انسحاب ترامب من اتفاق النووي يترك إيران في وجه تناقضاتها. فالخطاب المعادي لأمريكا ترافقه نيو ليبرالية يبدو غير متوافق مع اقتصاد بترولي وعولمة تحت سيطرة سلطة واشنطن القضائية. وفي عشية العودة المبرمجة للعقوبات الأمريكية أحادية الجانب (بين آب/أغسطس وتشرين الثاني / نوفمبر) يجدر بنا أن نطرح أسئلة حول ردة الفعل الإيرانية، ردة فعل سيحددها عاملان رئيسيان.
إصلاحات اقتصادية لا تحظى بشعبية
أولهما، هو الحفاظ على بقاء النظام الإسلامي. فبعد مرور أكثر من تسع وثلاثين سنة على الثورة، تمرّ الجمهورية الإسلامية بأزمة شرعية فاقمتها الإخفاقات الاقتصادية. وترغب غالبية الشعب في أن تكون هذه المسائل الاقتصادية في مركز مشروع البلاد السياسي، ما يشكل قيداً يؤثر على قرار السلطات فيما يخص البقاء أو الانسحاب من اتفاق النووي الذي عقد 14 تموز/يوليو 2015. فقد انخفضت معدلات النمو من 6.5% في عام 2016 إلى 3.3% في عام 2017. ومن المنتظر أن تسرّع العقوبات الأمريكية هذا الانخفاض، وقد تعني العودة إلى حالة الركود السابقة. بالإضافة إلى ذلك، تهدف الاستراتيجية الأمريكية إلى تغيير النظام الإيراني دون تدخل عسكري. فالهدف إذن هو التحريض على قيام انتفاضة شعبية ضد الجمهورية الإسلامية. بعبارة أخرى، فكرة إدارة ترامب هي زعزعة النظام من الداخل لينصرف عن السياسة الإقليمية التي ينظر إليها خصومه الإقليميين، كالمملكة العربية السعودية وإسرائيل، على أنها سياسة هيمنة.
المخاطرة مضاعفة: فبداية،هذه الاستراتيجية تهدد بداية بزيادة قمع الدولة للحركات الاجتماعية (طلبة، عمال، بيئيين، إلخ) وتحويل النظام بمرور الزمن إلى حكم ثيوقراطي عسكري. الرئيس المعاد انتخابه حسن روحاني يجد نفسه منهكاً بشكل مضاعف قبل ثلاث سنوات من انتهاء فترته الرئاسية. فهو يواجه موجة احتجاجات داخلية تتخذ شكل إضرابات ومظاهرات لن تكبحها سياسته الاقتصادية النيوليبرالية التي تنفذ توصيات صندوق النقد الدولي. أثناء فترته الرئاسية الأولى (2013ـ 2017) تبنت إيران سلسلة من الإصلاحات الهيكلية، محاولة تثبيت سعر الصرف، وخفض معدل التضخم، وإصلاح المصارف التي كانت قد أقرضت أشخاصاً غير قادرين على سدّ القروض. لكن كان لهذه الإجراءات أثراً سلبياً على مستوى معيشة الطبقات الشعبية. وقد خسر الكثير من المُدَّخرين مدخراتهم بسبب ذلك. حيث أن “تصحيح الأسعار” تسبب بارتفاع كلفة المواد الأولية والسلع الأساسية، التي أصبحت مدعومة بشكل أقل من قبل الجمهورية الإسلامية.
ثانياً، يجب تحليل ردة الفعل الإيرانية وفق المبادئ الأيديولوجية للجمهورية الإسلامية وتطبيقها الذي يتخذ شكل واقعية سياسية. هذان المتطلب المضاعف حاضر في المؤسسات التي يوجد فيها فهم مشترك للـ «أمن القومي" انطلاقاً من تعاريف متضاربة.1 المرشد مثلاً يتكلم لغة الثورة الإسلامية وتحدي المؤسسات الدولية، بينما تتحدث الحكومة ووزارة الشؤون الخارجية عن احترام القانون الدولي وحماية المصالح الوطنية.
