الهند: لم يعد الخليج يدغدغ الأحلام

تطلعات جديدة لدى الشباب والنساء · تشهد اليوم ولاية كيرلا الهندية، المصدرة لليد العاملة الى شبه الجزيرة العربية منذ بداية السبعينيات تحولا هاما في تاريخها، مع الانخفاض الكبير في عدد المهاجرين الى بلدان الخليج. ومع ذلك فما زال الاقتصاد المحلي يعتاش من تحويلات المهاجرين

ولاية كيرلا، التي كانت تعاني التخلف في السابق، اغتنمت الفرصة غير المسبوقة التي وفرها التطور الاقتصادي السريع لبلدان الخليج منذ نصف قرن. وقد تشكلت على مدى موجات الهجرة المتتالية “شبكة كيرالية” من أبو ظبي إلى الرياض مرورا بمسقط والدوحة، إلى درجة أن هذه المقاطعة، التي لا تضم سوى 2,6% من سكان الهند، أصبحت من أوائل مصدري اليد العاملة في البلاد.

يقول إيرودايا رجان، أحد الخبراء الأكثر إلماما بمسائل الهجرة من كيرلا للخليج: “أغمضوا أعينكم وتخيلوا أن هذه الهجرة لم تحدث أبدا: لكان مسلمو كيرلا يموتون جوعا. كانت الهجرة جسرهم إلى الجنة”. يقوم الباحث، ذو الخمسين سنة، منذ نهاية التسعينيات بعمل تحليلي دقيق يوثق لظاهرة الهجرة بكل تفاصيلها. وتعود أصول 2 مليون من مجموع الهنود المغتربين 16,6 مليون إلى ولاية كيرلا. وقد استفادت كيرلا من ذلك بصفة مباشرة، حيث قفز مستوى المعيشة إلى الأعلى، وتضاعفت المراكز الاستشفائية ثلاث مرات وامتدت شبكة الطرقات بعشرة أضعاف. وتساهم الهجرة اليوم بثلث مداخيل الولاية.

ومع ذلك هناك موجة رعب تجتاح السواحل الهندية المطلة على بحر العرب حيث انعكس اتجاه الهجرة منذ 2013. فقد انخفض عدد الكيراليين العاملين في الخارج بأكثر من 12% وعاد منهم 300 ألف مهاجر إلى البلاد حتى الآن. وتعود هذه الظاهرة إلى التباطؤ الاقتصادي في كثير من بلدان الخليج إثر الأزمة البترولية لسنة 2014 ، وهي المنطقة التي تستقطب 89 % من مهاجري كيرلا. وفضلا عن ذلك، اعتمدت حكومات دول الخليج سياسات صارمة بتخصيص سوق العمل لمواطنيها مما يمنع العمال المهاجرين من الوصول إلى وظائف كانت في السابق موجهة فعليا لهم.

وتظهر مؤشرات حديثة إلى أنه من بداية 2017 إلى غاية الثلاثي الثالث ل 2018 ، غادر أكثر من 1,1 مليون أجنبي المملكة العربية السعودية، ثاني أكبر مستقبل للمهاجرين الكيراليين في العالم. كما سيحرم الترخيص الذي منح مؤخرا للنساء بسياقة السيارات، مئات الآلاف من السائقين من وظائفهم، وهم في الغالب هنود وباكستانيون..

في الإمارات العربية المتحدة، حيث يعيش 830 ألف كيرالي، تقوم الشركات الخاصة خارج قطاع النفط بفصل العمال بوتيرة غير مسبوقة منذ أكثر من عشر سنوات. ويقول إيرودايا رجان، من مكتبه بمركز الدراسات في التنمية، وهي مؤسسة عمومية للبحث في العلوم الاجتماعية، موجودة بثريفاندروم، عاصمة كيرلا: “حلم الخليج في طريق الأفول”.

ويؤكد هذا الرأي شيبينو شاهول، أستاذ في الاقتصاد يشرف على أبحاث تخص تأثير تدفقات الهجرة على المجموعات المسلمة بمقاطعة مالا بورام، المزود الرئيسي بالمهاجرين من ولاية كيرلا. كذلك انخفض عدد الطلبة الراغبين في الهجرة نحو الخليج بالثلثين خلال العشر سنوات الأخيرة. ووفقا لتقرير 2018 لمرصد كيرلا للهجرة يلعب عامل شيخوخة السكان أيضا دورا حيث يقلص من “مخزون المهاجرين المتوفرين”، حسب تعبير الباحث.

شباب يبحث عن بدائل

ولكن التغيير الذي حصل، بغض النظر عن العوامل الاقتصادية والديموغرافية، هو اجتماعي قبل أي شيء، حيث أصبح شباب الولاية يولي أهمية قصوى لتنميته الذاتية. ويتساءل هاشم كاردان، 32 سنة، مؤسس استوديو للموسيقى: “كم من سنوات ثمينة ستقضونها في الخليج بعيدا عن عائلاتكم؟ أي حياة هذه؟” عندما أطلق كاردان شركة /صاوند أكس/ في 2004 سخر أصدقاؤه من قراره البقاء في البلاد. “الآن، مع تدهور الوضعية في الخليج، صاروا معجبين باختياري في تنمية مشروع مستدام هنا”، مضيفا بأن “الاتجاه الحالي في الولاية هو البحث عن منصب في الوظيفة العمومية بدل الهجرة”.

كذلك يرفض جاسم ف. أستاذ مساعد في الاقتصاد بجامعة كاليكوت، قطعيا مغادرة كيرلا، مسقط رأسه. “جمع والدي كثيرا من المال خلال 25 سنة من العمل بالمملكة العربية السعودية ولكن عند عودته للبلاد وجد نفسه معزولا. لقد نسي القرويون اسمه وشخصيته وحتى وجوده”.

وفعلا فبلدان الخليج لا تقترح سوى هجرة تعاقدية تنتهي بمجرد انتهاء عقد العمل بدون إمكانية الحصول على الجنسية. وباستثناء العربية السعودية، حيث يشكل السكان الأصليون الأغلبية، فالعمال المهاجرون يمثلون أغلبية السكان الذين يعيشون في كل دولة من دول الخليج. وقد جعلت هذه الدول، التي تخشى أن تستفيد اليد العاملة المهاجرة من قوتها العددية، الوصول إلى الجنسية أمرا مستحيلا، إلا في حالات نادرة جدا. ووفقا لإيرودايا رجان “أصبحت الهجرة إلى الخليج محض جنون” ويرى أن العديد من الكيراليين “لهم ما يكفي من الكفاءة للهجرة نحو بلدان توفر الوصول إلى هذا المفتاح الثمين (الجنسية)” كالولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا.

ثورة النساء

بينما تثير التكلفة الاجتماعية للهجرة نقاشا عاما، صارت النساء يجهرن أكثر فأكثر برفضهن العزلة الناجمة عن هجرة أزواجهن. وبالفعل توجد على خلفية المليون و700 ألف رجل كيرالي يعملون في الخليج، مليون امرأة متزوجة تعشن في عزلة تحت وطأة صدمة الوحدة وهن ينتظرن الزيارات النادرة لأزواجهن مع الخوف من عدم عودتهم. ومن المعروف أن بلدان الخليج العربي تشتهر بسمعتها السيئة في مجال الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان (اعتداءات جسدية وجنسية، أجور غير مدفوعة، ظروف عمل غير إنسانية ووصول محدود إلى العدالة). وتقدر المنظمات غير الحكومية الدولية أن حوالي 600 ألف مهاجر هم ضحايا العمل القسري في المنطقة.

