سلّط القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وقيام إدارته بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس الأضواء على قضية القدس وعلى العلاقة بين بعديها الديني والسياسي، خصوصاً بعد أن اتفق كثير من المحللين على أن أحد الدوافع الرئيسية لاتخاذ ترامب هذا القرار تمثّل في إرضاء قاعدته الانتخابية من المسيحيين الأنجيليين أنصار ما يسمى بـ “المسيحية الصهيونية” الذين عبّر عن موقفهم الكاهن المتطرف جون هاجي ، رئيس “منظمة المسيحيين المتحدين من أجل إسرائيل” بقوله “إن ستين مليوناً من الأنجيليين يترقبون هذا الوعد ، لأنه في حال قيام دونالد ترامب بنقل السفارة إلى القدس سيخلده التاريخ، وسنذكره إلى الأبد لفعل الشجاعة الذي أقدم عليه”
مفارقات قمة كمب ديفيد
كان من مفارقات قمة كمب ديفيد الفلسطينية-الإسرائيلية، التي انعقدت في تموز/يوليو 2000 بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود باراك، أن هذا الأخير سعى، بتركيزه على مسألة “جبل الهيكل”، إلى إبراز البعد الرمزي الديني في الصراع على القدس على حساب بعده السياسي، وذلك في محاولة لتبرير احتفاظ المحتل الإسرائيلي بالسيادة على القدس الشرقية، التي تعتبرها قرارات الشرعية الدولية جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 وتدعو إسرائيل إلى الانسحاب منها.
ومنذ تلك القمة، راح خطاب مسؤولي الأحزاب الصهيونية “العلمانية” يسوّغ، بصورة لا سابق لها، ضرورة احتفاظ إسرائيل بالسيطرة على الحرم القدسي بحجة وجود أنقاض الهيكل الثاني تحته، علماً بأن هذا الزعم لم تؤكده الحفريات وأعمال التنقيب التي شرعت فيها الحكومة الإسرائيلية تحت أسوار الحرم، بعد احتلالها القدس الشرقية مباشرة في سنة 1967، إذ لم يكتشف علماء الآثار الإسرائيليون بنتيجتها، وإلى اليوم، سوى آثار رومانية وبيزنطية وإسلامية.
ومع أنني من الذين يعتقدون –من دون الانتقاص أبداً من أهمية البعد الرمزي الديني لمدينة القدس بالنسبة للديانات الثلاث- أن موضوع هذه المدينة ومستقبلها هو موضوع سياسي في المقام الأول، ينبغي حله على أساس قرارات الأمم المتحدة، وبخاصة قرار مجلس الأمن رقم 242 الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها بعد عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967، إلا أن هذا الإصرار الإسرائيلي على إبراز البعد الرمزي الديني للقدس قد دفعني إلى العودة إلى التاريخ لأتبيّن مدى تماسك المزاعم الإسرائيلية، في هذا الخصوص، من الناحية العلمية.
كيف أعيد ابتداع التاريخ الإسرائيل
ينطلق الباحث كيث وايتلام في كتابه: اختلاق إسرائيل القديمة، إسكات التاريخ الفلسطيني (عالم المعرفة، الكويت، العدد 249، أيلول 1999)، من فكرة مهمة مفادها أن الصراع الدائر حول فلسطين قد ترك أثره على فهم التاريخ القديم. فخطاب “المدرسة التاريخية التوراتية”، الذي ظهر في القرن التاسع عشر وترك بصماته على التاريخ الرسمي الإسرائيلي، اختلق لإسرائيل – كما يرى وايتلام- تاريخاً قديماً كثيراً ما يعكس حاضرها، معتبراً أن الزعم بأن لإسرائيل حقاً لا ينكر في القدس، كعاصمة لدولة إسرائيل، تعود جذوره إلى تلك الفترة المتخيلة من عصر “مملكة داود”. وفي هذا السياق، يؤكد وايتلام أن “إسرائيل القديمة” لم تكن “إلا خيطاً رفيعاً في نسيج التاريخ الفلسطيني الغني”، الذي ينبغي أن يكون موضوعاً قائماً بذاته “يحتاج إلى التحرر من قبضة الدراسات التوراتية” (ص 26).
