بين واشنطن وطهران، الحكم العراقي على الطريق الوعر

بالرغم من الانتصار على داعش · بالرغم من تصفية المعاقل الأخيرة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تجد السلطة العراقية نفسها اليوم في مواجهة تحديات عدة، ولا سيما إعادة الإعمار و ترميم الوحدة الوطنية. ولكنها تحديات تزداد وطأة بسبب المتطلبات المتناقضة ما بين طهران وواشنطن.

عادل عبد المهدي في زيارة رسمية لطهران في 7 أبريل/نيسان 2019
وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية IRNA

أكثر من سيناريو سيشغل وادي الرافدين وحكومته الجديدة التي لم تكتمل كابينتها بعد، ومجلسه التشريعي (البرلمان) بدورته المنتخبة حديثاً المؤلفة من 329 نائباً موزعين بتحالفات ابتعدت فيها عن التكتل الطائفي.

تحالفان يتصدران المشهد: قائمة “البناء” التي تضم 145 نائباً وهي موالية لإيران، وتحالف “الإصلاح والأعمار” وفيه 134 نائباً ويتسم بالقرب من المحيط العربي والبعد عن الدائرة الإيرانية. أما القوائم الكردية فجاءت مختلفة عن السابق، حيث كل حزب يعمل بعيداً عن الأخر، لفشلهما بالاتفاق لتشكيل كتلة كردستانية موحدة في بغداد.

السيناريو الأقرب للتحقيق الفعلي من هذه السيناريوهات المحتملة (وبدأنا نشهد خطواته) هو الصراع الأميركي الإيراني على أراضي العراق بسعي من واشنطن لضمه للمعسكر او الخندق الأميركي، وأولها إنهاء التعاون الاقتصادي بين بغداد وطهران الذي يصل نحو “12 مليار دولار” سنويا وقطع التهريب بالطرق غير الرسمية، لإدراك أميركا بأنّ العراق يشكل الرئة الاقتصادية لإيران.

لعبة إيران في مواجهة واشنطن

وأولى هذه الخطوات كانت مطالبة واشنطن الحكومة العراقية الالتزام بالعقوبات الاقتصادية ‎ المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن جاء الرد بالرفض لإدراك بغداد أهمية الموقف الإيراني منها وقوة الفصائل العراقية الموالية لطهران التي تسيطر على الشارع العراقي والتي من الممكن أن تعكر الاستقرار الأمني، وكذلك نفوذها الذي لا يستهان به داخل البرلمان العراقيّ، وقد يعيق هذا النفوذ النيابي استكمال تشكيل الحكومة او سحب الثقة منها كما حصل مع الحكومة التي سبقتها برئاسة حيدر العبادي الذي لم تجدد ولايته لتذبذبه في رفض تطبيق العقوبات.

‏‎بعدها جاءت الخطوة الثانية لأميركا ضمن هذا الصراع بشكل يجبر السلطات العراقية للقبول به: الانفتاح اقتصادياً على الأردن بزيارة رئيس حكومتها لبغداد وتوقيع مجموعة اتفاقيات تشمل قطاعات التجارة والاقتصاد والمال والزراعة والصحة والنقل، فضلاً عن الطاقة وأبرزها مد الأنبوب من البصرة العراقية لميناء عقبة الاردني وإنشاء منطقة صناعية مشتركة على مساحة “24 كم” مربع، كما عزز هذه التعاون الجديد مجيء ملك الأردن للعراق الذي وصف البلد المُضيف زيارته بـ “التاريخية” لتشكل دعامة أساسية لفتح آفاق أوسع للتعاون التجاري.

وهذه الاتفاقيات غيرت من تعامل طهران مع بغداد بتقليل سطوتها العسكرية المتمثلة بقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني الذي كان يزور الاراضي العراقية بشكل مستمر وهدوء الفصائل المسلحة الموالية لها.

إتفاقات في كل المجالات مع إيران

ويقابل ذلك زيارة أعلى مسؤول إيراني رئيس الجمهورية حسن روحاني الذي أنهى جولته للعاصمة بغداد وكربلاء والنجف الشيعيتين، بإلغاء تكلفة تأشيرات الدخول للسفر بين ايران والعراق، والتي دخلت حيز التنفيز في 5 نيسان الجاري. وهو الأمر الذي يصب في مصلحة طهران لأن أكثر من 5 مليون إيراني يدخل العراق سنويا لأغراض السياحة الدينية او التجارة (بتكلفة 50 دولاراً لرسوم تأشيرة الدخول للعراق)، في حين أعداد الزائرين العراقيين لإيران لا تتجاوز المليوني مواطن (والتأشيرة في هذا الاتجاه تكلف 30 دولاراً).

