ليس في تونس اليوم ما يُلهم مُخيلة أبنائها. وإن كانت البلاد قد أثارت فيهم الأمل بفتح صفحة جديدة عام 2011، فإن خمسين بالمائة من الشباب اليوم حسب استطلاع للمفوضية الأوروبية يريدون مغادرة البلاد. مما يجعل من الصعب الزعم بإمكانية تطلع هؤلاء الى مستقبل معقول في تونس. وبغض النظر عن الأجواء القاتمة هذه، ثمة رغبة لدى الشباب أكثر من أي فئة أخرى بالعيش في مكان آخر، في رؤية أشياء مختلفة. عدد الراحلين يتزايد، بحراً وجواً. ثمة ظاهرتان في هذه الحركية يجري تداولهما في النقاش العام: من ناحية هناك ما يسمى بالهجرة غير الشرعية ومن ناحية أخرى ما يدعى بهجرة الأدمغة.
عالمان قد يبدو الواحد منهما منفصلاً عن الآخر لو أخذنا بعين الاعتبار الجدران الفاصلة التي تقيمها وسائل الإعلام والطبقة السياسية بين الظاهرتين. عالمان لا يلتقيان، لا يتقاطعان، يسيران على خطّين متوازيين. فبعض المهاجرين حسب هذه النظرية يدفعهم البؤس الى الرحيل، في حين يرحل آخرون رغبةً بأجر يرفع من مستوى معيشتهم فيضمنوا لأنفسهم حياةً أفضل، في البلدان القليلة التي تفتح لهم ذراعيها.
الرحيل لفتح أفق الإمكانيات
“شيئاً فشيئاً بات الرحيل يشكل ثقافة قائمة بذاتها في جرجيس”، هذا ما يقوله لنا أيمن، المسؤول عن الأنشطة في جمعية الأطفال المصابين بالتوحّد والمدرب في فريق الفتيان المحلي لكرة القدم المسمى ب“الأمل الرياضي” في جرجيس. والمدينة الواقعة جنوب شرق تونس بين جزيرة جربة والحدود مع ليبيا تعد 72.000 نسمة وهي بحكم موقعها منطقة مميزة للإبحار باتجاه أوروبا.
منذ العام الماضي على الأقل تزايد عدد المغادرين في هذه المنطقة كما تزايد في سائر أنحاء البلاد. العدد الإجمالي للتونسيين الذين وصلوا الى الشواطئ الإيطالية في 2018 بلغ 60.0001 ومن أصل ثلاثين شاباً في فريق الفتيان لكرة القدم ترك أكثر من عشرة بينهم كل شيء ليبحثوا عن فرص جديدة على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط. يقول لنا مدرب آخر صادفناه في الملعب، بنبرة المتذمّر:“هؤلاء الشباب متعاقدون مع النادي، ويكسبون قوتهم بشكل لا بأس به...ولا يفكرون إلا بالحرقة”. ويوضح لنا أيمن:“بالنسبة لأحد الشباب هنا فرنسا أقرب إليه من عاصمة بلده، فكل تونسي له أقارب في فرنسا يمكن أن يساعدوه.” الكثير من المهاجرين من جرجيس يعملون في المطاعم، ولا سيما في مطاعم البيتزا الباريسية. تشتد الرغبة في السفر خاصة في الصيف، مع عودة أولئك الذين جرّبوا حظهم. يعتبر أيمن أن “المدينة صغيرة والناس يراقبون بعضهم بعضاً ويقلدون بعضهم بعضاً”.
يلخص لنا الموضوع فارس، العامل في النشاط الثقافي: “أنت ترى جارك، الذي كان تائهاً مثلك منذ أربع سنوات، يعود ولديه بطاقة إقامة، وسيارة جميلة، ويبدأ بتشييد بيت له. وأنت تكافح على كل المستويات وعلاوة على ذلك كله تلاحقك عائلتك صباحاً مساءً بالملاحظات حول جارك وتسألك: وأنت؟ ماذا أنجزت؟ فكيف لك بعد ذلك كله ألا تحاول الرحيل الى فرنسا؟” يؤكد فارس كثيراً على دور العائلة في الهجرة. حتى الأهالي الذين يعارضون الحرقة، عندما يصل ابنهم الى البلد المنشود ويبدأ بإرسال المال، فهم يشعرون بالرضى والاعتزاز. وإن عاد مطروداً من تلك البلاد، ففي غالبية الأحيان لا يقابل بالترحاب ويضطر لمحاولة الهجرة مجدداً. فارس هو الوحيد الذي بقي في تونس، من بين كل أصدقائه:“كلهم في فرنسا الآن ولا يمضي يوم واحد دون أن يدعوني أحدهم للحاق بهم، بحجة أن حياتي ستكون أفضل هناك. الجميع يضغط عليك”.
