لنَعُدْ بالذاكرة الى بداية فبراير/ شباط 2019. حين أعلنت أمينة ماء العينين، نائبة وعضوة قيادية في حزب العدالة والتنمية وإحدى النساء القلائل في الأمانة العامة، على صفحتها على الفايسبوك أن هناك صورا مركبة سيتم نشرها من طرف “مواقع مسيئة”، وأنها تحتفظ لنفسها بحق اللجوء إلى العدالة.
وبالفعل تم بعد ذلك بأيام نشر صور في “برلمان. كوم”، وهو موقع مقرب من المخابرات. وتظهر في إحدى الصور مبتسمة، بشعر مكشوف أمام شعار الطاحونة الحمراء (مولان روج) ببيغال وهو حي “ساخن” في العاصمة الفرنسية. وتظهر في صورة أخرى التقطت أيضا في باريس مرتدية تنورة جينز، بشعر حر دائما وابتسامة عريضة على الشفاه.
ماء العينين نشطة جدا على الوسائط الاجتماعية ولا ترفض أي لقاء صحفي وهي من ضمن النواب الذين دافعوا عن عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة السابق، خلال عملية ليّ الأذرع والتي خاضها طويلاً مع حاشية الملك؛ وكانت قد أدانت بقوة “التحكم” (أي التحكم عن بعد)، وهي عبارة استعملت لإدانة تدخل فؤاد عالي الهمة (أقرب مستشاري الملك محمد السادس) في الحياة الحزبية (خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة).
“ذات الوجهين”
بالنسبة لمنتقدي ماء العينين، جاءت هذه الصور بمثابة فرصة ذهبية؛ ولكن الارتباك طال “الأصدقاء” والمقربين أيضا. خاصة وأنه تأكد بأن هذه الصور حقيقية، على خلاف ما كانت قد أعلنته أصلا. فأمينة ماء العينين التي تدافع عن نظرة صارمة للمجتمع وفقا للمبادئ الإسلامية تكون إذا قد كذبت… والكثير من الذين اعتادوا على رؤيتها باستمرار بخمار مشدود بعناية على رأسها، سواء في البرلمان أو في وسائل الاعلام وأيضا في الصور التي تنشرها على صفحة الفايسبوك، وجدوا صعوبة في هضم ما سموه “وَجْهَي ماء العينين واحد في المغرب وآخر في الخارج” . وقد وصلت الخيبة إلى الهياكل الداخلية للحزب الإسلامي وحتى القادة الأكثر رمزية.
ففي رسالة بعثت بها في 4 مارس/آذار إلى قيادة حزبها قالت فيها أيضا أنها التقت ب“أخيها” رئيس الحكومة الحالي، الإسلامي سعد الدين العثماني، وتطرقت معه إلى “الحملة” التي تستهدفها وكون أن “ما تعرضت له ليس سهلا فأجابني : وعلاش داك الشي اللي دوزتو علي أنا سهل ؟( وهل ما فعلتِه بي كان سهلا؟) ولكنها عدالة السماء”. وأضافت في نفس الرسالة بأنها “صدمت بشدة” من كلام رئيس الحكومة الذي هو أيضا الأمين العام لحزب العدالة والتنمية.
وعبّر أحد القادة البارزين الآخرين للحزب، مصطفى رميد، وزير الدولة لحقوق الإنسان عن غضب الإسلاميين من نائبتهم. في حوار مع الصحافة في أول فبراير 2019، عبّر علنا عن مرارته: "فيما يخص الأخت أمينة ماء العينين حيث كانت تلبس لباسا معينا وبه تقدمت إلينا وإلى الناخبين والناخبات، وبه حصلت على ثقتهم، وكان هذا اللباس عنوانا لها وعلى قيم تحملها. (...) ما كان لها، إذا صح أنها نزعت الحجاب خارج البلاد، أن تفعل ذلك. وأقول لا يجوز لأي واحد منا أن يكون له وجهان وجه في الداخل ووجه في الخارج" .
بعد حصرها في زاوية الاتهام، قامت النائبة بزيارة لبن كيران وأعلنت، على صفحتها في الفايسبوك كذلك، أنها نالت “دعمه”. ومع أنها كانت دائما شديدة الانتقاد للمدافعين عن الحريات الفردية، أكدت مع ذلك في يوم 4 مارس، في نفس الرسالة، بأنها كانت “ضحية كمواطنة وكامرأة وكأم لحملة تشهير واسعة انتهكت حقوقي وتهجمت على حياتي الخاصة”.