وتضمنت الاتفاقيات توقيع مذكرات تفاهم في مجالات عدة، متعلقة بالنفط والتجارة والصحة والنقل لإنشاء السكك الحديدية بين الشلامجة الايرانية والبصرة، وفتح منافذ حدودية جديدة بين الجانبين، وإقامة مدن صناعية مشتركة على الحدود العراقية الإيرانية لإنتاج سلع وبضائع تشترك بغداد وطهران معاً في صناعتها، وتنفيذ النقل المباشر للبضائع من دون تفريغها في الحدود المتجاورة بينهما لتفتيشها، حيث تفرغ حالياً من الجانب العراقي في محافظات البصرة وواسط وديالى والسليمانية، فضلاً عن قطاع الصحة والتعليم والتربية، وإحياء اتفاقية “1975” لرسم الحدود التي تصب لصالح ايران.

واختتم روحاني زيارته بما لم يفعله أي مسؤول من بلاده بلقاء المراجع الأربعة الذين يعدون من كبار علماء الشيعة في العراق والعالم (علي السيستاني، محمد سعيد الحكيم، بشير النجفي، ومحمد اسحاق الفياض)، وعلى رأسهم السيستاني الذي يشكل العمود الأساسي للدولة العراقية ومرجعها الروحي وأقواله وتوصياته تنفذها مؤسسات الدولة من دون نقاش. ‎يرافق الحراك الاقتصادي ضمن الصراع الاميركي الايراني، ظهور شخصيات كانت محل جدل بالشارع العراقي لمناهضتها للنفوذ الايراني ومنهم رجل الدين الشيعي آية الله1 محمود الصرخي الذي يلقب بـ “المرجع العراقيّ العربيّ” أي غمز بالمراجع الأخرى بأنها ليست عربية القومية ولا عراقية الوطنية، ولرجل الدين أنصار كثر في المحافظات الشيعية ولهم تاريخ سيء مع إيران ومنها حرق قنصليتهم في البصرة عام 2005 والآن ظهروا بقوة بمواقع التواصل الاجتماعي والحراكات الشعبية منددين بالدور الإيراني.

في هذا الصراع الأميركي الإيراني لم نشهد بعد نيران أسلحة الفصائل العراقية الموالية لإيران توجه ضد مصالح واشنطن، التي تكون أقرب هدف لهم هي قنصليتهم في البصرة لتذبذب الأوضاع الأمنية هناك او شركاتهم الاستثمارية عبر استهدافها او خطف العاملين فيها كما حصل في الأعوام الماضية.

قمع المظاهرات بعنف

التحديات المحلية للواقع العراق لا تختلف عن الصراعات المحيطة بدول جواره التي تصعّد من فتيل خلافات الأحزاب السياسية، والأحزاب تقوم بتحميل بعضها البعض مسؤولية تردي الأوضاع الخدمية.

فموسم الصيف للعام الحالي مقبل على جملة تحديات تواجه الحكومة المشكّلة حديثاً، ومنها التظاهرات المتوقع حدوثها شهري تموز وآب، لقلة توفير الخدمات وانقطاع الطاقة الكهربائية وسط تحذير للمتخصصين في الطب من انتشار وباء “الكوليرا” وتسمم المياه بسبب الجفاف، وستكون محافظة البصرة (أقصى جنوب العراق) الغنية بالنفط والتي تتجاوز درجة حرارتها الـ50 درجة مئوية، هي التي ستتصدر التظاهرات.

حيث شهدت في العام الماضي المحافظة النفطية تظاهرات استمرت لأكثر من شهرين وسقط فيها العشرات من الضحايا بصفوف المتظاهرين واستخدمت القوات الأمنية العنف لتفريق التظاهرات بعدما اقتحمت مقرات بعض الأحزاب والفصائل المسلحة، وتم حرق القنصلية الإيرانية في البصرة لاعتقاد المتظاهرين بأن إيران تحمي الأحزاب ومافيات الفساد بالعراق. ولتردي سوء الأوضاع حينها، دخلت المرجعية الدينية في النجف على خط التظاهرات بمنع استخدام العنف وتلبية مطالب المتظاهرين، لكن بعدها ذهب الحر وأخذ معه حماس المتظاهرين.