دور العائلة المركزي
غالباً ما تلعب العائلة دوراً حاسماً في قرار الرحيل. بعض المهاجرين، مثل مالك الذي يبلغ من العمر 43 سنة، يسافرون مع عائلتهم بهدف منح أطفالهم بيئة معيشية أفضل. يقول بأسف: “في تونس ما تُعلِّمْه لأولادك من مبادئ مثل رمي النفايات في صندوق القمامة، على سبيل المثال، يفككه الشارع بخمس دقائق فقط”. مالك من الذين عملوا في الخارج قبل العودة الى تونس. عاد عام 2010، وكان شديد الإيمان بمستقبل البلاد قبل أن يستسلم أخيراً. “أنهكتني كل التفاصيل الصغيرة التي تثير أعصابك الى حد الجنون كقيادة السيارات والتواصل مع الهيئات الإدارية”. نفس الشيء بالنسبة لياسين، وهو أب لخمسة أطفال، ويريد السفر مع عائلته حالما تسمح له الأحوال الجوية بذلك. فهو يرى “أن تكاليف العيش فاقت المعقول ونفقات الطبابة أصبحت باهظة”.
بالنسبة للأصغر سناً تشكل العائلة عاملاً يدفعهم للبحث عن منفذ الى الخارج. فارس نفسه، مع أنه لم يسافر يوماً، يتفهم ما يمثله السفر من جاذبية: “تعيش مع أهلك، وهناك أمور عديدة لا تستطيع القيام بها أمامهم، وهم لا يكفّوا عن إصدار الأوامر وعن منعك القيام ب كذا وكذا- خاصة إن كنت فتاةً، ففي هذه الحال، نعم، تبدو فكرة الرحيل مناسبة، وبعد أن تكون قد اكتسبت تلك الاستقلالية ، فلا رجعة في ذلك”. وهذا التفهم تشاطره إياه زهرة وهي طالبة هندسة وطالما اعتبرت الرحيل وسيلة للإفلات من السلطة العائلية:“منذ نهاية المرحلة الثانوية أصبح الرحيل فكرة ملازمة لي والدافع الأهم كان أملي بأن أحصل على حرية أكبر. وبما أنني امرأة من عائلة آتية من الطبقة الوسطى تتمسك ببعض المبادئ التي عفا عليها الزمن فكنت ألجأ دوماً الى الأحابيل لأحافظ على شخصيتي”.
ومع أن سلطة الأهل يصيبها الوهن على مر الزمن إلا أنها تظل، مع كل ما يرافقها من ممنوعات يجري التحايل عليها، معياراً يؤخذ في الحسبان في حمل الشباب على الرحيل. ففي السن التي يود فيها المرء اكتشاف نفسه بعيداً عن الحدود التي يفرضها الآخرون تصبح البلدان الأجنبية مرادفاً للحرية، تلك الحرية التي لا تتحقق في الوطن، وقد لا تكون من ميزات بلد اللجوء حقاً ولكنها تبدو ممكنة بمجرد الابتعاد عن البيئة الأصلية وبسبب الفرص الجديدة المتاحة في ذاك البلد.
كل شيء يحتسب بعملة اليورو
خلافاً للصورة النمطية التي تزعم بأن اليأس والبؤس والبطالة وحدها تدفع باتجاه الإبحار من جرجيس، فإن الرغبة بحياة أفضل ونجاح مالي في أراض تكون فيها الأمور ميسرة بشكل أكبر هي أيضاً من الأمور التي تشجع على السفر. وهذه مسألة لا يمكن إغفالها، فإن كان الذين يعانون من البطالة مصممين على مغادرة بلادهم فهم يلتقون في رحلتهم هذه بموظفين من ذوي العمل الثابت أو حتى بقاصرين لا يرافقهم أي أحد من أولياء الأمور كالفتيان أعضاء نادي جرجيس لكرة القدم. وهؤلاء يعتمدون على القانون الذي لا يسمح بطرد القاصرين في أوروبا، ليستقروا فيها. في الحقيقة لم يمنع هذا القانون السلطات الإيطالية من ترحيل القاصرين حال وصولهم بحجة أن عمرهم الحقيقي أكبر من ذلك وهو الأمر الذي حصل بالذات لفتيان نادي جرجيس.