والواقع، أن الدراسات التاريخية الحديثة، بما فيها دراسات بعض الباحثين الإسرائيليين، بيّنت أن التاريخ اليهودي القديم محاط بالأساطير. فشلومو ساند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، فسّر في كتابه: كيف اختُرع الشعب اليهودي1 كيف أن الصهيونية، التي طرحت على نفسها مهمة شبه مستحيلة عندما أرادت أن تخلق اتنية واحدة وموحدة من جماعات ثقافية ولغوية تعود إلى أصول مختلفة، قد لجأت إلى العامل الديني، واستعارت من الديانة التقليدية ومن مدونتها معظم تمثّلاتها ورموزها، وبقيت أسيرة لهذه التمثّلات والرموز.
وبعد أن يشير ساند إلى أن “كل إسرائيلي من أصل يهودي متيقن من أن الشعب اليهودي قد وجد منذ أن تلقّى التوراة في سيناء، وأنه هو شخصياً متحدر بصورة مباشرة وحصرية من هذا الشعب”، يتوقف عند بعض الأساطير التأسيسية للصهيونية، ومنها أسطورة قيام اليهود بغزو “أرض كنعان”؛ فيذكر أن علم الآثار الجديد دحض تماماً هذه الأسطورة، إذ لم تُكتشف أي وثيقة مصرية تشير إلى غزو أرض كنعان، التي كانت خاضعة في ذلك التاريخ للسيطرة المصرية. كما أن التوراة نفسها لا تشير إلى هذه السيطرة المصرية، علماً بأن التنقيبات الأثرية في غزة وبئر السبع دلّت، منذ وقت طويل، على ذلك الوجود المصري في مرحلة الغزو المفترض، وحتى بعد ذلك (p.228-230) أما الأسطورة الثانية، التي يتوقف عندها ساند، فهي أسطورة “النفي” ، التي تستند إليها ترسانة الهوية “الاتنية” لليهود الحديثين. فالواقع، أنه لا يوجد أي أثر يدل على أن الرومانيين قاموا بعمليات طرد جماعية للسكان اليهود بعد استيلائهم على القدس، وتدميرهم للهيكل سنة 70 ميلادي. وهذا ما أثبته –كما يتابع ساند- حاييم ميليكوفسكي، الأستاذ في جامعة بار-إيلان الدينيية، عندما بيّن أن مصطلح “النفي” كان يعني في القرنين الثاني والثالث الميلاديين الخضوع السياسي وليس الطرد من البلد. أما زميله يسرائيل جاكوب يوفال، الأستاذ في الجامعىة العبرية بالقدس، فقد أظهر أن الأسطورة اليهودية المتجددة عن النفي تمت صياغتها في مرحلة متأخرة نسبياً، وذلك إثر شيوع الفكرة المسيحية عن طرد اليهود عقاباً لهم على قيامهم بصلب المسيح ورفضهم الإنجيل (p.256)
ولكن لندع جانباً هذه الأساطير التأسيسية للتاريخ اليهودي القديم الذي استغلته الصهيونية، ولنرجع إلى التاريخ الواقعي، الذي تزكيه الحقائق العلمية، والذي يؤكد أنه لم يكن هناك أي أثر للهيكل عندما فتح العرب المسلمون القدس، وأن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان هو الذي قام ببناء قبة الصخرة في سنة 691 م، ثم استكمل خليفته، الوليد بن عبد الملك، عمارة المسجد الأقصى.
وفي عهد صلاح الدين الأيوبي، الذي حرر القدس من الفرنجة في سنة 1187م، رُفعت القيود المفروضة على سكنى اليهود في المدينة، التي استقبلت في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي أعداداً من يهود المغرب وفرنسا وجنوب انكلترا. وبعد خضوع القدس، اعتباراً من منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، لدولة سلاطين المماليك، صار يتعايش فيها أتباع الديانات السماوية الثلاث، إذ شكّل المسيحيون، بطوائفهم المتعددة، غالبية سكانها، وتمتعوا بالحرية الدينية التامة وسُمح لهم بإصلاح مؤسساتهم الدينية وترميمها، بينما شهدت أحوال اليهود تحسناً كبيراً – حتى أن عدداً منهم اعتنق الإسلام في تلك الفترة نظراً لتسامح المسلمين وحسن معاملتهم لأتباع الديانات الأخرى- وبات لهم، في ذلك الوقت، حي في المدينة، سُمّي بحارة اليهود، وإليه نُسب أحد أبواب القدس، حيث عاشوا في ذلك الحي، عموماً، على الصدقات الخارجية، وكان من بينهم تراجمة ومرشدون سياحيون (انظر: مقدمة د. زياد العسلي لكتاب فوشي الشارتري، تاريخ الحملة إلى القدس 1095-1127، عمان، دار الشروق، 1990؛ وكتاب د. علي السيد علي، القدس في العصر المملوكي، القاهرة، دار الفكر للدراسات والنشر، 1986).
ومنذ سنة 1517، خضعت القدس لحكم السلاطين العثمانيين، واتّخذت المدينة داخل السور شكلها الراهن إبان حكمهم الذي استمر زهاء أربعة قرون. ويُستفاد من الموسوعة اليهودية نفسها أن اليهود اتّخذوا حائط البُراق، الذي يشكّل جزءاً من الحائط الغربي للحرم القدسي، موقعاً للصلاة منذ القرن السادس عشر فقط، ثم صاروا يبكون أمامه وبات يُعرف باسم “حائط المبكى” (انظر: رائف يوسف نجم، “استمرار تهويد مدينة القدس أرضاً وسكاناً وعمراناً وإدارة”؛ في: القدس، نقطة قطيعة أم مكان التقاء؟، الرباط، أكاديمية المملكة المغربية، 1998، الجزء الأول، ص 109-157).
الغزو البريطاني
وقد وصف الرحالة الفرنسي بيار لوتي، الذي زار القدس في نيسان/أبريل 1894، في كتابه: رحلات 1872-19132 بإسهاب “مسجد عمر الأزرق” والمسجد الأقصى، فذكر أن السلطات العثمانية كانت تمنع في الماضي غير المسلمين من زيارة هذا الموقع، وأنها عندما صارت تسمح بزيارته اشترطت أن يرافق الزائر الغريب جندي من الإنكشارية يحمل تصريحاً من والي القدس. ثم وصف لوتي زيارته إلى “حائط المبكى”، فأشار إلى أن الأتراك قد تنازلوا لليهود عن هذا الموقع بعد أن وعد هؤلاء الأخيرون بعدم التفكير مطلقاً بإعادة بناء هيكلهم فيه، وذكر أنه شاهد أمام الحائط رجالاً مسنين كانوا كلهم تقريباً من اليهود البيض القادمين من بولونيا، الذين يأتون عادة إلى القدس لدى شعورهم بدنو أجلهم على أمل أن يُدفنوا فيها، إضافة إلى عدد قليل من الشبان .
وبدخول القوات البريطانية، بقيادة الجنرال اللنبي، القدس في كانون الأول/ديسمبر 1917، انتقلت السيطرة على الحرم الشريف إلى سلطات الاحتلال البريطاني، إذ جاء في المادة 13 من صك الانتداب، الذي وافق عليه مجلس عصبة الأمم في 24 تموز/يوليو 1922، ووضع موضع التنفيذ في 29 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، ما يلي: “تضطلع الدولة المنتدبة بجميع المسؤوليات المتعلقة بالأماكن المقدسة والمباني أو المواقع الدينية في فلسطين، بما في ذلك مسؤولية المحافظة على الحقوق الموجودة، وضمان الوصول إلى الأماكن المقدسة والمباني والمواقع الدينية وحرية العبادة، [على] ألا يُفسّر شيء من هذا الصك تفسيراً يُخوّل الدولة المنتدبة سلطة التعرض أو التدخل في نظام إدارة المقامات الإسلامية المقدسة الصرفة المصونة حصانتها” (وثائق فلسطين، بيروت، دائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية، 1987، ص 108).
وبعد اندلاع هبة البراق في آب/أغسطس 1929، أكدت السلطات البريطانية، بناء على تقرير لجنة البراق الدولية، أن للمسلمين “وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي [للحرم]، ولهم وحدهم الحق العيني فيه، لأنه يؤلّف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف. وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط، لكونه موقوفاً حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير”، مع السماح لليهود “بالوصول إلى الحائط الغربي بهدف التعبد” (بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981، ص 231-233).
كيف تم فرض ما سمي بالعاصمة الأبدية
نص القرار رقم 181 الخاص بتقسيم فلسطين، الذي اتّخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، على إنشاء كيان منفصل في منطقة القدس، يخضع لنظام مرتبط إدارياً بهيئة الأمم المتحدة. ومع ان إسرائيل احتلت، خلال الحرب، القسم الغربي من المدينة، إلا أن تعهد حكومتها، لدى انضمامها إلى الأمم المتحدة في أيار/مايو 1949، باحترام القرار رقم 181، كان يعني إقرارها بأن القدس لا تدخل ضمن النطاق الإقليمي لدولة إسرائيل. وبعد توقيع اتفاقية الهدنة بين إسرائيل والأردن، باتت القدس منقسمة إلى قسمين: قسم غربي جعله الإسرائيليون عاصمة لدولتهم، ثم أقدموا، سنة 1952، على توسيع حدوده البلدية بنسبة الضعف في اتجاه الغرب على حساب أراضي قرى فلسطينية عديدة، وقسم شرقي خضع للأردن وانحصر في البلدة القديمة وما حولها من أحياء.
وقد قامت الحكومة الإسرائيلية، إثر عدوان حزيران/يونيو 1967، باحتلال هذا القسم الشرقي وفرضت التشريعات الإسرائيلية عليه، وباشرت إجراءاتها الرامية إلى توحيد المدينة وتهويدها. وصدر عن الكنيست، في 30 تموز/يوليو 1980، قرار يجعل من القدس الموحدة “عاصمة أبدية” لإسرائيل. ومن خلال قضم الأراضي الفلسطينية، قامت السلطات الإسرائيلية بتوسيع حدود بلدية القدس الشرقية من 6 إلى 73 كيلومتراً مربعاً، وأحاطت القدس الموسعة بطوقي استيطان ، شمل الطوق الأول، المعروف بالقدس الكبرى، 330 كيلومتراً مربعاً من أراضي الضفة الغربية، بينما شمل الطوق الثاني، المعروف بالقدس المتروبوليتانية، 660 كيلومتراً مربعاً من الأراضي العربية المصادرة. وبفضل هذين الطوقين، ضمنت إسرائيل لنفسها الهيمنة على القطاع الأوسط من الضفة الغربية، وفصلت شمال الضفة عن جنوبها، الأمر الذي أفقد الدولة الفلسطينية العتيدة تواصلها الإقليمي. أما العرب الفلسطينيون، الذين بقوا في القدس الشرقية، فقد تعاملت الحكومة الإسرائيلية معهم بصفتهم أجانب مقيمين في إسرائيل، ومنحتهم تصاريح إقامة دائمة (انظر: وليد الخالدي: “ملكية موقع السفارة الأميركية في القدس”، في الملف الذي نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية عن القدس، بيروت، العدد 43، صيف 2000، ص 9-37).
وبعد توقيع اتفاقية أوسلو، في أيلول/سبتمبر1993، تكثّفت الإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى إحكام السيطرة الإسرائيلية على القدس، وذلك عن طريق توسيع دائرة الاستيطان اليهودي فيها، و تقييد حركة البناء العربي وسحب هويات كل من غادرها، لمدة سبع سنوات، أو أقام خارجها من مواطنيها الفلسطينيين، وكذلك عن طريق تضييق الخناق على المؤسسات الفلسطينية العاملة فيها، إذ أقدمت سلطات الاحتلال على إغلاق أبرز المؤسسات العربية في القدس، التي تمثّل عنوان السيادة الفلسطينية في المدينة وتقدم خدمات اجتماعية مهمة للمواطنين المقدسيين، مثل “بيت الشرق” و “جمعية الدراسات العربية” و “الغرفة التجارية” و“لجنة إحياء التراث”، و“مجلس الإسكان الفلسطيني”. ومن جهة أخرى، كثّفت الحكومات الإسرائيلية، في السنوات الأخيرة، عمليات الاستيطان اليهودي في قلب البلدة القديمة والأحياء المحيطة بها، كما واصلت، تحت حجة تلبية حاجات النمو الطبيعي، عمليات بناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية في مشارف الأحياء الاستيطانية اليهودية، ووضعت خططاً لتوسيع حدود المدينة إلى البحر الميت ووادي الأردن، بحيث يتم الاتصال بين وسط الضفة الغربية وجنوبها عبر أنفاق أو طرق التفافية. وفي الوقت نفسه، استمرت في عمليات عزل مناطق سكنية فلسطينية عديدة خلف “جدار الفصل”3 ومصادرة بطاقات الهوية من العرب المقدسيين المقيمين فيها، وهدم آلاف المنازل الفلسطينية بحجة أنها بنيت من دون ترخيص إسرائيلي، أو لكونها تقع ضمن ما يسمى “الحوض المقدس”45و “المناطق الخضراء” . ومنذ سنوات، يواجه المسجد الأقصى مخاطر الانهيار، إذ أثبتت الدراسات الميدانية أن التصدعات والشقوق في المباني والمساكن الموجودة في الجهة الجنوبية من الأقصى، إضافة إلى عدد من البيوت التاريخية الملاصقة للسور الغربي للمسجد، تزداد وتتسع، نتيجة أعمال الحفر الإسرائيلية التي تتواصل في مناطق عدة من البلدة القديمة. كما يزداد الخطر على الأقصى من جراء تصاعد محاولات المتطرفين اليهود اقتحامه وإقامة شعائرهم الدينية فيه، تحت حماية شرطة الاحتلال.
إجراءات غير شرعية وباطلة في نظر الأمم المتحدة
من المعروف أن المجتمع الدولي رفض الاعتراف بكل التغييرات التي أدخلتها إسرائيل على وضع القدس الشرقية، إذ صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ الرابع من تموز/يوليو 1967، قرار حمل الرقم 2253 يعتبر إجراءات إسرائيل الرامية إلى تغيير وضع القدس الشرقية باطلة. وفي 21 أيار/مايو 1968، أقر مجلس الأمن القرار رقم 252 الذي جاء فيه: “إن مجلس الأمن يعتبر كل الإجراءات والتدابير التشريعية والإدارية التي اتّخذتها إسرائيل، بما في ذلك مصادرة الأراضي والعقارات، والرامية إلى تغيير الوضع القانوني للقدس، يعتبرها إجراءات وتدابير باطلة ولا يمكنها تغيير هذا الوضع”. كما طالب القرار إسرائيل “بالتراجع الفوري عن كل تلك الإجراءات والتدابير المتخذة والامتناع عن القيام بأفعال جديدة ترمي إلى تغيير وضع القدس”. ثم أصدر المجلس نفسه، في 25 أيلول/سبتمبر 1971، القرار رقم 298، الذي أبدى فيه أسفه لعدم احترام إسرائيل القرارات الدولية الخاصة بوضع القدس.