من المتوقع في هذا الصيف الذي أكد فيه وزير الكهرباء الحالي انه لا يختلف عن السابق من ناحية تزويد الطاقة الكهربائية، أن نشهد حراكاً شعبياً في البصرة والعديد من المحافظات الأخرى، تكراراً لما حصل بالعام الماضي مع قطع الطرق والاعتصام أمام شركات النفط المستثمرة. والرد الحكومي سيكون بإقالة عدد من المعنيين بالكهرباء وتشكيل لجان لمعرفة مطالب المتظاهرين، كما يحصل بعد كل التظاهرات.

ومن الصراعات السياسية التي لم تجد حلاً لها، هي مطالبة القوى الكردية بالعودة للمناطق المتنازع عليها التي فرضت الحكومة الإتحادية سيطرتها عليها والمتمثلة بمحافظات (كركوك، نينوى وديالى) بعد إجراء استفتاء انفصال “أيلول 2017”، وأثير هذا الموضوع عند تشكيل الحكومة الجديدة بضرورة مشاركة القوات الكردية (البيشمركه) في إدارة الملف الأمني لهذه المناطق، لكن ووجِهَت هذه المطالب بالتهديد والرفض من القوميات الأخرى (التركمان والعرب) بالنزول للشارع والعصيان المدني، لرفضهم لوجود أي دور عسكري كردي في هذه المناطق، في حين اكتفى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي (صاحب المشاريع الاستثمارية المشتركة مع الاكراد) بعدم التعليق، ومن المتوقع ان تجرى اتفاقيات بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان وفق ما يطمح اليه الأخير بوجود (البيشمركة) ضمن الحدود الإدارية لمحافظتي كركوك ونينوى على أن تكون مقراتهم خارج المدن والأحياء السكنية، مما قد يدخل القوميات الأخرى في صراعات سياسية جديدة مع بغداد والإقليم، لرفضها أي تواجد عسكري كردي ضمن الرقعة الجغرافية المتنازع عليها.

انتخابات زاخرة بالوعود

على الرغم من كون فترة انتخابات مجالس المحافظات المزمع إجراؤها في 16 تشرين الثاني 2019 ما زالت بعيدة، إلا أن الأحزاب السياسية بدأت تستعد للتثقيف والترويج لشخصيات نخبوية وجماهيرية تابعة لها أو مقربة منها لترشيحها للانتخابات، وهي انتخابات لم يُقَرّ قانونها لغاية الان ولا كيفية تحديد توزيع أصوات الناخبين.

هذه الانتخابات تختلف عن سابقاتها والأحزاب ستعمل لإسقاط منافسيها وللظفر بأكثرية المقاعد لتكون لها الأغلبية المريحة لاختيار محافظيها، لأسباب عديدة ومنها: المناطق السنية ستشهد إبرام اتفاقيات مع شركات محلية وعربية وأجنبية تحت ملف إعمار المناطق المتضررة إرهابيا، وتكون الحكومات المحلية جزءًا مهماً في عقد الصفقات.

والأهم من ذلك، توزيع المناصب بالحكومات المحلية ستدخله الكتل السياسية عبر تفاهمات فيما بينها لتقاسم رئاسات الهيئات المستقلة غير المرتبطة بوزارة مثل هيئة النزاهة ومفوضية حقوق الإنسان ومفوضية الانتخابات وشبكة الإعلام العراقي وأمانة بغداد الخدمية وغيرها.

كما أن نقل صلاحيات ثماني وزارات (البلديات والأشغال العامة، الإعمار والإسكان، العمل والشؤون الاجتماعية، التربية، الصحة والتخطيط، الزراعة، المالية، والشباب والرياضة) إلى السلطات المحلية وذلك تنفيذاً لقانون المحافظات رقم 21 لسنة 2008 المعدل مؤخراً، الذي دخل حيز التنفيذ، سيمنحها توزيع التعيينات على دوائرها والتلاعب والتنقل بإيراداتها المالية حسب حاجة دوائر الوزارات في المحافظات فضلاً عن مشاركتها في إدارة منافذها الحدودية مع دول الجوار، مما سيعزز القواعد الجماهيرية للأحزاب باعتبارها المتحكمة بهذه الملفات والأقرب لتنفيذ مطالب المواطنين بعيداً عن السلطة المركزية.

1لقب دينيّ يُستخدَم من قبل الشيعة الأثنى عشرية لمن يبلغ درجة الاجتهاد في الفقه الإسلامي وفق المذهب الجعفري.