إيران، سوريا، العراق : تناقضات ومفارقات السياسة الأميركية

في حين تتباهى الولايات المتحدة الأميركية بانتصارها في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية فهي تسجن نفسها في التناقض ما بين إرادة الانسحاب تدريجياً من الشرق الأوسط والتصعيد مع إيران. وهي استراتيجية لا بد أن تمضي في زعزعة استقرار المنطقة، ولا سيما العراق وسوريا.

الثاني عشر من فبراير/شباط 2019 — طلعة مراقبة لجنود أمريكيين في طائرة هيليكوبتر فوق بغداد خلال زيارة وزير الدفاع بالنيابة باتريك شاناهان.
Lisa Ferdinando/US Department of Defense

لقد وقعت الولايات المتحدة غداة هزيمة داعش في سوريا والعراق في تناقض. فمع أن واشنطن لا تتطلع لاستعادة مكانتها السابقة كقوة عظمى تطمح لقَوْلَبَة الشرق الأوسط حسب خطط المحافظين الجدد، إلا أنها ما زالت تعتمد على الشركاء الذين ساندتهم في الحرب على داعش لمواجهة البلد الذي تعتبره عدوها الأول: إيران. هذا التذبذب ما بين رواسب سياسات الصقور والتوجه الانعزالي الجديد والذي طغى حديثاً على سياستها أعاق تحرك شركاء أمريكا في مفاوضاتهم مع مختلف الفرقاء السياسيين - خاصة مع القوى السياسية المتحالفة مع إيران - مما أدى الى مآزق في سوريا وفي العراق. ً وتجد الولايات المتحدة نفسها بسبب هذا النهج الحالي عاجزة عن احتواء إيران، في حين أنها تُبقي قواتها منخرطة في الميدان في صراعات طال أمدها الى جانب حلفاء محليين هزيلين. وإن لم تتبع الولايات المتحدة الأميركية سياسة تشجع الحلفاء المحليين على الدخول في مباحثات سياسية مع سائر القوى المحلية -بما فيها تلك المتحالفة مع إيران - فسوف يفشل انخراطها العسكري في سوريا والعراق في تأمين ما تصبو إليه من نفوذ مستديم وسيهدد احتمالات السلام.

المشكلة الكردية المستعصية على الحل

ولقد تم في عهد الرئيس دونالد ترامب تحويل هدف الولايات المتحدة في سوريا من هدف أمني على نطاق ضيق يرمي لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية الى عملية احتواءٍ للنفوذ الإيراني، والضغط على النظام السوري لإجباره على انتهاج انتقال سياسي. ولقد وفرت الولايات المتحدة الأمريكية منذ 2014 الأسلحة والتدريب لوحدات حماية الشعب الكردي، التي أعيد تسميتها بالقوات السورية الديمقراطية، في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

وخلال السنوات الأربع من الشراكة العسكرية مع الولايات المتحدة، أرست وحدات حماية الشعب الكردي أسس حكم محلي في شمال شرق سوريا. وتسيطر هذه “الإدارة الذاتية” على أكثر من 450كم من الأراضي المحاذية لحدود تركيا الجنوبية. وحسب أحد أعضائها فإن وحدات حماية الشعب الكردي تضم أكثر من 140.000 عضواً، و60.000 مقاتلا وقوة شرطة مكونة من 30.000 عنصرا. وحسب أحد مصادر الأمم المتحدة فإن هذه الإدارة بسطت سلطتها على مساحة تمثل خمسة أضعاف مساحة لبنان.

لكن بالرغم من هذا الوضع الميداني، لم تتمكن الحركة الكردية من تحويل الدعم الخارجي الذي تحظى به إلى مساندة سياسية قوية. وفي الواقع، فإنّ الروابط بين وحدات حماية الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني، الحركة التي تشن حرب عصابات في تركيا، قد أججت مخاوف أنقرة التي اعترضت على إدراج هذه الإدارة الذاتية في عملية جنيف للسلام بقيادة الأمم المتحدة، وتصدت لأي انفتاح من العواصم الغربية باتجاه وحدات حماية الشعب الكردية وأحبطت جهود جهات أخرى مثل روسيا أو إيران في عرض وساطتها لمساندة أي تفاهم بين دمشق وهذه الأراضي الكردية الخاضعة للحكم الذاتي. وبالتالي فلقد حُشرت الإدارة المحلية في الزاوية. إذ تم استبعادها من عملية جنيفا وفي الوقت نفسه فشلت في محاولاتها المتتالية الرامية الى التوصل لتفاهم ثنائي مع دمشق.

ولقد زادت الطريقة التي تعاملت فيها الولايات المتحدة مع تركيا من هذا الدوران في الحلقة المفرغة. فالدعم العسكري المستمر لوحدات حماية الشعب الكردي / القوى الديمقراطية السورية أقنع تركيا بأن الولايات المتحدة تدعم قيام “دُوَيْلة لحزب العمال الكردستاني” على حدودها مع سوريا. وكلما ازداد شعور تركيا بهذا الخطر كلما زادت من حشد قواتها على الحدود مع سوريا. وتالياً، كلما حشدت تركيا قواتها على الحدود كلما اضطرت الولايات المتحدة لحماية المناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردي/ القوات الديمقراطية السورية من احتمال شن هجوم تركي عليها. في شهر نوفمبر /تشرين الثاني وبعد مضي شهر من التعبئة العسكرية التركية على الحدود السورية التي تخللتها مناوشات متقطعة على نطاق ضيق بتبادل العيارات النارية عبر الحدود قررت الولايات المتحدة نشر نقاط مراقبة وتسيير دوريات مشتركة مع “القوات السورية الديمقراطية”. ولقد عززت هذه التحركات من مخاوف تركيا من دعم أمريكي لحزب العمال الكردستاني في بناء قدراته الذاتية العسكرية.

مخاوف تركيا

وليست المحاولات الأميركية الحالية للتخفيف من حدة التوتر بين حليفها المحلي في الحرب ضد تنظيم داعش وتركيا سوى تكراراً للعملية نفسها: ففي عجزها أو عدم استعدادها لأن تأخذ بالحسبان العلاقات القائمة بين حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردي، ترى الولايات المتحدة التوتر الحالي حول المنطقة الشمالية الشرقية وكأنه مجرد مشكلة ثنائية مع الشمال الشرقي، وبمعنى آخر مجرد مشكلة حدودية. وتماماً كما حاولت الولايات المتحدة أن تخفف من حدة التوتر بإحلال مراكز مراقبة ودوريات مشتركة، فلقد جاء اقتراحها بإنشاء “منطقة آمنة” مجرد حلقة في مسلسل طويل تطغى فيه الترتيبات الآنية العسكرية على القضية السياسية الجوهرية لتتركها جانباً : ألا وهي الروابط بين حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردستاني، وهو الأمر الذي يجعل تركيا مصممة أكثر من أي وقت مضى على التحرك بعزم.

ولئن كان التواجد الأمريكي يوفر الحماية دون شك لوحدات حماية الشعب الكردي على المدى القصير فهو في الوقت نفسه يؤلّب القوى الإقليمية على حليفه المحلي. فإيران ترى في الدعم العسكري الأمريكي تحركاً هادفاً بوضوح لاصطفاف الأكراد الى جانب الولايات المتحدة ضد طهران وضد حلفائها المنضوين تحت لواء “محور المقاومة”. وتركيا ترى فيه خطة مدعومة من أمريكا لترسيخ دُويلة يحكمها حزب العمال الكردستاني. ودمشق مقتنعة بأنه جزء من خطة أمريكية-إسرائيلية لتقسيم سوريا. ولقد بدا منذ الآن أن موسكو تنوي تغليب اهتمامها بمخاوف دول المنطقة على العلاقات التي تربطها بوحدات حماية الشعب الكردستاني. ومنذ سنة، في يناير 2018، كانت موسكو، بسبب هذه المخاوف، قد أعطت الضوء الأخضر لعملية “غصن الزيتون” التركية التي أدت الى نشر القوات المسلحة التركية في عفرين، وهي المنطقة المأهولة بالأكراد في شمال شرق سوريا.

ولقد أصبح الحكم الذاتي الكردي أسير انحياز وحيد الجانب للولايات المتحدة الأمريكية، مما يعسر ولا ييسر محاولاته تحديد وضعه في سوريا. فالمسؤولون عن الحكم الذاتي مدركون تماماً أن أي حل دائم لهم إنما يكمن في التسوية مع دمشق، وأن الاعتماد على الحماية الأمريكية دون سواها ، والفشل في فتح مباحثات مع دمشق يعرّضهم بشكل متزايد لتدخل عسكري تركي على نطاق واسع. يعترف أحد المسؤولين بذلك قائلاً: “ندرك تماماً أننا وحدنا في الساحة. ولقد قلنا للولايات المتحدة الأمريكية أنه بسبب انحيازنا لها فلقد جعلنا المنطقة بأسرها تنقلب ضدنا، ولكن ما باليد حيلة فدون الولايات المتحدة الأميركية لا أمل لدينا في الخروج من المأزق”.

زعزعة استقرار الحكومة في العراق

وكما في سوريا فلقد تحول هدف إدارة ترامب في العراق من إلحاق الهزيمة بداعش الى مناصبة إيران العداء مما سبب استقطاباً بين القوى السياسية على الساحة العراقية، وعطل الحكومة العراقية. ولقد ساهم هذا التصعيد في إحراج الحكومة العراقية في محاولتها البقاء على الحياد في هذه المجابهة بين الولايات المتحدة وإيران، وخلق مأزقاً سياسياً دفع إيران الى توسيع وترسيخ تحالفاتها مع شركاء عراقيين محليين، مما قوض أركان الحكومة العراقية أي الحليف الرئيسي لأمريكا.

منذ عام 2014، نشرت الولايات المتحدة 5,200 من جنودها على الأراضي العراقية وزوّدت قوات الأكراد العراقيين، البيشميرغا، كما أمدت الحكومة العراقية، بالأسلحة والتدريبات والمعلومات الاستخبارية والمستشارين. ولقد أدى ضغطها على حليفَيْها الرئيسيين، أي الأطراف الكردية والقوى الشيعية المعتدلة التي تقود الحكومة، وذلك بهدف دفعهم الى تشكيل جبهة ضد إيران، أدى الى إضعاف قدرة هذين الشريكين على التأثير في السياسة العراقية، كما أضعف قدرة الولايات المتحدة نفسها. إذ أحدث الضغط استقطاباً داخل المشهد السياسي العراقي المشتت أساساً، فأصبح يتمحور بين معسكرين متنافسين، أحدهما يحظى بدعم أمريكي والثاني بدعم إيراني. ولقد حال هذا الاستقطاب دون توصل المعسكر الأول الى إبرام اتفاق مع المعسكر الثاني لإيجاد مرشحين للوزارة يمكن أن يلعبوا دور الوسيط بينهما، مما أدى الى مأزق لم يتم الخروج منه بعد. وحكومة عادل عبد المهدي التي تسلمت مهامها في أكتوبر تشرين الأول 2018 تعتمد على أغلبية هزيلة وهي حكومة غير مكتملة، فيها حقائب هامة للغاية كالداخلية والدفاع والأمن الوطني ما زالت شاغرة.

موقف الولايات المتحدة العدائي ضد إيران يمثل ضغطاً كبيراً على الحكومة العراقية فهو يدفعها باتجاه الإعلان صراحة عن خيارها بين الاثنين :واشنطن أو طهران . ولقد طالبت واشنطن بغداد منذ أكتوبر بتطبيق العقوبات على إيران والتوقف عن تسديد مدفوعات الغاز والكهرباء المستوردة منها. وكانت واشنطن قد سمحت بإعفاء مؤقت من تطبيق العقوبات لمدة 45 يوماً في فترة أولى ثم لفترتين متتاليتين كل واحدة منهما تدوم 90 يوماً مما سمح الاستمرار بدفع أقساط الغاز والكهرباء لإيران ولكن ذلك يضع رئيس الوزراء في موقف حرج للغاية، حيث يتعين عليه إعادة التفاوض دون هوادة بشأن تمديد الإعفاء.

كما أن وضع الميليشيات العراقية على القائمة السوداء بسبب روابطها بالحرس الجمهوري الإيراني الذي أدرج منذ 8 أبريل نيسان على لائحة المنظمات الإرهابية قد يعزز من ميول إيران والولايات المتحدة للتنافس في مساندة القوى غير النظامية الخارجة عن سيطرة الحكومة. وقد يتم ذلك على حساب برنامج إصلاح القطاع الأمني الذي حاول إعادة تجميع هذه القوى تحت مظلة الدولة وهندسة هيكل الجهاز الأمني في فترة ما بعد داعش

نفوذ طهران المتزايد

وحتى لو لم تكن احتمالات الصدام الفعلي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران أمراً حتمياً، إلا أن تصرف الولايات المتحدة وكأن الخطر داهم يزعزع من محاولة بغداد البقاء على الحياد. ولقد حذّر وزير الخارجية مايك بومبيو المسؤولين العراقيين خلال زيارته الأخيرة لبغداد من أن أي اعتداء على مصالح أمريكية في العراق سيؤدي الى ردٍّ حازم على الأراضي العراقية نفسها. وبعد ذلك بأيام، قررت وزارة الخارجية سحب جزء من طاقمها الدبلوماسي من العراق.

إلا أن أي انحياز معلن من الحكومة العراقية للمعسكر الأمريكي قد يثير ردود فعل محلية، ويدفع بعض التجمعات النيابية في البرلمان لسحب ثقتها من الحكومة أو حتى اللجوء الى بعض الميليشيات العراقية لخلق البلبلة الأمنية. وفي المقابل لو عمدت الحكومة العراقية لأخذ جانب إيران ضد الولايات المتحدة، فقد يؤدي ذلك الى معاقبة واشنطن لها بحجة انتهاك نظام العقوبات على إيران وقد تُجَرّد العراق من مساعدتها العسكرية والأمنية التي لا بد منها للحيلولة دون عودة داعش الى ربوع البلاد.

وفي هذه الأثناء يزدهر نفوذ طهران في الساحة العراقية مع بقاء الأمور عالقة على هذا النحو. حيث أصبح لها علاقات عابرة لكامل الطيف السياسي فلقد أقامت روابط مع أحزاب وشخصيات كانت سابقاً من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين. قال أحد هؤلاء الذين تحول ولاؤهم الى إيران مؤخراً:“الإيرانيون يبذلون المساعي للحوار، ويلتزمون وينفذون ما وعدوا به. أما الولايات المتحدة الأمريكية فلا تفعل أي شئ من هذا”.

ولأن لدى المسؤولين الإيرانيين علاقات مع الفصائل الشيعية والكردية والسنية العربية فهم في موقع يتيح لهم تسهيل الاتفاقات بين مختلف الأطراف بل والحلول محل الحكومة في وضع السياسات. فعلى سبيل المثال يبرم الحزب الديمقراطي الكردستاني حالياً اتفاقات مع أقرب الحلفاء الى إيران، الأعضاء في ائتلاف فتح في حين أنه كان تاريخياً أقرب الى الولايات المتحدة منه الى إيران. كما أن هؤلاء المسؤولين قادرون، على عكس الحكومة، على ضبط انتشار القوات المسلحة غير النظامية في الأراضي المتنازع عليها بين المنطقة الكردية وبغداد.

وفي يناير كانون الثاني قامت بعض القوى الممثلة في البرلمان والمتحالفة مع إيران بإعداد مشروع قانون يشكك بمشروعية التواجد العسكري الأمريكي في العراق. وخلال شهر فبراير شباط تعاظم التأييد لهذا المشروع. و بغض النظر عما إذا كان البرلمان سيقر القانون أم لا في نهاية المطاف فقد يحصل مشروع القانون هذا على تأييد بعض النواب المقربين من أمريكا فيضطرهم الى تبني موقف علني حول حماية السيادة الوطنية وعدم السماح بالتدخل الخارجي. وقد لا تستطيع الحكومة بدورها الاعتراض على تنفيذ القانون خوفاً من ردة فعل البرلمان وخسارة الأغلبية النيابية التي تسمح لها بالحفاظ على السلطة وممارسة الحكم.

يقوم الإيرانيون في العراق بما حاولت الولايات المتحدة عبثاً القيام به : الضغط على الخصوم عبر الشركاء المحليين. يقول أحد المسؤولين في وحدات الحشد الشعبي، التنظيم العسكري غير النظامي المرتبط بإيران:“كلما صعّدوا كلما اعتبرنا من حقنا تعزيز موقعنا في الميدان.”

العمل على توجه سياسي فعلي

في سوريا كما في العراق ثمة فجوة ما بين موقف واشنطن العدائي من جهة وانسحابها من الشرق الأوسط من جهة أخرى، وهذه الفجوة تكشف غطاء الأمان عن الحلفاء وتجعلهم في وضع هش. وإن كان هدف الإدارة مواجهة إيران دون إقحام الولايات المتحدة في حرب واسعة النطاق مع طهران، فإن عليها أن تعتمد على استراتيجية تحويل تواجدها العسكري في سياق ما بعد داعش الى نفوذ سياسي. ولن تستطيع فعل ذلك إلا عبر شركائها المحليين على أن تسمح لهم بالتفاوض حتى مع القوى المتحالفة مع إيران المسيطرة على الساحة في المشهد السياسي ما بعد داعش في سوريا والعراق. أما التصعيد اللفظي ضد إيران دون استراتيجية لإحلال نفوذ سياسي ملموس فقد يضمن لإدارة ترامب شعبية محلية في أمريكا نفسها ولكنه قطعاً سيهدر موارد الولايات المتحدة ويطيل من أمد الأزمة في كل من البلدين.

ففي سوريا ستضطر الولايات المتحدة لإيجاد صيغة تسمح لها بالحفاظ على دعمها لوحدات حماية الشعب الكردي دون أن تتسبب لهذا الفريق بعداوة الأطراف الإقليمية. عليها بالأحرى أن تختار استراتيجية تتيح لوحدات حماية الشعب الكردي بترجمة الدعم العسكري المستمر الى ورقة تستخدمها في مفاوضاتها مع دمشق بهدف الوصول الى صيغة مختلطة تسمح بعودة الدولة السورية في مجالات كالتربية والتعليم والشؤون الإدارية وتتفادى عودة جهاز الدولة الأمني. ولعل وضع ترتيبات لتقاسم السلطة محلياً والتشارك بالأمن بين الدولة المركزية والإدارة الذاتية هو أفضل السبل في الوقت الحالي لإعادة التواصل تدريجياً بين الدولة المركزية والإدارة الذاتية دون فرض سيناريو الاستسلام على هذه الأخيرة. وهذه التسوية لا تعني نهاية اللعبة. ولكنها ترسي فترة انتقالية طويلة المدى تضع حداً لانزلاق وحدات حماية الشعب الموزي نحو العزلة السياسية بل وأن تقلب الآية. كما أنها ستضع هذه الوحدات في موقع أفضل تجاه أي عملية سياسية وفِي الوقت نفسه تسمح لها على الأقل مؤقتاً بالحفاظ على قدراتها العسكرية.

كما أن من شأن هذه التسوية أن تأخذ بعين الاعتبار أوجه القلق لدى دمشق والقوى الإقليمية الأخرى. فسوف توفر حلا وسطاً للنظام الذي يعلم تماماً أنه لا يستطيع إعادة بسط سلطته ومؤسساته في شمال شرق سوريا، وفي الوقت نفسه تخفف من الانحياز وحيد الجانب لدى وحدات حماية الشعب الكردي للولايات المتحدة الأمريكية. أما الإدارة الذاتية فيمكنها إعادة الاتصال بالحكومة المركزية دون فقدان السيطرة على الأطراف الهامشية لمنطقتها وفي الوقت نفسه إزالة التوتر مع كل الأطراف القلقة حيال علاقتها الحالية بالولايات المتحدة التي تعزلها عن الآخرين وبالتحديد روسيا وتركيا ودمشق.

كما ومن شأن مثل هذه التسوية أن تأخذ بعين الاعتبار مخاوف تركيا لأنها تضع ضوابطاً تلجم الحكم الذاتي. وبذلك يتم تفادي كابوس دُويلة حزب العمال الكردستاني على حدودها حتى لو بقيت مسألة القدرات العسكرية لدى وحدات حماية الشعب الكردي معلّقة.

ومن شأن مثل هذه التسوية الناتجة عن مفاوضات أن تحلّ معضلة الولايات المتحدة الأمريكية الواقعة في تناقض بين رغبتها باستخدام وجود الأكراد في الميدان لمواجهة إيران وحاجتها لإصلاح علاقاتها مع تركيا. والهدف هو التخفيف من حدة المشاكل مع تركيا ومن خطر دخول إيران على الخط في الشمال الشرقي للاستفادة من الأوضاع المنفلتة هناك في حال انسحاب الولايات المتحدة الأميركية أو فشل جهودها الدبلوماسية الحالية. وأخيراً وليس آخراً من شأن هذه الصيغة أن تتيح تعريف كل الأطراف عن كثب بالخيار الواقعي الوحيد المتاح أمام كل القوى المعادية للنظام اليوم: منح سلطات واسعة للأراضي تحت سيطرة المتمردين.

في العراق يجب أن تتمثل الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية في مساعدة الحكومة على إكمال تشكيلها وتمكينها من ممارسة الحكم. وهذا معناه التخفيف من الضغط على الحكومة في مسألة تطبيق العقوبات على إيران وتشجيع - أو على الأقل عدم إحباط- التقارب بين الكتل السياسية المتنافسة في البرلمان.

إن موقفاً أكثر تساهلاً حيال تطبيق العقوبات من شأنه أن يعطي الحكومة العراقية هامشاً أكبر للتحرك بحيث تستطيع مراعاة إيران والولايات المتحدة على حد سواء بدل أن تحشر في زاوية طرف واحد. أما الإبقاء على التدابير المؤقتة في إعفاءها من تطبيق العقوبات فسيبقيها في وضع هش. ومن الأفضل أن تتفق الإدارة مع بغداد على خارطة طريق في تطبيق العقوبات تأخذ في الحسبان اعتماد العراق في مجال الاقتصاد والطاقة على إيران وتُقيم حساباً لاحتمالات حدوث أعمال انتقامية ضد الحكومة، سياسياً وعسكرياً. كما أن توافقاً عاماً في الآراء بين الكتل السياسية المتنافسة في البرلمان من شأنه أن يضع حداً لعرقلة تشكيل الحكومة، وأن يساعد الأطراف السياسية على الاتفاق بشأن الوزارات الشاغرة وتعيين شخصيات معتدلة لها، وزراء يستطيعون التعامل مع إيران وأمريكا على حد سواء، كما ويسهّل إيجاد حلٍّ في تحديد الوضع القانوني للتواجد العسكري الأمريكي في العراق.

وكذلك الأمر في سوريا، فإن كانت العقوبات مُنهكة لقوى النظام، إلا أنها في الوقت نفسه قد تشجع على انتعاش بعض خلايا داعش في المناطق المحررة حديثاً. كما أن ندرة النفط في المناطق التي يتحكم فيها النظام تُغذي شبكات التهريب من المناطق التي تسيطر عليها القوات السورية الديمقراطية، باتجاه مناطق النظام. ولقد أدى هبوط العرض المحلي من النفط في الأراضي التي تسيطر عليها القوات السورية الديمقراطية الى ارتفاع هائل للأسعار، وهو الأمر الذي تسبب، من ضمن أمور أخرى، بمظاهرات شعبية في ريف منطقة دير الزور،مما قد يوفر فرصة لخلايا داعش بتأجيج الأمور واستغلال الأوضاع لإعادة التموقع في الميدان.

وفي سوريا كما في العراق، يستحسن بواشنطن أن تجعل خطابها منسجماً مع أهداف سياستها الخارجية وأن تضع منهجاً سياسياً يوضح علاقاتها مع الشركاء المحليين ويتماشى مع انسحابها الجزئي من الشرق الأوسط. وتتمثل أول خطوة بالاعتماد على الشركاء المحليين وإتاحة الإمكانية لهم بأن يعقدوا الأحلاف التي تناسبهم حتى لو كان ذلك مع أطراف غير صديقة بحيث يدافعوا عن مصالحهم عبر مفاوضاتهم الخاصة. آن الأوان للولايات المتحدة أن تغيير منهجها لتوفير قدر أكبر من الاستقرار في الشرق الأوسط وليكون لها كلمة على المدى البعيد في هذه المنطقة، وأن توفر على نفسها التكلفة الباهظة المترتبة على مشاركتها المكثفة في العمليات الميدانية والتي لم تجن أي فائدة تذكر من استثمارها هذا، والتي باتت مرفوضة بوضوح من الإدارة الحالية.