وعلاوة عن ذلك، نلاحظ وجود تناقض بين الليبرالية الاقتصادية التي دعا إليها المعتدلون والمصلحون في إيران، واعتماد الدولة التي تمول الاقتصاد على الريع، والمعاداة الأيديولوجية لأمريكا الموروثة عن فكر آية الله الخميني، والموجودة في قلب المؤسسات الثورية في الجمهورية الإسلامية (الحرس الثوري، السلطة القضائية، مكتب المرشد الأعلى، إلخ). فشل بداية الفترة الرئيسية الثانية يطرح سؤال التوفق ما بين الشعارات الثورية المعادية لأمريكا التي تُرفع كل صلاة جمعة والنجاح في إعادة إدخال إيران في عولمة اقتصادية تسيطر عليها الولايات المتحدة.
تقوية المحافظين
انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق فيننا لعام 2015 يقوي تياراً داخل النظام، هو تيار المعارضين للانفتاح الذي دعا إليه الرئيس المعاد انتخابه. فبالنسبة لهذه الفئات، يشكل انتخاب ترامب تأكيدا لإطارهم المرجعي لقراءة السياسة الأمريكية. وفق منظورهم هذا، تعادي الولايات المتحدة بطبيعتها وجود الجمهورية الإيرانية. ولا اختلاف بين باراك أوباما ودونالد ترامب سوى المنهج. بالإضافة إلى ذلك، بحسب آية الله علي خامنئي: “النظام الأمريكي هو العدو الرئيسي للأمة الإيرانية منذ بداية الثورة.” هذا المنظور الذي تتشاركه أغلبية في قلب المؤسسة المحافظة في الجمهورية الإيرانية لا يحظى بنفس الشعبية لدى الإيرانيين. والدليل على ذلك هو الشعارات التي رددها المتظاهرون في وجه الملا، أثناء صلاة الجمعة في آذار/ مارس 2018 في محافظة أصفهان: “ظهرنا للعدو، ووجهنا للأمة” (“پشت دي دشمن، رو به ملت” راديو فرده 17 آذار/ مارس 2018).
الفئات المقربة من المحافظين لعبت دوراً في الإبقاء على العداء الإيراني الأمريكي، حيث أنهم حدّوا اتفاق عام 2015 بمسائل النووي. هذا العداء المؤسساتي بين إيران وأمريكا تتابع في الملفات السياسية الإقليمية، وفي مجال حقوق الإنسان، وفي برنامج القذائف الباليستية. فمن غير المفاجئ أن تتغذى معاداة المتطرفين الإسلاميين لأمريكا على التوجه المحافظ الأمريكي الجديد، لأن المواجهة بين الأقسى في كل من المعسكرين ستؤدي حتماً إلى تهميش المعتدلين في كلا الطرفين.
عدا عن ذلك فإن النزاع الإيراني الأمريكي الحديث يضع الولايات المتحدة في موقف غير مريح. فعليها تقليل علاقاتها التجارية مع إيران، ما سيسرع عملية انتقال هذا البلد إلى المجال الاقتصادي الصيني. وفي نفس الوقت، ستتمكن روسيا من زيادة تأثيرها على إيران، خصوصاً في قطاعات الطاقة والنووي والتسليح. الدولة داخل الدولة الإيرانية تتغذى على العدوانية الأمريكية بشكل معقّد قائم على الشعور بحالة حصار دائمة. لكن مع ذلك يمكن لها أن تختار الرد على التصعيد الأمريكي رداً معتدلاً، وإن كان ذلك لاحتواء التحدي الرئيسي الذي يواجه سلطتها فحسب، ألا وهو الاحتجاج السياسي الاجتماعي الداخلي الذي تكثّف خلال السنوات الأخيرة، دون أن تُعالج أسباب الاستياء الشعبي. إن كان ثمة أقلية في إيران مقتنعة بأيديولوجية مؤسس الثورة، آية الله الخميني، يجب ألا يهمَل أولئك الذي يطمحون إلى الحرية ويخشون في نفس الوقت من الفوضى والتفكك على الطريقة السورية.
