اتخذ كل من عبد العزيز بوتفليقة والجنرال خالد نزار والعديد من شخصيات النظام الجزائري الآخرين من المستشفيات الأوروبية وجهتهم العلاجية المفضلة. ويفسر الدكتور محمد مبتول، مؤسس أنثروبولوجية الصحة في الجزائر وصاحب كتاب “الجزائر، المواطنة المستحيلة؟” انعدام الثقة في النظام الصحي الوطني على أنه شكل من الاحتقار للسكان ومهنيي قطاع الصحة. فعقدة المستعمر، وفق مقولة فرانتز فانون، ما تزال حاضرة في ظاهرة البحث عن العلاج في الخارج خاصة وأن الأمر يتعلق أحيانا بأمراض من السهل التكفل بها في الجزائر.
هل هذه العقدة هي التي دفعت ب 150 ألف جزائري إلى اللجوء إلى العيادات التونسية سنة 2017 أم ضرورة أن يكون لدى المريض “علاقات” كي يحصل على موعد، أم التدهور المستمر للمنشآت؟ والمفارقة أن التونسيين من جهتهم يتجهون الي المدن الجزائرية القريبة من الحدود، للاستفادة من القطاع العام الجزائري الأقل كلفة. كما تعالج أكثر من 2000 جزائري آخر بفرنسا حيث يعمل عدة آلاف من الأطباء المكونين في الجزائر.
وتعبر زلة لسان أحد القراء في يومية “ليبرتي” الصادرة باللغة الفرنسية الذي خلط بين كلمتي فحص وإخفاء، (أي بين auscultation و occultation ) معبرة عن شعور حقيقي بالاختفاء لدى المرضى: “لقد رفض الطبيب المناوب فحص مريضة لأسباب غير معروفة (...)! الحمد لله جاء طبيب آخر لنجدتها و”أخفى“المريضة!”
يحدث ذلك في نظام صحي مختل أنشئ بعد الاستقلال وتدعم في السبعينيات وكان هدفه تلبية احتياجات المواطنين دون تمييز بسبب الانتماء الاجتماعي أو الجهوي. وقد وصلت الميزانية المخصصة لقطاع الصحة خلال السنتين الفارطتين إلى ما يقارب 6 مليارات من الدولارات، في حين يقول ابراهيم براهمية أن “التأمين الصحي يغطي 85% من السكان. ويعالج أصحاب الأمراض المزمنة والأطفال الصغار والأسر المعوزة مجانا”.
ويلطف هذا الخبير في اقتصاد الصحة الانتقادات قائلا: “ليست لنا وسائل الأمم المتقدمة ولكن مع ذلك يصنف نظامنا الصحي في المرتبة الرابعة إفريقيا، وقد سمح لنا بكسب 30 سنة من أمل العيش منذ 1962. لم يكن عند الاستقلال في الجزائر سوى طبيب جزائري واحد لكل 30 ألف نسمة. وقد صار المؤشر في 2016 طبيب واحد لـ 545 نسمة”.
عمليات زرع متهورة
ما الذي إذا يفسر الاختلالات التي يندد بها المواطنون؟ يجيب براهمية: “يعاني القطاع الصحي من تناقضات في مجال الحوكمة والتسيير وتقييم الأداء، فالإنفاق في مجال الصحة في ارتفاع واضح ولكن دون تحكم حقيقي حيث لا يتم إلا نادرا تقديم الحسابات الوطنية للصحة، وصارت النفقات المتروكة على عاتق العائلات مشكلة (أي الأدوية غير المعوضة من طرف الضمان الاجتماعي)، كما أصبحت مؤسسات تمويل الصحة تبحث عن موارد جديدة”.
يتهم محمد مبتول السلطات العمومية “بأنها أجرت عمليات زرع متعددة ومتسرعة وغير مدروسة لتجهيزات ومستشفيات في مجتمع يبقى غير مدروس شبه كليا. وهو ما أدى إلى وجود هياكل للعلاج بدون مستخدمين وهي مستعملة بشكل ضعيف جدا. بتجاهلها للخصائص الاقتصادية والثقافية والجغرافية والصحية لكل منطقة، أنتجت السلطات العمومية نموذجا أحاديا ونمطيا، لا يعير اهتماما يذكر لتعقيدات وتنوع الأوساط الاجتماعية. ونتيجة ذلك، يضطر المرضى وعائلاتهم إلى الترحال الاجتماعي والعلاجي ليتمكنوا من الوصول إلى العلاج بالمستشفيات الجامعية الموجودة بمدن وهران والجزائر وقسنطينة. ولا يتعلق الأمر باختلالات فنية أو اجتماعية فقط، بل يعود ذلك بصفة أساسية إلى المركزية المفرطة والبيروقراطية في تنفيذ عرض العلاج. لا يمكن إنكار البعد السياسي لكل نظام صحي، لأن السياسي هو الذي يحدد طريقة تأسيس المجتمع وهو الذي يقوم بالاختيارات وبمختلف التحكيمات في مجال الصحة”.
