السلام بين أثيوبيا وأريتريا في غرفة العناية الفائقة

تحت العين الساهرة للنظم الملكية في الخليج · كان اتفاق السلام الموقع بين أثيوبيا وأريتريا قد أثار آمالاً عريضة. إلا أنه تعثر، رغم التقدم المحرز، وهو الأمر الذي يثير قلق بلدان الخليج المتواجدة في القرن الإفريقي.

أسمرة في 9 يوليو /تموز 2018. توقيع إتفاق السلام بين أثيوبيا وأريتريا، من طرف رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد (الى اليسار) والرئيس الأريتري إساياس أفورقي (الى اليمين).

في التاسع من يونيو المقبل يكمل اتفاق السلام بين ارتريا واثيوبيا سنته الأولى، ولكن للأسف داخل غرفة الانعاش. العام الماضي وفي غمرة حماس كاسح ومجهود مضنى للسلام في الداخل والخارج، قاد رئيس الوزراء الاثيوبي الشاب أبي احمد حملة سلام داخلي تم بموجبها الافراج عن السجناء السياسيين المعارضين ودعوة قوى واحزاب المعارضة الاثيوبية للتخلي عن السلاح وللعمل سلميا من الداخل والترحيب بجلوس الجميع إلى طاولة الحوار. خارجيا كان الاتجاه نحو الجيران حيث قدم مبادرته للسلام مع ارتريا والتي أنهت عمليا حالة عداء استمرت عشرين عاما مع حرب ضروس في سنوات 1998-2000 قضت على الألوف من الشباب من البلدين.

ارتريا كانت تضع شروطا لأي سلام مع اثيوبيا أولها تطبيق اثيوبيا لقرار ترسيم الحدود الصادر في ابريل 2002، وإعادة منطقة بادمي المتنازع عليها والتي آلت السيادة عليها لارتريا وسحب القوات الاثيوبية من الأراضي الارترية المحتلة، هذه الشروط لم تكن تقبل التفاوض وبدونها حرمت اسمرا الجلوس إلى طاولات المفاوضات مع اثيوبيا. مع استلام أبي احمد السلطة وإعلانه مبادرة سلام غير مشروط مع ارتريا رمت اسمرا كل تحفظاتها وراء ظهرها وشرع الرئيس اسياس افورقي في عملية سلام كان هو طرفها الوحيد من الجانب الارتري؛ بينما مرت العملية في اثيوبيا عبر القنوات الدستورية بعد مصادقة البرلمان الاثيوبي عليها. كون الرئيس اسياس الطرف الوحيد من الجانب الارتري أعطى عملية السلام صبغة أنها اتفاق مع رجل دول واحد وليس مع دولة ذات مؤسسات، الأمر الذي حذر منه خبراء ارتريون بالقول بأن هذا السلام مع رجل واحد وليس له ضمانات مؤسساتية وسند شعبي ولذلك لن يعمر ولن يكون ملزما للشعب الارتري.

ثلاث حكومات في أديس أبابا

ليس هذا العامل الوحيد الذي أدخل السلام الارتري الاثيوبي غرفة الانعاش؛ بل الاختلاف العميق في الرؤى والتوجهات والتحولات المتسارعة في الداخل الاثيوبي نفسه. فعليا انقطعت الزيارات المتبادلة لزعيمي البلدين منذ فترة وأكد مستشار رئيس دولة ارتريا وساعده الأيمن يماني قبرآب بأن اثيوبيا تحكمها ثلاث حكومات وأن أبي أحمد لا يسيطر على زمام الأمور فيها. هذا التصريح والذي جاء في اجتماع جماهيري مع الجالية الارترية في الرياض الشهر الماضي كان بمثابة المسمار في رأس العملية من الجانب الارتري. بالرجوع إلى الوراء نجد ان ارتريا لم تتشجع للدخول في حوارات للسلام مع رئيس الوزراء الاثيوبي السابق هيلي مريام ديسالن لأن اعتبرته ببساطة غير متحكم في زمام الأمور.

هذا يعكس تفاوت كبير في وجهات النظر المتعلقة بالنظام السياسي الداخل في العملية السلمية: فارتريا من ناحيتها دولة يحكمها رجل واحد وليس بها مؤسسات وهو الذي يقرر وحده ما يجب أن يكون، ولذلك قد تجد بعض الحكومات التعامل معه أكثر سهولة من التعامل من جهة سياسات بعدة رؤوس، والرئيس الارتري يفضل دوما التعامل مع ند قوي لديه نفس القدرات من السيطرة وهو ما يفتقده في رفيق سلامه الشاب أبي أحمد.

رئيس الوزراء الاثيوبي من ناحيته التفت حول عنقه مشاكله الداخلية وصرفته عن التوجه الدولي الذي بدأه بزخم عال. فالصراعات بين الاثنيات الاثيوبية الكبرى: الاورومو والأمهرة والصومال والتيغراي بدأت تدخل مرحلة جديدة يصعب التحكم بها، وهذا أهم مظاهر ضعف الحكومة الاثيوبية حسب ما تراه اسمرا. تمظهرت الحلول غير المقبولة- لدى اسمرا- للمشاكل الاثيوبية بقيام رئيس الوزراء ابي احمد بتعيين زعيم اقليم الأمهرة السابق وذو الميول المتشددة غيدو اندلتكاتشو وزيرا للخارجية، وتعيين حاكم اقليم اوروميا السابق ليما مقريسا وزيرا للدفاع، هذه التعيينات جاءت على شكل محاصصات لإرضاء القوميتين الكبيرتين في اثيوبيا؛ ولكنها جاءت على حساب اقليم الصومال والذي احتج على تهميشه في إعادة توزيع المناصب السيادية.

مصلحة الأمهرة

من ناحية أخرى الرئيس الارتري ومساعديه كانوا يشعرون بدرجة عالية من الاريحية في التعامل مع وزير الخارجية السابق الدكتور ورقنه غبيو، والذي عمل قبل توليه منصب وزير الخارجية منصب وزير الدولة للشئون الخارجية واتسم بالمرونة والقبول التام من قبل اسمرا، أما وزير الخارجية الجديد فهو متشدد ويشترك مع رئيس الوزراء الراحل السابق مليس زناوي في فكرة إبقاء ارتريا في حالة ضعف دائم- أي حالة لا حرب ولا سلم- تنهكها ماديا ومعنويا؛ لأن الوزير الجديد يضع مصالح قوميته نصب عينيه، وهو الأمر الذي حمله إلى سدة الوزارة، ومصلحة قوميته تتجسد في ابقاء الخصم التقليدي للأمهرة والمتمثل في قومية التيغراي في قطيعة مع ارتريا بحيث لا تمثل لها ارتريا نقطة مرجعية عند اشتداد الصراع مع قوميته.

إضافة إلى ذلك، عدم إمساك أبي احمد لزمام الأمور في عاصمة بلاده إضافة إلى اعتماده على حلول المحاصصات الاقليمية أوجس ارتريا منه، لأن ذلك الحل سوف يجلب إلى دائرة الضوء خصوم تقليديين لأسمرا.

وأخيرا تريد ارتريا أن يتجاوز رئيس الوزراء الاثيوبي المؤسسات والتعقيدات السياسية في عملية السلام معها، وهو الأمر الذي يبدو غير منطقي في ظل حكومة منتخبة، وهو كذلك الأمر الذي ينظر إليه الحاكم الأوحد في اسمرا كخصم من رصيد كل من يتعامل معه. ارتريا دوما شحيحة في الإعلان عن نواياه ومواقفها، ولذلك يبقى الشعب الارتري في انتظار خطاب الرئيس اسياس افورقي في الرابع والعشرين من الشهر الجاري يوم عيد الاستقلال، حيث ربما يتناول بتوسع ما آل إليه حال العملية السلمية بين اسمرا وأديس ابابا، ولكن حتى ذلك الحين قد يكون الوقت قد تأخر كثيرا على السلام الراقد في غرفة الإنعاش.

مساندة القذافي

عانت ارتريا من عزلة دولية خانقة زاد من وطأتها العقوبات التي فرضتها عليها الأمم المتحدة في ديسمبر من عام 2009 ومضاعفتها في ديسمبر من عام 2011. وكان عام 2011 وما بعده عاما شديد الوطء على اسمرا والتي وصلتها موجة الربيع العربي على شكل خسارة لأكبر حلفاءها التقليديين وهو رجل ليبيا القوي آنذاك معمر القذافي، ففي سنوات عزلة اسمرا كان هو المصدر الوحيد والثابت للدعم بأهم ما تحتاجه اسمرا: النقد الأجنبي والبترول. العقيد القذافي حاول أحياء مبادرة سلام مع بين ارتريا واثيوبيا في منتصف عام 2003 ولكن اثيوبيا دوما كانت على حذر وتوجس منه، رغم أنه حاول إضفاء البعد الدولي على مبادرته بتسليمها لمنظمة الساحل والصحراء، رغم ذلك لم تقبل اثيوبيا بالعرض وأصرت على سياستها الهادفة إلى اسقاط حكومة اسمرا. وتتويجا لجهودها بهذا الصدد جمعت اثيوبيا الخصمين اللدودين لأسمرا وهما الرئيس اليمني علي عبد الله صالح والسوداني عمر البشير وأسس الشركاء الثلاث ما عرف بحلف صنعاء، والذي أجمع قادته على تضييق الخناق على ارتريا شرقا وجنوبا وغربا حتى تسقط حكومتها؛ وكان ذلك في صنعاء في اكتوبر 2002.

حينها أدركت ارتريا بأن الدول الثلاثة تتربص بها لتأخذها على حين غرة، ولكنها صرحت على لسان رئيسها بأن هذا الحلف المعادي لارتريا مصيره الفشل لأن ارتريا سوف تعتمد على حلفائها لأسقاط مخططاته. وعند بدء الزلزال السوداني في ديسمبر من العام الماضي أسر الرئيس الارتري لأحد معاونيه بأن البشير هو آخر أبطال حلف صنعاء وسيمضي كما مضى حليفيه مليس زيناوي وعلي عبد الله صالح. وما بين الموت والاغتيال والمعتقل اختفى خصوم اسياس الشرسين وبقى هو ليتندر عليهم. احتفظت ارتريا في تلك الفترة بعلاقات متينة مع ايران بشكل خاص والتي جمعها معها العداء الصارخ للولايات المتحدة ولكن ذلك التحالف لم يستمر طويلا.

وعلى رأس دول الخليج العربي احتفظت ارتريا بعلاقات متميزة ومتينة مع دولة قطر كان من نتائجها قيام قطر بالتوسط في إعادة العلاقات السودانية الارترية والتي قطعت من جانب ارتريا في عام 1994، وكانت دولة قطر تنظر إلى إرتريا كقاعدة انطلاق نحو العمق الافريقي الذي غابت عنه طويلا، واعتمدت في استراتيجيتها الافريقية على الخرطوم واسمرا والتي توافقت معها في معاداة اديس ابابا إذ اتهمت اثيوبيا قطر بالوقوف إلى جانب ارتريا في حرب الحدود المشار إليها سابقا. دعمت قطر توجهها بالتوجه نحو جيبوتي ومكنها التقارب مع ارتريا وجيبوتي من التوسط لحل الخلاف الحدودي بينهما، حيث وضعت قوات قطرية لحفظ السلام بين البلدين ونجحت في اطلاق سراح بعض أسرى الحرب الجيبوتيين الذين كانت تعتقلهم ارتريا وتنكر وجودهم لديها.

استفادت قطر من حالة البرود التي شهدتها العلاقات بين اسمرا والرياض، فالعاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز وضع العلاقات الارترية السعودية في الثلاجة نظرا للتقارب الارتري الليبي الارتري من ناحية، وللخوف من الأنشطة الايرانية في الضفة الغربية من البحر الأحمر. الشرخ في العلاقات القطرية الارترية بدأ في الظهور عند إدراك القيادة القطرية لتعنت ارتريا في حل الأزمة مع الجيبوتي ووضع العوائق أمام عملية السلام بين البلدين الأمر الذي أحرج قطر دوليا؛ ثانيا وقوف أسمرا والدوحة على طرفي المعادلة في الصراع الليبي، حيث كانت ارتريا حليفا معنويا كبيرا للقذافي في محنته الأخيرة، حتى أنها لم تورد أي أخبار حول الاوضاع في ليبيا في وسائلها الإعلامية، ولم يعرف الشعب الارتري بمصرع العقيد الليبي إلا من خلال وسائل الإعلام الأجنبية. حتى ذلك الوقت كانت دولة الأمارات والسعودية غائبتان فعليا عن أي تأثير فعلي في القرن الافريقي عامة وارتريا بشكل خاص، ما عدا مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز في التوجه للاستثمار الزراعي في اثيوبيا لتأمين احتياجات المملكة الحيوية.