فشل النموذج الصيني
من الآن فصاعداً، يعرف النظام أنه قد فقد شعبيته حتى في القرى والمدن الصغيرة. ورغم الاحتجاجات التي تزداد صراحة وتصبح أكثر حضورا في الفراغ العام، فتبقى الورقة الرابحة في يد الجمهورية الإسلامية هي الخوف من الفوضى، واحتكارها لاستخدام القوة، وقدرتها على إعادة توزيع أموال عائدات النفط على زبائنها. الأمر المؤكد، هو التباين بين الرهان الأيديولوجي في الداخل، وصورة إيران في الخارج ـ في المملكة العربية السعودية وإسرائيل خصوصاً ـ حيث ينظر إلى إيران على كونها قوة لديها طموحات هيمنة على الصعيد الإقليمي، إن لم يكن على الصعيد الدولي. في الداخل، فشل مشروع المصلحين/المعتدلين الهادف إلى ضمان تطوير البلاد بحسب النموذج الصيني. وكذلك الأمر بالنسبة للسياسة الخارجية التي كان جديدها هو استراتيجية التقارب مع البلدان الأوروبية، فقد أصبحت موضع تساؤل بعد مغادرة العديد من الشركات الأوروبية. يبدو الحل الذي يقترحه المحافظون متناقضاً. ففي الواقع، كانت الشركات الحكومية ونصف الحكومية القريبة منهم أول المستفيدين من سياسية الانفتاح التي قادها روحاني. مع ذلك، على الصعيد السياسي، تعارض هذه الفصائل السياسية ذاتها الانفتاح على الغرب لأسباب ثقافية. عدا عن ذلك، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن مشروعهم يعزز اعتماد إيران على الصين وروسيا، وبالتالي لا يسمح بتحقيق حلم الثورة بالاستقلال. وبعد الانسحاب الأمريكي من اتفاق النووي، يبدو أن استراتيجية العزل الذاتي للبلد ستستمر، إلا في حال أحدثت الاحتجاجات الشعبية في نهاية المطاف تغييراً في الاستراتيجية الدولية التي تتبعها النخب السياسية الدينية في الجمهورية الإسلامية.
المسألة الوطنية
أخيراً وليس آخراً، ثمة فكرة حاضرة غالباً مفادها أن إيران لديها مطامح هيمنة، بل حتى مطامح إمبريالية على الساحة الإقليمية. ومن هذه الناحية تشابه الحالة الإيرانية المثال الروسي، كما يؤكد مكسيم سوشكوف. هذا البعد “القومي” أو “الامبريالي” الذي ينسب إلى إيران، في العالم العربي خصوصاً، يُخلط بينه وبين البعد الثوري للجمهورية الإسلامية. لا شك في أننا شهدنا ظهور قومية إسلامية في الخطاب السياسي الموجه إلى الداخل، لكن في العالم الإسلامي تسعى الجمهورية الإسلامية جهدها للتأكيد على البعد الديني من هوية النظام أكثر من البعد القومي. بالطبع، يختلط الاثنان في مخيلة النخبة السياسية الدينية، ولكن هذا الخطاب واجه احتجاجاً أثناء المظاهرات ضد النظام (في 2009 ثم في 2017ـ2018) وفي الخارج حيث تقوم المجتمعات المدعومة من قبل الجمهورية الإسلامية بإرجاع رجال الدين الإيراني إلى هويتهم الإثنية القومية، سواء كان ذلك في العراق أو في الخليج العربي أو في باكستان أو في أفغانستان.
بقاء فكرة القومية في إيران يمكن أن يكون له أثران متعاكسان: إما أن يتم استخدامه لتبرير فترة عزلة اقتصادية جديدة لدى الرأي العام الإيراني، وإما أن يستفاد منه لإعادة رسم سياسة خارجية تتناسب أكثر مع المصالح الوطنية، خاصة فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية.
1Voir Eskandar Sadeghi-Boroujerdi, « Strategic Depth, Counterinsurgency & the Logic of Sectarianization : Perspectives on the Islamic Republic of Iran’s Security Doctrine and Its Regional Implications » in Nader Hashemi et Danny Postel (ed.), Sectarianization : Mapping the New Politics of the Middle East, Londres et New York, Hurst, Oxford University Press, 2016.