يشير بوعلام غنيم ، طبيب يعمل بالقطاع الخاص بعد أن عمل طويلا في القطاع العام، إلى “أنه كان يفترض أن يسمح الطب المجاني للجميع بالاستفادة من نفس الحقوق في الصحة. وقصد تحقيق هذا المشروع، تقرر تكوين ألف طبيب كل سنة. وهو برنامج يستحق التنويه لأنه قرَّب الأطباء من المرضى. ولكن عيوبا كبيرة تخللته، لأنه يستند بقوة إلى مطلب سياسي تحركه أسباب إيديولوجية، مما يدفع بصفة مستمرة إلى بذل المزيد، وإن غابت الوسائل، وقد أدى ذلك إلى طب ابتعد عن مسارات البحث العلمي. وأصبح اليوم العاملون في مجال الصحة، باستثناء عدد قليل من مصالح المستشفيات الكبرى، غير قادرين على الاستجابة لمتطلبات الطب الحديث”.
نفس التحليل نجده لدى الطبيبة النفسية للأطفال، نسيمة مطهري، التي تقول بأسف: “تعود فترات عديدة من الأزمات في قطاع الطب النفسي إلى قرارات سياسية تعسفية، ومنها انتزاع مبنى بكامله من مصلحة الطب النفسي بمستشفى مصطفى باشا بالجزائر، وأيضا غلق العديد من عيادات الأطفال الرضع. يضاف إلى ذلك مغادرة مئات من الأطباء النفسانيين البلاد بعد اغتيال الطبيب النفسي، محفوظ بوسبسي، سنة 1993. وقد تسبب ذلك في نزيف حقيقي وقطيعة بين الأجيال، مما أعاق التواصل العلمي. ومع ذلك هناك زملاء يعملون على تحسين النظام الصحي في أيامنا هذه ولكن في إطار نظام سياسي ساحق وعازل …”
وترغب الدكتورة مطهري في أن يكون مؤشر تقييم وضع القطاع الصحي “هو قياس نوعية الخدمة التي يقدمها للمواطنين، وأيضا تقييم ما ينتجه في مجال الفكر والتطوير”. بدلا من ذلك، يتوجه اليوم التسيير السياسي لقطاع الصحة إلى إصلاحات ذات طابع اقتصادي أساسا، تهدف إلى ضبط الإنفاق مع انخفاض أسعار النفط . في هذا الاتجاه وقصد تشجيع الإنتاج المحلي منع قانون يعود إلى 2008 استيراد الأدوية المنتجة محليا. ولكن مع ذلك لم يتم التوصل إلى عقلنة النفقات المرجوة حيث وصلت تكلفة استيراد الأدوية في سنة 2018 إلى ملياري دولار.
بالمقابل ترتب عن هذا القانون ندرة في الأدوية على رفوف الصيدليات، مما جعل الناس يعتمدون على أنفسهم في إيجاد حلول بديلة لنقص الأدوية، على الأقل جزئيا. فكثيرا ما تُوجَّهُ طلبيات إلى الأقارب الموجودين في الخارج الذين يتحولون، عند كل رحلة، إلى صيدليات متنقلة. ويعد ذلك تموينا لا يستهان به للسوق الوطنية وإن كان يصعب تقديره بالأرقام.
عيادات خاصة وطب نبوي
دفع التدهور في قطاع الصحة العمومية المرضى نحو العيادات الخاصة التي تضاعفت في عهد بوتفليقة. فلمجرد نقل دم يمكن لعيادة خاصة، ودون وازع أخلاقي، أن تستبقي المريض تحت المراقبة الطبية من 24 إلى 48 ساعة بتكلفة 20 ألف دج، أي ما يعادل راتبا شهريا. يعترف غنيم أنه “مثلما هو الحال في كل العالم، تعد الصحة تجارة يمكن أن تدر الكثير. للأسف في الجزائر كثيرون أولئك الذين لا يكترثون بخصوص احترام الأخلاقيات في مجال الأسعار والوقت المخصص للمريض”.
وتعد النساء من الضحايا السهلة لهذه التجارة بسبب “وباء العمليات القيصرية المربحة جدا والتي تمثل، حسب احسن زناتي،”50% من رقم أعمال" بعض العيادات. فقد اكتشف هذا الباحث في مركز الأبحاث في الاقتصاد المطبق للتنمية ببورغونيا (فرنسا) أن 72 % من الولادات في سنة 2015 تمت بطريقة قيصرية في العيادات الخاصة بالجزائر العاصمة وبجاية، مقابل 22 % بمستشفى عمومي بالجزائر. وهناك ظاهرة أخرى تتمثل في كون المريض يُدفع دفعا إلى القطاع الخاص، حيث يجد نفس العاملين الذين وجَّهوه نحوه تحت حجة استعجال التكفل الذي لا يمكن للمستشفى العمومي أن يوفره بسبب نقص الأسرة.
ويعتبر مبتول أن “خروج الأطباء من الانتساب إلى هياكل الدولة للصحة لا يبرره فقط الأجر، الذي عرف ارتفاعا هاما خلال السنوات الأخيرة، إنما هو مرتبط بصفة وطيدة بغياب الاعتراف الاجتماعي والسياسي بأعوان الصحة بشكل عام. يعتبر اليوم غياب الكرامة في مجال العمل الطبي، الذي يقدم في ظروف تقنية واجتماعية بعيدة عن المعايير، السبب الأهم الذي يفسر هذا الهروب نحو الخارج ونحو القطاع الخاص.”
كما يستفيد أيضا “الطب النبوي”، الذي يمارسه أفراد غالبا بدون تكوين طبي، من هذا الوضع المزري. لقد كلف أحد الرقاة امرأة بتسليم بطاقته التعريفية إلى الدكتور بوعلام غنيم قصد تبادل الزبائن: “لقد سمح لنفسه بهذه الوقاحة لأن بعض الزملاء من الفاسدين شاركوا في هذه اللعبة”. ويضيف الطبيب قائلا : إن الأمور ازدادت سوءا حيث صار العديد من أعوان الصحة يرتدون ألبسة إسلامية أثناء العمل (سروال نصف الساق، قميص، لحى مخضبة بالحناء…) ويمارسون الحجامة والرقية والعلاج باللمس… ويحظى هؤلاء بشعبية كبيرة خاصة من قبل فئات من السكان تتصور بأن لديهم قوى خارقة".
فيروس الفساد
في حين تأسف نسيمة مطهري من كون “هياكل الطب النفسي لا تتجدد بما فيه الكفاية، حيث تعود في أغلبها إلى العهد الاستعماري ولا تكفي لتلبية حاجيات السكان”، يقر بوعلام غنيم من جانبه بأن كل الإمكانات “من هياكل وطواقم طبية تعاني من الفوضى والتجاوزات في الحقوق والسرقات والفساد على مستوى مسؤولي الصحة، لا سيما في مجال تسليم تصاريح استيراد التجهيزات والأدوية”.
ويؤكد محمد مبتول ب “أن نظام الرعاية الطبية يتم تسييره بصفة بيروقراطية، حيث يتم تخصيص الميزانية السنوية دون تقييم للأنشطة الحقيقية. ويتم تخصيص هذه الميزانية وفق الهياكل الصحية وبناء على حجم العلاقات مع المسؤولين المركزيين بوزارة الصحة”.
وبالفعل تلطخ قطاع الصحة بالعديد من الفضائح المالية وتضارب المصالح. وحتى عبد المالك بوضياف، وزير الصحة نفسه (2013 ـ 2017)، اتهم من طرف موقع ألجيري بارت بأنه سمح لأبنائه “بإنشاء شركة للمتاجرة بالمواد الصيدلانية وتصنيعها”. نفس الوزير أقيل من منصبه نتيجة إحدى أكبر الفضائح الصحية في الجزائر، حيث دعم أمام الكاميرات وضد رأي عمادة الأطباء تسويق“رحمة ربي”، وهو منتوج ركبه مشعوذ، كان يقدم نفسه على أنه طبيب، وقدَّمه على أنه علاج سحري للسكري.
لا شيء من هذا يفاجئ حليم فضال، الأمين العام للجمعية الوطنية لمكافحة الفساد. وهو يرى أن الفساد في الوسط الصحي يتفاقم بسبب “تحكم اللوبيات التابعة للأوليغارشيات العسكرية- المالية في سوق استيراد المعدات الطبية. ويسيطر هذا اللوبي على سوق إنتاج المواد الصيدلانية، كما يؤثر بشكل حاسم على عملية توزيع العقار وتسليم القروض البنكية، وله أيضا امتياز احتكار المنتجات. كما يستفيد من غض الطرف الضريبي وشبه الضريبي، خاصة مع إغلاق السوق الوطنية، المشجع للاحتكار، بترتيبات مصممة خصيصا لمصلحتهم”.
وتتمثل هذه الترتيبات في التشريع عن طريق “التنظيم”. يقول فضال: “أن المسائل التي يفترض أن تقدم إلى المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) تُترَك للجهاز التنفيذي، أي للوزارات التي تحيك النصوص التي تناسبهم. ذلك هو الحال بالنسبة لقانون 18 ـ 11 المتعلق بالصحة الذي ينص على أن”تشكيل وتنظيم وتسيير المرصد (الوطني للصحة) يتم تحديده عبر نصوص تنظيمية". ويسمح هذا الإجراء، حسب نفس المتحدث، بإعادة تقييم متكرر لميزانية الصحة بسبب “تقديرات إدارية يضعها موظفون ليسوا خبراء في المجال، مع هامش خطأ مسموح به يفوق 50 % من تكلفة المشروع. وأحيانا يتم تضخيم التقديرات عن قصد، حتى تتم الاستفادة من”هبات“تمنحها الشركة المختارة”.
وعلى خلفية هذا الفساد وسوء التسيير، يتعين على الجزائر أن تواجه تحديات يفرضها القلق والتلوث والاستهلاك المفرط للمواد الغذائية التي نادرا ما تستجيب للمعايير الدولية في مجال استخدام المضافات، مثل مبيدات الحشرات والسكر. وتشير الأرقام إلى أن 41 % من الوفيات في سنة 2016 تسببت فيها أمراض القلب والأوعية الدموية.