وحين يفكر المرء بقيمة اليورو الواحد الذي بات يساوي 3,5 دينار وبالتضخم الذي يقارب ال 7 في المائة فيصبح عندها من غير الممكن أن تكون أحلامه بالعملة الوطنية. يروي لنا أيمن “ذات يوم، عندما كنّا في رحلة لإحدى المباريات، سمعت أحدهم على مائدة الفطور في النزل الذي كنّا فيه يسأل رفاقه ما هو سعر صرف اليورو اليوم” ويشرح لنا أيمن المقصد:“لديهم جميعاً أشقاء في أوروبا يكبرونهم سناً يرسلون لهم المال من حين الى آخر”.
وبغض النظر عن هذه المساعدة الآتية من أحد الأقارب الذين يرسلون مبالغ قليلة من اليورو فلقد أصبح من الصعب على القاطنين في تونس أن يتجاهلوا هذا الهامش المفقود من الأجر لمن يتقاضى أجره بالدينار.. اليوم حتى الموظفون يبيعون كل ما لديهم ويبحرون أو يحصلون على تأشيرة سفر، في حين أنهم الفئة الأكثر ثباتاً من حيث عقود العمل“. هذا ما يقوله لنا حسن بشيء من التعجب، وهو المسؤول السابق في اتحاد حملة الشهادات العاطلين عن العمل، فانهيار الدينار مقابل اليورو أمر يشغل البال، خاصة لدى المهندسين. مروة مهندسة تسكن في تونس العاصمة وتستعد للسفر الى كندا. تجد صعوبة في التأقلم مع هذا الوضع في البلد. تقول :”لدي صديقة تعمل بدوام جزئي كنادلة في مقهى في الدانمارك. وأجرها يفوق أجر المهندس هنا، طبعاً كلفة العيش هناك أغلى، ولكن مع ذلك فثمة خلل مزعج في الموضوع". وحسب نقابة المهندسين التونسيين فلقد غادر ما يقارب ال10.000 منهم البلاد منذ 2016. وعلاوة على مسألة الأجور فالمهندسون في بداية سيرتهم المهنية يعانون من مشاكل خاصة بمهنتهم. بالنسبة لزهرة، التي تستعد للعمل كمهندسة متدربة في نهاية فترة دراستها في فرنسا :“المهندسون غير معتبرين إطلاقاً، كما هو المفروض. ثمة هدر للطاقات الكامنة. والدراسة الجامعية لا تواكب سوق العمل”.
أما الأطباء، ف 45 بالمائة من المسجلين في نقابة الأطباء عام 2017 غادروا البلاد فوراً بعد التسجيل. الذين يعملون منهم في المستشفيات العامة يتذمرون من ظروف المهنة لتي تتدهور باستمرار ولا سيما فيما يتعلق بالتجهيزات الطبية وضغط العمل. يتوجهون عموماً الى فرنسا أو ألمانيا حيث يتقدمون لمسابقات متاحة لهم ، يلتحقون بعدها بالمستشفيات.
المهندسون والأطباء هم أكثر من يجري الحديث عنهم عندما يتم التطرق الى هجرة الأدمغة. إلا أن العبارة هذه تستوجب التدقيق بها، لأن الطريقة التي تناقش فيها المسألة توهم الناس بأن ثمة خيار، قرار فردي يتخذه المهاجر. ولكن هذا الوصف ليس دقيقاً.
فالبلدان التي تستقطب الأطباء والمهندسين تتقدم بطلب، يأتي عرض الخدمات جواباً له. إن سياسات الهجرة الانتقائية التي تنتهجها بلدان مثل فرنسا وألمانيا وكندا تتستر وراء عبارات مثل “هجرة الأدمغة”. سياسات الهجرة لدى البلدان الغربية، والأوروبية منها على وجه الخصوص، تُقَولِب التغطية الإعلامية في تونس نفسها حول قضية الهجرة كما وتؤثر على السياسة المتبعة تجاهها. فمن ناحية تقوم هذه السياسة التونسية بالتدقيق في الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لأعداد المهاجرين غير الشرعيين المتجهين الى إيطاليا كما وتشجب سلوك المهاجرين الذين لا يتمسكون بالبقاء في بلادهم وإقامة مشاريع فيها. ومن ناحية أخرى تعبر الدولة عن قلقها من الهجرة المكثفة للأدمغة“أو”النخب"، من مهندسين وأطباء، دون أن تجرؤ على إعادة النظر في الأوضاع التي تجعل المهاجر يرحل بسبب الكسب الضائع، هذه الأوضاع التي تتفاقم من جراء سياسات الهجرة الانتقائية التي تنتهجها الدول الغربية والتي تتسبب بهجرة الأدمغة.
1حسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية