قنبلة ديمغرافية تهدد مصر

مالتوس في وادي النيل · كانوا 26 مليون نسمة عام 1960، ثم 55 مليون عام 1990، 100 مليون اليوم ، 200 مليون في أقل من جيل قادم: تئن مصر تحت ثقل التزايد السكاني. أراضيها الصالحة للزراعة أقل بثلاث مرات من تلك التي توجد بتونس في حين أن سكانها أكثر بعشرة أضعاف. كما أن مياه النيل أصبحت محل نزاع حول المنبع من طرف إثيوبيا والسودان. فهل يؤدي التباين المتزايد بين عدد السكان والموارد إلى تحقق نبوءة مالتوس المخيفة؟

شارع المعز في القاهرة
محمد جمال سلامة 2014

إذا عدنا إلى تقدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فقد وصل عدد سكان مصر في تموز/ يوليو 2017 إلى 97 مليون نسمة1. ومع 2,5 مليون مصري إضافي كل سنة من المرجح أن يصل إلى رقم 100 مليون نسمة خلال السنة المالية يوليو 2018/ يونيو 2019. يتسارع “التحول الديمغرافي المضاد” وفق عبارة يوسف كرباج، أحد الأخصائيين المعترف بهم في قضايا السكان، في حين لم تكن السلطات المصرية تنتظر المستوى الذي أشارت إليه سي آي إي إلا في سنة 2025.

فقد ارتفع مؤشر الخصوبة2 ب17% بين 2005 و2012. وحدث ازدياد هائل في عدد الزيجات حيث أن أكثر من 90 % من المصريات يتزوجن في سنة ال19. ونشاهد حصول “تضخم شبابي” (تزايد كبير لعدد الشباب في هرم الأعمار) بعمر وسيط (الذي يقسم السكان إلى قسمين متساويين عدديا) ب25,3 سنة مقابل 40 سنة مثلا بفرنسا. تضاعف عدد السكان بين 1960 و1990 ثم تضاعف مرة أخرى بين هذا التاريخ و2019. وبهذه الوتيرة ستصل مصر بعد 30 سنة إلى 200 مليون نسمة.

وفي مواجهة هذا التسونامي من الولادات فإن الأرض والمياه الضرورية لحياة هؤلاء ال100 مليون مصري هي في حالة ركود أو حتى في تقهقر. 96,5% من مساحة البلاد قاحلة. ولا تمتلك مصر بالكاد سوى 2,8 مليون هكتار من الأراضي الزراعية، أي ب6,5 مرات أقل من فرنسا ومن 2 أو 3 مرات من الجزائر أو تونس التي هي أقل سكانا بعشر مرات. فقد أدى التوسع العمراني إلى ابتلاع الآلاف من الهكتارات على الرغم من عشرات المدن الجديدة التي بنيت في الصحراء منذ عهد عبد الناصر من طرف كل رئيس جديد والتي تبقى ثلاثة أرباعها شاغرة. وهناك 1,6 مليون نسمة تعيش في سكنات هشة وتنتظر بيأس سكنا لائقا.

مياه شحيحة في المستقبل

أما قضية المياه فهي أكثر خطورة. فبموجب الاتفاق المصري السوداني الذي تم التوقيع عليه بلندن عام 1959 تحت إشراف الحكومة البريطانية، يحق لمصر حصة 70% من مياه النيل و20% للسودان وجنوب السودان بينما تتقاسم النسبة الباقية البلدان المشاطئة الأخرى (إثيوبيا، كينيا، أوغندا، رواندا، بورندي وتانزانيا). وهكذا يحق لمصر 55,5 مليار م3 من مستوى تدفق نظري سنوي يصل الى 84 مليار م3 وهي كمية تتميز بعدم استقرار كبير : حمل نهر النيل 137 مليار م3 في سنة 1879 ولكنه بالكاد وصل إلى 45,5 مليار م3 في 1913 ، ثم 84 مليار في 1959 سنة اتفاق لندن.

أصبح هذا التقاسم التاريخي مقوضا ببناء أربع سدود قريبة من المنبع تهدف إلى السيطرة على النيل الأزرق ، الرافد الأساسي لنهر النيل. يحجز أحد السدود الأربعة وهو /سد النهضة الكبرى الأثيوبي 74 مليار م3، أي أكثر من الحصة السنوية لمصر. فبأي وتيرة سيتم ملء هذا السد؟ أبثلاث سنوات كما يقترح الإثيوبيون، أم ب 12 سنة كما يطالب المصريون؟ هل سينتج الكهرباء من المياه الجارية أم ستحجز المياه لري ريف بلد يسكنه أيضا أكثر من 100 مليون نسمة؟ لا تذكر المادة 2 من اتفاقية لندن سوى التنمية الإقتصادية التي تغطي هذين الاستعمالين لمياه النيل. هل ستحتفظ القاهرة بحق سحب 55,5 مليار م3؟ هي كلها أسئلة عالقة بخصوص مسألة حيوية لبقاء البلاد…

أظهر الوزير الأول الاثيوبي /آبي أحمد علي/ الذي تقلد منصبه في فبراير الماضي تصلبا أقل من سابقيه، حيث جعلت الصعوبات الحالية لورشة السدود قادة أثيوبيا الجدد أكثر واقعية. فهناك اتفاق محتمل حول مدة ملء السد تتراوح بين 4 و7 سنوات وفقا لهطول الأمطار وتدفق أطول نهر في العالم. وفضلا عن مياه النيل، تستفيد البلاد بأقل من 20 مليار م3 من المياه الجوفية وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي والمطر.

كل هذه الموارد (73,2 مليار م3 في 2010) تغطي بصعوبة الاحتياجات الزراعة (62,35 مليار م3 في 2016) وحاجيات السكان ( 10 مليار م3) والصناعة (1,2 مليار م3)، ناهيك عن التبخر (2,5 مليار م3). وتسمح المياه الموجهة أساسا للزراعة بري 3,24 مليون هكتار، توجد 90 % منها على ضفاف النيل ودلتاه، في حين يتوزع بالكاد 150 ألف هكتار على أماكن أخرى. ويمكن استصلاح مليون هكتار إضافي ولكن العملية تفتقر إلى العنصر الأساسي، الماء.

اختلال باهظ الثمن للأمن الغذائي

ووفقا للملحق الفلاحي للسفارة الأمريكية بالقاهرة3 فإن محصول القمح سيعرف ركودا يصل إلى 8,45 مليون طن في 2018 / 2019 في حين ترتفع الواردات ب1,62 % لتصل إلى 12,5 مليون طن. أي ما يعادل 60% من الاستهلاك الإجمالي للقمح في مصر التي هي أول مستورد في العالم حيث انتزعت روسيا وأوكرانيا المكانة الأولى من كل من فرنسا والولايات المتحدة في تزويد مصر بالقمح.

ونجد نفس النسبة بخصوص الذرة التي تغطي نشاطين أساسيين في مصر وهما صناعة الألبان واللحوم البيضاء (الدواجن) التي تعرف عملية تحديث سريع. وتعرض هذه التبعية البلاد إلى ضعف مزدوج: من جهة، تعرف الأسعار العالمية للحبوب تقلبا شديدا كما شاهدنا ذلك خلال السنوات الماضية، وتنتقل الصدمات التي تحدث في الأسواق العالمية إلى الأسعار الداخلية في مصر ذاتها وذلك على حساب 60٪ من السكان المصنفين في خانة الفقراء أو على حافة الفقر. ومن جهة أخرى يجب دفع المشتريات بالعملة الصعبة وذلك يتطلب وضعية مالية عمومية سليمة وميزان مدفوعات قوي واحتياطات صرف مهمة. وهي أمور كلها غير متوفرة في مصر في الوقت الحالي.

وتمثل واردات المنتوجات الغذائية عموما نصف صادرات سلع البلاد، أي حوالي 10 مليار دولار من أصل 20 مليار دولار.

وليس كل المصريين سواسية أمام انعدام الأمن الغذائي. فهناك عدد متزايد منهم لا يستطيعون شراء طعامهم. فإذا كان المصري العادي يخصص 40% من مداخيله للغذاء فإن النسبة تتجاوز بشكل كبير 50 % من المدخول عند الفئات الأفقر.

ازداد الفقر خلال العشرية الماضية وهو يمس حسب البنك العالمي4 ثلث السكان، يضاف الى ثلث آخر هو بالكاد فوق “خط الفقر القومي” (1,9 دولار في اليوم). ومع حدوث كل ارتفاع حاد في الأسعار العالمية وانخفاض كبير في قيمة الجنيه المصري، كما كان الحال في 2016 ، يتفاقم سوء التغذية وعلى الخصوص عند الأطفال. وتحوز اليوم مصر على الرقم القياسي العالمي المؤسف للأغذية ذات السعرات الحرارية المرتفعة، وهو نظام غذائي يؤدي غالبا إلى السمنة.