وقد جدد مجلس الأمن في مناسبات عديدة تأكيده على هذا الموقف. فعندما اتّخذت إسرائيل إجراءات بهدف جعل القدس الموحدة عاصمة لها، تبنّى مجلس الأمن، في 30 حزيران/يونيو 1980، القرار رقم 476 الذي يدعو إسرائيل، بصفتها الدولة المحتلة، “إلى الاستجابة لهذا القرار ولكل القرارات السابقة التي اعتمدها مجلس الأمن، وإلى التوقف فوراً عن تطبيق سياستها الرامية إلى تغيير طابع مدينة القدس ووضعها”. وفي 20 آب/أغسطس 1980، أصدر مجلس الأمن قراراً جديداً حمل الرقم 478، أكد فيه عدم شرعية كل الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لتغيير وضع القدس، وطالب الدول التي نقلت بعثاتها الدبلوماسية إلى المدينة بسحبها منها. وفي 9 شباط/فبراير 1999، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً تؤكد فيه مواقفها السابقة فيما يتعلق بعدم شرعية كل الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لتغيير معالم القدس ووضعها. وأكد قرار دولي جديد، صدر في 1 كانون الأول/ديسمبر 2000، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، أن “قرار إسرائيل بفرض قوانينها، وتشريعاتها وإدارتها، على مدينة القدس تعتبر غير شرعية، وباطلة”. كما عبرت الجمعية العامة عن أسفها لقيام بعض الدول بنقل بعثاتها الدبلوماسية إلى القدس.
الاستمرار في طرح قضية السيادة الفلسطينية
كانت اتفاقية أوسلو قد أبقت قضية القدس معلّقة حتى مفاوضات الحل النهائي. وبهدف استباق هذه المفاوضات، حاولت الحكومة الإسرائيلية المناورة مع الأردن، إذ أشير في البند الثاني من المادة التاسعة من معاهدة السلام التي أبرمت بين الأردن وإسرائيل، في 26 تشرين الأول/أكتوبر 1994، إلى أن إسرائيل “تحترم الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس، وعند انعقاد مفاوضات الوضع النهائي مع الفلسطينيين ستولي إسرائيل أولوية كبرى للدور الأردني التاريخي في هذه الأماكن” (انظر: مجلة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 20، خريف 1994، ص 188). بيد أن الحكومة الأردنية لم تمرر تلك المناورة الإسرائيلية، وأكدت، بعد توقيع اتفاقية وادي عربة، دعمها منظمة التحرير الفلسطينية في نضالها من أجل ضمان السيادة الفلسطينية على جميع الأراضي التي احتلت في سنة 1967، بما فيها القدس الشرقية.
وفي قمة كمب ديفيد المذكورة، طرحت قضية القدس للمرة الأولى على طاولة المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، وانحكم الموقف الإسرائيلي إزاءها بالموقف العام الذي تبنّته إسرائيل، والذي قام على أساس مبدأ “التنازل المتبادل” بين شريكين على “أراضٍ متنازع عليها”، وليس على أساس تطبيق القرار الدولي رقم 242، الذي لا يمثّل، في نظر الإسرائيليين، أكثر من قاعدة للتفاوض، ولا ينطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة لأنه معني بالدول، كما يُزعم. وعلى هذا الأساس، رفض إيهود باراك، خلال المفاوضات، التخلي عن السيادة الإسرائيلية على “جبل الهيكل”، ووافق على منح الفلسطينيين إدارة بلدية في القرى الواقعة على أطراف القدس الكبرى، على أن تبقى تحت السيادة الإسرائيلية، أو على منحهم السيادة الكاملة على هذه القرى في مقابل عملية تبادل للأراضي تسمح بإدماج مستعمرات كبرى، مثل معاليه أدوميم وغيفات زيف، في نطاق القدس الكبرى.
وعندما رفض الرئيس الراحل ياسر عرفات هذين المقترحين الإسرائيليين، تقدم الرئيس كلينتون بمقترح جديد يقضي بتقاسم السيادة على الحرم القدسي، بحيث تكون للفلسطينيين سيادة على الحرم فوق الأرض، وتكون للإسرائيليين سيادة عليه تحت الأرض. وعندما رفض الفلسطينيون هذا المقترح الأمريكي، وأخفقت قمة كمب ديفيد في الوصول إلى نتيجة، أدخل الرئيس كلينتون، في اللقاء الذي جمعه في 23 كانون الأول/ديسمبر 2000 مع عدد من المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين في واشنطن، تعديلات بسيطة على مقترحه الأول على أساس مقايضة تفرض على الفلسطينيين التنازل عن حق العودة في مقابل حصولهم على سيادة محدودة على القدس الشرقية.
ومنذ انعقاد قمة كمب ديفيد الفاشلة، شهد الموقف الإسرائيلي من قضية القدس تشدداً واضحاً، إذ باتت الحكومات الإسرائيلية، ولا سيما اليوم في ظل رئاسة بنيامين نتنياهو، ترفض مبدأ التفاوض حول هذه القضية وتعتبر أن مصير المدينة قد حسم وباتت القدس الموحدة “عاصمة أبدية” لدولة إسرائيل، وتلجأ، أكثر فأكثر، إلى إجراءات الإغلاق والحصار لمنع المسلمين من الوصول إلى الحرم القدسي، وتتغاضى عن اعتداءات غلاة المتطرفين اليهود عليه بغية تدميره وبناء “الهيكل” المزعوم مكانه.
وختاماً، فإن التمسك الحازم بمبدأ السيادة العربية الفلسطينية على القدس الشرقية بكاملها هو موقف لا يمكن التنازل عنه مطلقاً. فقضية القدس الشرقية هي قضية سياسية في المقام الأول، ينبغي على إسرائيل أن تنسحب منها بالكامل وأن تزيل كل الوقائع التي خلقتها على أرضها، وبخاصة الوقائع الاستيطانية، وذلك وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. وقد يكون من المناسب للفلسطينيين، وكما كان قد ذكر القائد المقدسي الراحل فيصل الحسيني، أن يعودوا إلى طرح مستقبل مدينة القدس بكاملها وليس قسمها الشرقي فقط، إذ إن 70 في المئة من الأراضي والبيوت في القسم الغربي منها هي ملك للفلسطينيين.
1Shlomo Sand, Comment le peuple juif fut inventé, Paris, Flammarion, 2010 (صدر باللغة الفرنسية لأول مرة سنة 2008 عن دار نشر فايار، وصدرت ترجمة عربية له بقلم سعيد عياش وتقديم ومراجعة أنطوان شلحت في عمان سنة 2011 عن الأهلية للنشر والتوزيع).
22 - Pierre Loti, Voyages 1872-1913, Paris, Robert Laffont, 1984.
3في السادس عشر من حزيران/ يونيو 2002، بدأت الحكومة الإسرائيلية في بناء جدار فاصل يقطع أراضي الضفة الغربية قطعاً. ولم تكن غاية الجدار حول القدس المحتلة أمنية، بل لتفريغ القدس من أصحابها، والاستيلاء على أراضيهم ومساكنهم، وإخراج بلدات وأحياء عديدة من حدود بلدية القدس.
44-الحوض المقدس هو اسم يهودي مختلق لمنطقة المسجد الأقصى ومحيطه، يستهدف جمع المواقع الدينية اليهودية المزعومة في القدس “التي لا يمكن التنازل عنها” في إطار جغرافي واحد، والعمل على إخلاء هذه المنطقة ومحيطها من كل العرب وجعلها خالصة لليهود.
5انتهجت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سياسة وضعت بموجبها أراض فلسطينية صالحة للبناء والتوسع العمراني، تحت بند المناطق الخضراء والمحميات الطبيعية؛ وحرم الفلسطينيون من إستخدامها لأغراضهم السكنية.