انسحاب قطر

السلام الارتري الاثيوبي تحقق في ظل تحولات دولية كبرى أولها وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الابيض وتوجهه المعلن لمواجهة الصين خاصة في افريقيا، تزامن هذا التوجه مع وجود أصوات في واشنطن تدعو إلى رفع التضييق عن ارتريا ضمن الاستراتيجية الامريكية في احتواء التواجد الصيني في افريقيا. وكان التحول الثاني هو وصول رئيس الوزراء الاثيوبي إلى السلطة في ابريل 2018.

اكتملت الدائرة بالمبادرة الاثيوبية للسلام بين ارتريا واثيوبيا، والتي وجدت فيها واشنطن فرصة ذهبية لجمع حليفين قديمين في شراكة جديدة، أو على الأقل إزالة حالة العداء بينهما بما يسمح يوما بعمل مشترك وجماعي، خاصة وأن ارتريا نفضت يدها من علاقاتها بإيران إسوة بالسودان وجيبوتي، وضربت اسفينا في علاقاتها مع قطر بوقوفها إلى جانب السعودية والإمارات بعد عاصفة الحزم التي بدأت في مارس 2015.

نجحت هذه التحولات في تفعيل دور القوى الاقليمية وتمليكها فرصة صنع السلام. وبالفعل خرجت قطر من القرن الافريقي بإعلانها وفاة مبادرتها لحل الخلاف الحدودي بين ارتريا واثيوبيا وسحب قواتها من الحدود. حققت كل مصر والسعودية والامارات نقاطا ثمينا في القرن الافريقي مع المعارك ضد الحوثيين في اليمن. فمصر وارتريا احتفظتا بعلاقات جيدة بعد دعم ارتريا لانقلاب الرئيس السيسي في 2013، فارتريا لم تكن تحمل ودا للرئيس المصري المنتخب محمد مرسي والذي أغاظها باستقبال وفودا من الحركة الاسلامية الارترية، والتي تتهم ارتريا تركيا حاليا باحتضانها وتنشيطها من السودان المجاور قبل سقوط الرئيس البشير.

الدخول السعودي الإماراتي كان قويا، حيث استأجرت دولة الامارات ميناء عصب لفترة زمنية طويلة وانشأت قاعدة عسكرية متقدمة قامت دول التحالف في استخدامها في شن غارات على اليمن. واستخدمتها الامارات بشكل خاص في تدريب عناصر من الشرطة وأمن حماية المنشآت والتي تم توزيعها لاحقا لحماية المنشآت الحيوية في عدن.

تلقفت كل الرياض وابوظبي التوجه نحو السلام والذي بدأ من اثيوبيا وبدأت العاصمتان في الإشراف على الخطوات الفعلية للسلام بين اسياس افورقي ورئيس الوزراء الاثيوبي، وتمت مكافأة العاصمتين على الايجابية في خطوات السلام وكانت اثيوبيا أكثر شفافية في اعلانها عن المعونات التي تلقتها من الامارات بشكل خاص، أما ارتريا فهي لا تعلن عن مدخلاتها هذه العملية او حتى من تأجير القاعدة العسكرية للإمارات.

واليوم تشهد المنطقة تحولات أخرى كبرى أولها التأزم الداخلي في اثيوبيا والذي قد يصرفها إلى حين عن اهتماماتها الدولية والاقليمية والثورة السودانية التي أطاحت بالرئيس البشير، والتي لا تنظر إليها ارتريا بعين الارتياح، فهي دفعت ثمن الربيع العربي الأول في طرابلس، ولا تشعر بالارتياح نحو الزلازل السياسية. المنطقة تدخل طورا آخرا بتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة إيران. التحولات الجديدة والعاصفة في المنطقة قد تدفع الاطراف الدولية والاقليمية إلى إعادة النظر في خارطة التحالفات وإعادة خلط الأوراق ولن تكون أسمرا والتي تعتبر مياه راكدة بعيدا عن هذه التحولات الجارفة.