انعدام الإمكانيات لمواجهة الأوضاع

وأمام هذه الوضعية حاولت السلطات المصرية التحرك. وقد صاح الماريشال الرئيس عبد الفتاح السيسي يوم 26 جويلية/يوليو 2017 وهو يوم العيد الوطني خلال الندوة الوطنية الرابعة للشباب بالأسكندرية بأن “هناك خطران يهددان مصر. فإذا كان الإرهاب أحدهما، فإن العائق الأساسي (أمام التنمية) يبقى المعدل المرتفع للنمو السكاني”.

وفي سنة 2014 حاول خالد الحنفي، وزير التموين والتجارة الداخلية الجديد، إصلاح نظام دعم الخبز قصد الحد من التبذير وتقليص كلفة العملية على الخزينة العمومية. فإذا كان لكل مصري الحق في 150 رغيف “بلدي” في الشهر والتي تباع بعشر سعر تكلفته، فقد أصبح ممكنا على 6 ملايين مصري الذين لا يستهلكون حصتهم شراء نقاط تسمح لهم باقتناء 44 منتوجا استهلاكيا مدعما أيضا، عبر 27 ألف متجر معتمد وفي 1250 متجر تابع للدولة. لم تكن التجربة ناجحة حيث ترتب عن هذه التسهيلة كلفة إضافية بما يقارب 300 مليون دولار في 2017 /2018.

وكان الوزير يأمل في مارس/ آذار 2015 الوصول الى انخفاض الطلب بنسبة من 15 إلى 20 % وانخفاض في الواردات بين 20 و30 %. ولكن بعد ثلاث سنوات من ذلك، الزيادة هي التي كانت في الموعد وأصبحت البلاد تستورد من القمح بقدر استهلاك 28 بلدا أوربيا. وإذا كان دعم أسعار الوقود قد انخفض، فإن التراجع الكبير في قيمة العملة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 دفع أسعار المواد الغذائية إلى الأعلى. وعزاء الإصلاحيين الضعيف الوحيد أنهم جنبوا عبد الفتاح السيسي انتفاضة الجوع التي أغرقها بالدم أنور السادات سنة 1977 وحسني مبارك في 2008.

وتمثل المسار الآخر المتبع في تكثيف الزراعات قصد الوصول إلى محصول أكبر للقمح في الهكتار الواحد. وتم ذلك عبر استخدام أفضل للمياه واللجوء الى بذور رفيعة المردود وشراء محاصيل القمح المحلية لسعر أعلى من الأسعار العالمية وأيضا في مجهود إعلامي أكبر تجاه الفلاحين. تلك هي بعض أكثر المبادرات الملفتة التي قامت بها وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي وكان لذلك أثر حقيقي ولكن يقابله تسريب جزء من المحصول الذي يأخذ طريق الوسطاء الخواص (20 و30% من الانتاج وفق تقديرات رسمية) وعلى الخصوص قضم الأراضي الصالحة للزراعة عن طريق الإعمار والتي تقدرها الوزارة ب125 ألف هكتار منذ 2011 ( ـ 4,5%).

تبقى حصيلة السلطات العمومية متواضعة أمام هذا الانفجار السكاني. وقد عين سكرتير دولة جديد للصحة والسكان في يناير/تشرين الثاني 2018 قصد إعادة بعث “تنظيم الأسرة” الذي أدخله الحكم الناصري في الستينيات. وتم إنشاء مجموعة وزارية مشتركة لوضع استراتيجية وطنية 2015ـ 2030. كما تم إعطاء الأولوية للمناطق الريفية التي تأوي 40% من السكان ولها نسبة نمو ديمغرافي سنوي تقدر ب3,3% مقابل 2,2% في المدن. لكن الوسائل تبقى مفقودة حيث تقول الأمهات الشابات أنهن لا يرغبن في أبناء إضافيين ولكنهن لا يستعملن وسائل منع الحمل المفقودة في عين المكان. كما لا يساعد ثقل العوامل الاجتماعية والدينية هذا المسعى.

تواجه مصر البلد العربي الأكثر سكانا، والذي يتمتع بموقع استراتيجي رئيسي في الشرق الأوسط، خطرا بالغا يهدد استقرارها بسبب التزايد السكاني بعد جيل أو ربما قبل ذلك. فقد يكفي محاصرة موانئها ليتسنى تركيعها …

1يضاف إلى ذلك اللاجئون القادمون من سوريا وليبيا والسودان واليمن، والذي يقدر عددهم ب5 ملايين نسمة

2يمكن تعريف نسبة الخصوبة أو مؤشر الخصوبة بمتوسط عدد الأطفال لكل امرأة في سن الإنجاب.

3تقرير الشبكة العالمية للمعلومات الزراعية - الخدمة الزراعية الأجنبية ) وزارة الزراعة الأمريكية- 9 سبتمبر 2018

4البنك الدولي، المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2018