypt”, Polity Press 2018