حزب العدالة والتنمية - الذي يتعرض لانتقادات متزايدة بسب إنجازاته القليلة في الحكومة، حيث يؤدي شبه دور ثانوي أمام ملكية مطلقة وحيث تعود الوزارات الأكثر أهمية (الخارجية والعدالة والاقتصاد والتعليم إلخ.) الى المقربين من القصر- كان في غنى عن قضية تضرب ما يعتبر منذ البداية علامته التجارية المميزة، والحافز في تجنيد الأنصار: الأخلاق الإسلامية. ولم تتوقف المشاكل عند هذا الحد بل نشأ جدال آخر في أعقاب قضية ماء العينين.
تقاعد استثنائي لبن كيران
كل شيء بدأ في ديسمبر/ كانون الأول 2018، عندما علم الملك محمد السادس بأن بن كيران يواجه ضائقة مالية في انتظار الاستفادة من منحة التقاعد التي له الحق فيها ابتداء من 2019. فقرر إذا إرسال مستشاره (وصديقه)، فؤاد عالي الهمة، لرئيس الحكومة السابق حتى يبلغه الرسالة التالية: “يدرك صاحب الجلالة الضائقة التي تمرون بها ولقد قرر منحكم تقاعدا استثنائيا”. هل كان بمقدور بن كيران رفض تلك الهدية المَسْمومة؟ ولسخرية القدر فالشخص الذي وصفه دوما على أنه عدوه اللدود هو الذي كان الوسيط…
بدأت الإشاعات حول “تقاعد استثنائي لا يستهان به”، نوع من “ريع مدى الحياة” منح للقائد الإسلامي تظهر هنا وهناك. وفي 21 يناير/ جانفي ،2019 قرر بن كيران التدخل، ربما للتحكم في سيل المعلومات. فنشر على صفحته بالفايسبوك فيديو يلقي فيه خطابا دام ساعة ونصف أمام مجموعة من الشباب المناضل في حزبه. وكان مستلق في راحة بمنزله بالرباط، مرتديا جلابة رمادية مع قلنسوة سوداء على رأسه. وبنبرة أبوية بدأ بتقديم “نصائحه” إلى أتباعه الشباب الذين كانوا يستمعون إليه بوقار. ثم واصل دون مقدمات “إن مصدر هذا التقاعد الاستثنائي هو سيدنا (في المغرب ينادي الموجودون في البلاط الملك بسيدنا) الله ينصره، إنه صاحب الجلالة حفظه الله. كنت أتصور أن أولئك الذين يتهجمون علي يحترمون سيدنا، لماذا يتدخلون في قرار سيدنا؟ ولكنهم بلا حياء…”.
تكاثرت الأسئلة المزعجة الصادمة. أيكون عبد الإله بن كيران، الذي عرّف نفسه على الدوام بأنه صوت المستضعفين، مقدما نفسه على أنه رجل سياسي زاهد يكتفي بالحد الأدنى، قد استفاد من تقاعد استثنائي؟ ذلك الرجل الذي قاد حرب غير معلنة ضد حاشية الملك، منددا بالزواج بين المال والسياسة الذي يجسده عزيز آخنوش، ملياردير مقرب من القصر، ذلك الرجل كان إذن، قد قَبِلَ بتقاعد هو أقرب إلى ريع منه إلى مجرد تقاعد وزير أول…
نزل سيل من الانتقادات على رئيس الحكومة السابق تندد بخطابه المزدوج وغياب الانسجام بين كلامه وأفعاله ونفاقا سياسيا لا يعلن عن اسمه إلخ.. أفرغ خصومه كل ما في جعبتهم وهم كثر، ولكن أولئك الذين كانوا قد احترموا مواقفه شعروا بخيبة بل وبمرارة.
دفاع مرتبك
بدأت أخبار جد متنوعة تدور حول مبلغ تقاعده، وقد نشرت بعض المواقع المقربة من السلطة وثيقة رسمية يطلب فيها الوزير الأول الحالي، سعد الدين العثماني (حزب العدالة والتنمية)، من وزير المالية تطبيق تعليمات الملك بمنح (في أقرب الآجال) بن كيران تقاعدا استثنائيا…
أشارت مواقع أخرى إلى تقاعد ثان، يدعى “مدني” مشيرة إلى أن بن كيران يكون قد تحصل على مبلغ 140 ألف يورو بعد مغادرته الحكومة. وأنه يتلقى شهريا تقاعدا ب9 آلاف يورو؛ كما أشير أيضا إلى مبلغ 13 ألف يورو شهريا… وخلصت هذه المواقع إلى أنه على مدى تاريخ المملكة لم يجمع أبدا وزير أول سابق كل هذه الامتيازات والمعاشات. التهبت بدورها الشبكات الاجتماعية حيث وصفت بن كيران على أنه رجل ذو “خطاب مزدوج” من أنصار “النفاق السياسي”. نصح الأقارب الزعيم الإسلامي بكسر الصمت قصد “توضيح القضية”، حسب ما قال لنا مسؤول في حزب العدالة والتنمية.
في يوم 10 فبراير/ شباط 2019 ظهر بن كيران مجددا في فيديو بوجه عبوس وعيون مطفأة مختفية وراء نظارات طبية. كان له منظر الأيام السيئة وهو يلوح بجريدة في يده. فهو لا ينفي صراحة ال140 ألف يورو التي تكون قد دفعتها له الحكومة ولكنه يقرّ ب“معاش” 7000 يورو شهريا، وهو مبلغ بالفعل لا يتقاضاه أي وزير أول سابق، وبعبارة أخرى يتعلق الأمر فعلا ب تقاعد...إستثنائي. ولكن بالمقابل نفى أن يكون له تقاعد إضافي “المسمى بالمدني” معربا عن سخطه على الجريدة التي كان يحملها بين يديه: “تقول هذه الجريدة بأن لبن كيران تقاعد مدني ثان وأن الحكومة دفعت له مبلغ 140 ألف يورو. لم تدفع الحكومة إليَّ إلا ما أمرت أن تدفع. فلا يمكن أن تدفع ما لم تؤمر بدفعه”.
أية أوامر؟ أي مبلغ؟ من دفع ماذا؟ وكم؟ يراوغ بن كيران ولا يقدم أي رقم، ثم يتطرق لتوه إلى “التقاعد الثاني المدني”. (“ولكن بخصوص هذا التقاعد المدني الثاني فإنني مندهش(...) هذا التقاعد الثاني ياليتني أراه (...) وأين هي 9 ألاف يورو التي تكلموا عنها؟ أين هي 13 ألف يورو؟ إذا أثبتوا لي بأنني أتلقى كل هذا فأنا مستعد لمغادرة المغرب نهائيا (...) إنني أتوجه إلى أتباع الفايسبوك قائلا لهم”حذاري ، هؤلاء الناس معروفون بالكذب، وأنتم على علم بهم“(...) في مسألة هذا التقاعد الاستثنائي هناك طرفان: أنا وطرف آخر، سيدنا الذي منحني هذا التقاعد. وهذا الطرف كان عليهم أن يحترموه.”
مس الارتباك حتى بعض المثقفين اليساريين الذين أعربوا دوما عن احترامهم لبن كيران لمقاومته الحاشية الملكية. الأكثر سذاجة منهم، مثل المؤرخ معطي منجب يأمل بأنه “سيتخلى عن هذا الريع”: ("هذا القرار (قبول التقاعد) والذي ولا شك اتخذ في حالة ضعف بشري جعله يتكلم الآن وكأنه مريب. واعتقادي أنه لن يتحمل هذا لمدة طويلة، فنرجسيته وحبه العميق لشعبه سيجعلانه يحاول التخلص من هذا العبء الذي يثقل كاهله ومن هاته الحصاة اللا مرئية بفيه والتي تجعله يتلعثم في الكلام وهو المعروف بفصاحته " .
إلى هاتين القضيتين اللتين لهما أبعاد شخصية، تضاف مكانة ودور وزراء حزب العدالة والتنمية في الحكومة الحالية. فبعد الإبعاد المهين لبن كيران في أفريل/نيسان 2017، لا يملك رئيس الحكومة الحالي سعد الدين العثماني لا الكاريزما ولا سخرية سلفه. فضعف شخصيته وخضوعه للحاشية الملكية وأرباب الأعمال وصل إلى حد صار فيه المغاربة يلقبونه ب“سعد الدين الكتماني”.
ويبقى مستقبل الحزب: هل يتمكن حزب العدالة والتنمية من الحفاظ على موقعه كأول حزب في المغرب، وإن كان يجدر التذكير بأنه لم يتحصل أبدا على الأغلبية المطلقة؟ يصعب الجواب قبل 3 سنوات من الانتخابات التشريعية القادمة، ولكن هناك أمر يجمع عليه المراقبون على ما يبدو: تدهورت كثيرا شعبية الحزب الإسلامي سواء لدى ناخبيه على مستوى القواعد الشعبية أو لدى المتعاطفين معه.