شيبيلا فايزة قلقة وهي لا تريد أن تكون كأولئك النسوة. وتُعرّف طالبة الاقتصاد هذه ذات 19ربيعا الزوج “العصري” على أنه “الصديق المفضل” الحاضر عاطفيا وجسديا. وتؤكد بأنه “في إطار الزيجات المدبرة لم تكن تؤخذ مشاعر الفتاة بعين الاعتبار. لكن الأمور بدأت تتغير الآن، لأننا أصبحنا أكثر تعلما”.

لقد ارتفعت نسبة تعليم الفتيات في المنطقة بشكل كبير بين 1951 و2011 ، حيث قفزت من 36% إلى 92%. ويعود ذلك خاصة إلى التضحيات التي قدمها السكان المهاجرون لتوفير إمكانية الوصول إلى الدراسات العليا لأبنائهم.

إن هذه التطلعات الجديدة، وإن كانت تبدو عاطفية، تتغذى من القلق المتنامي للأولياء الذين أصبحت لديهم ريبة بخصوص الاستقرار المالي للعمال المغتربين. ويشكل ذلك عاملا يجعل من هؤلاء أقل طلبا في “سوق الزواج”. وتضيف شيبيلا : “أرفض أن يطلبني مهاجر للزواج، أنا أبحث عن رجل له منصب في الوظيفة العمومية”.

فشل في الاكتفاء الذاتي

يرى الدكتور روني توماس راجان، الأستاذ المساعد في قسم الاقتصاد بجامعة كيرلا، بأن الولاية تصدر يدها العاملة نحو الخليج منذ نصف قرن وقد سمحت المداخيل المتولدة عن ذلك بتكوين ثروات شخصية ولكنها لم تساهم في هيكلة اقتصاد محلي متين ومكتفٍ ذاتيا. ويضيف معلقا “إنه أكبر فشل اقتصادي”، داعيا إلى “وضع خطة طويلة الأمد”.

ويضيف بأسف “أن الأزمة عميقة ووشيكة الحدوث في حين تتجاوز نسبة البطالة في الولاية ضعفي المعدل الوطني، حيث كانت الإمكانات المتاحة في الخليج تخفي قلة فرص العمل في كيرلا” . كما يرى أن سيناريو كارثيا يلوح في الأفق متمثلا في قلة الإقبال على الهجرة يضاف إليه اقتصاد محلي غير قادر على استيعاب الخريجين الشباب.

وعن أسئلة /أوريون XXI/ في هذا الخصوص، تؤكد السلطات المحلية أنها تنفذ برنامجا لاقتراضات مالية يهدف إلى تطوير المقاولات الذاتية لدى المهاجرين العائدين. ولكن للأسف غالبا ما يمنع غياب روح الابتكار والمهارات الاقتصادية هؤلاء من المخاطرة في هذا المجال. ولكن الطالبات والطلبة على مقاعد الجامعات يدركون تماماً الرهانات والدور المركزي المترتب عليهم في السنوات المقبلة لتفادي الطريق المسدود.

تقول الطالبة عفيفة رشيد، 21 سنة: “إن أنا هاجرت، سيدعم ذلك بلدان الخليج وليس الهند. من الأفضل لنا أن نفكر بشكل مختلف”. وهي تطمح إلى إيجاد حل لتطوير العمل المحلي من خلال إطلاق أرضية إلكترونية تسمح للفنانين المحليين رجالا أو نساء بإيجاد منافذ تجارية لإبداعاتهم.

حتى اليوم، ما تزال المؤشرات المالية إيجابية، لأن كيراليي الخليج صعدوا في السلم الإجتماعي وهم يحصلون على أجور أعلى. فبين 2013 و2018، ارتفعت الأموال التي يرسلونها إلى أكثر من 21%، وزاد في تعزيزها انخفاض قيمة الروبية الهندية. ولكن هذا الاستقرار الظاهري لا يخفي تماماً أنه قائم على نموذج اقتصادي يدين باستمراريته لبلدان أخرى تتمتع بالعافية الاقتصادية. ويختم ايرودايا رجان قوله وهو يتأرجح بين الأمل والخوف بأن ولاية كيرلا على وشك الدخول في منعرج كبير في تاريخها.