لا يعرف أحد ما يدور فيها، واسمها وحده يوحي بتجارب سيئة الذكر. تركيا نفسها التي كانت المدافع التقليدي عن الشعوب الناطقة بلغتها وعن الأويغور بشكل خاص، تلتزم اليوم الصمت حيال هذا القمع الحكومي الذي لا يطاق ، إذا ما استثنينا بعض الانتقادات النادرة التي تكاد لا تسمع. يُعبّر هذا الخذلان عن انصياع تركيا للواقعية السياسية الاقتصادية والجيواستراتيجية العملية. تتكثف الصلات الاقتصادية التي تربط تركيا بالصين مع مرور الأيام، في الوقت الذي تتراجع فيه بتناسب عكسي استقلالية أنقرة. ولكن التبعية الاقتصادية هذه لا تفسر كل شيء. فبعد أن قطعت تركيا الى حد ما ارتباطها بالغرب باتت صديقة وحليفة نظم سلطوية قوية، وباتت بدورها ميالة لهذا الانحدار نحو التسلط مما يتسبب لها بالنقد اللاذع من قبل حلفائها التقليديين، مع أنهم هم أنفسهم غير منزّهين عن الأسلوب السياسي الشعبوي والديماغوجي (الغوغائي).
عملية استعمارية
والأويغور، هذا الشعب التركي المسلم الذي كانت له لفترة طويلة الأغلبية في منطقة تركستان الشرقية والتي أعيد تسميتها سين كيانغ (الحدود الجديدة) من قبل نظام بكين منذ 1949، أصبحوا اليوم مهمشين وتحولوا الى أقلية ضعيفة في ديارهم بفعل الهجمة الاستيطانية الصينية من عرق الهان التي وفدت عليهم من عدة ولايات صينية. أما الحكم الذاتي المحدود جداً والنظري أكثر منه عملي والذي كانت السلطة الشيوعية قد منحتهم إياه، فلقد أفرغ تماماً من أي محتوى ، شيئاً فشيئاً وبشكل مستمر. ولقد تسارعت وتيرة الاستيطان الى درجة أن مدينة أورومشي، وهي عاصمة المنطقة، سوف تستوعب عما قريب ما تبقى من الأويغور الذين يبلغون اليوم نسبة 20% من السكان. إن السياسة الصينية المتمثلة في الاستيعاب والتهميش قد أدت الى حركات تمرد في بارن عام 1990 وفِي أورومشي في تموز يوليو 2009 ومؤخراً عام 2015 في عدة مدن من منطقة الحكم الذاتي. وبالفعل، منذ نهاية الاتحاد السوفياتي عندما استقلت الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى وكانت مثالاً يحتذى بالنسبة للأويغور، برز الوعي الجماعي الساعي للتصدي للضغط الصيني المدمر. ولكن هامش التحرك لدى الأويغور محدود وتبقى محاولاتهم متواضعة. غالبية منظمات الأويغور لا تطالب سوى باحترام الحكم الذاتي كما حدده الدستور الصيني، ووقف الاستيطان ووضع حد للتمييز والاضطهاد الذي يتعرضون له. وبالفعل، ثمة حقوق مبدئية عدة يجري انتهاكها، كقمع التظاهرات والتعبيرات الثقافية أياً كانت، وعرقلة الحرية الدينية وخاصة الترويع والإذلال الفردي والجماعي بشكل يومي.
القمع والتطرف
ولقد كانت نتيجة هذا التشدد الصيني أن دفع منذ الآن فئة من المعارضين الى التطرف. وبالتالي فلقد انضم عدد منهم الى الجهاد، من النوع الأفغاني أو السوري، كشكل من أشكال مقاومة المحتل مما وفّر بالتالي للنظام ذريعة، يباركها الكثيرون على الصعيد الدولي، لإسباغ الشرعية على ما يقوم به الصينيون من اضطهاد وقمع جماعي والمضي قدماً في هذه الممارسات. وتعتبر الصين هذا الارتباط مهما كان ضعيفاً بين فئة من المقاومة الأيغورية والظاهرة الجهادية الدولية فرصة سانحة تسمح لها بتقويض مصداقية المطالب المشروعة و“شيطنة” كل المعارضين على أنهم متطرفين راديكاليين خطيرين. تتخذ بالتالي للأسف سياسة القمع، والتي تخفي اضطهاداً حقيقياً بكل معنى الكلمة، أبعاداً فائقة بسجن أكثر من مليون شخص في “مخيمات إعادة التأهيل” التي لم يعد يتردد البعض في وصفها “بمعسكرات الاعتقال”. قامت لجنة تابعة للأمم المتحدة من التثبت من وجود هذه المعسكرات إلا أن الانتقادات الدولية ما زالت خجولة للغاية بحيث لم تقلق راحة بكين ولم تضع حداً للظلم. كانت تركيا من البادان القليلة التي أعربت رسمياً عن احتجاجها ولكن بشكل غير كاف في نظر الأويغور الذين يتوقعون دعماً أكبر لإخوانهم الأتراك، لأن تركيا داعم متميز له خصوصيته.
الإرث العثماني
من المفارقة بمكان أن تشعر الجمهورية العصرية العلمانية في تركيا، بأنها ما زالت مكلفة برسالة بصفتها وريثة الإمبراطورية العثمانية وأن تضطلع بدور الراعي الدولي والدبلوماسي الذي يحمي الشعوب المسلمة المعرضة للمصاعب في البلدان المجاورة ويمثل بلد الملاذ بالنسبة لها. وبالفعل، لقد أعربت تركيا غير مرة في تاريخها الحديث عن اهتمامها بإخوانها الأتراك المسلمين المضطهدين وخشيتها عليهم. كانت الأقلية التركية في جزيرة قبرص فد دفعت تركيا الى التدخل عسكرياً في الجزيرة عام 1974. وبنفس الطريقة كثيراً ما شكلت الأقلية التركية في بلغاريا واليونان محور خلاف بين تركيا وجيرانها. في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية ابتداءً من 2002، لم تعد الأقليات التركية وحدها تستفيد من اهتمام تركيا ومساعدتها المادية الملموسة بل الشعوب المسلمة االمنكوبة البعيدة جداً أحياناً عن الأراضي التركية مثل الروهينغا في تايلاند. وفِي تاريخ أقرب إلينا فإن القضية الفلسطينية، والأقلية التترية الناطقة بالتركية في القرم، وكذلك مجموعات التركمان في سوريا والعراق كلها قد لفتت اهتمام تركيا. هذا المنهج المطبوع بالتزام معنوي لا ينفي تواجد المصلحة الدبلوماسية والجيواستراتيجية في زيادة هيبة تركيا وشرعيتها على الساحة الدولية ولكن الفائدة من ذلك أنها تنعكس على شكل مساعدات ومساندة ملموسة لشعب مضطهد.
التضامن العائلي
ما هي حصة الأويغور من سياسة “التضامن العائلي” التي تنتهجها تركيا؟ قبل إحلال نظام الجمهورية بزمن طويل كانت الامبراطورية العثمانية قد أقامت الكثير من الاتصالات مع الأويغور في الصين. على رأس الإمارة في عهد نظام المحمية بين عامي 1864 و 1877، كان الخان يعقوب بيك الذي بسط نفوذه على مساحة كبيرة من أراضي الأويغور الحالية يعقد علاقات وثيقة جداً مع سلاطين بني عثمان. طلب يعقوب بيك، سعياً منه لترسيخ إمارته الهشة، حماية العثمانيين بل وسيادتهم المباشرة عليها. وهو الأمر الذي لم توافق عليها الامبراطورية، لأنها لم تعد تمتلك الإمكانيات لسياسة النفوذ في أماكن البعيدة آلاف الكيلومترات عن مركزها. ثم تراجع الاهتمام بقضية الأويغور مع إحلال الجمهورية.
ومع ذلك فمن مفارقات الجمهورية التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك أنها مع تأكيدها على النزعة القومية المتمحورة حول الأناضول، فهي ظلت تهتم ب“أتراك الخارج” ولا سيما منهم أتراك آسيا الوسطى الأقدمية. ولقد أنشأ بهذا الصدد قسم متخصص بالدراسات الصينية، بقرار من أتاتورك. لا شك أن العلماء يدرسون فيه تاريخ الأتراك القديم ويدعموه بالوثائق، ولكن المبادرة هذه قد حفزت الدراسات التركية حول قضية الأويغور. ولقد فتح عصر استلام ماو تسي تونغ السلطة في الصين صفحة جديدة في تاريخ الأويغور. فلقد عزز الحكم الشيوعي من قبضته على السلطة وضغط بشكل أكبر على الشعب، ووضع حدوداً للحقوق والحريات المتاحة للأقليات المضطهدة والمهمشة، فدفع بالآلاف من الناس الى الهجرة. هكذا، وفي خلال السنوات التي تلت إحلال السلطة الشيوعية عام 1949، فضل الكثير من الأويغور الهجرة الى تركيا، حيث استقروا بمساعدة المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. من ضمن هؤلاء شخصيتان بارزتان في الحركة الوطنية الأويغورية، عيسى يوسف البتكين ومحمد أمين بغرا. وتحلقت حولهما في وقت مبكر في تركيا جالية أويغورية راح عددها يزداد كلما ازداد القمع في الصين. المؤسسات العديدة التي أنشأتها الجالية والجمعيات ودوائر المثقفين القوميين أو المنادين بوحدة المسلمين هي التي تقوم بتدبير شؤون رعاية الجالية في اسطنبول وكذلك في قيصري وأنطاكيا أكثر مما تقوم بذلك الحكومات التركية. مع أن غالبية الحكومات قد أثبتتن ودون الكثير من التحفظ أحياناً، تضامنها مع الأويغور ومساعدتهم بشكل واضح. فسليمان ديميريل وتورغوت أوزال، الذين شغل كلاهما منصب رئيس وزراء ثم منصب رئيس الجمهورية خلال الثمانينات والتسعينات قد استقبلا في مناسبات عدة زعيم الجالية الأوغورية عيسى يوسفا البتكين. كما وتم تدشين حديقة عامة عام 1995 على ساحة المسجد الأزرق التاريخية تخليداً لذكراه.
“شبه إبادة جماعية”
ذهب رجب طيب أردوغان الى أبعد من ذلك حين انتقد بشدة القمع الصيني للأويغور باستخدامه عبارة “شبه إبادة جماعية”. وكادت كلماته -التي أثارت غضب السلطات الصينية - تتسبب وقتها بقطع العلاقات مع تركيا. ولكن بعد ذلك بسنة لم تمنع هذه الأزمة المصغرة التركية-الصينية البلدين من توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية عام 2010. وبالفعل، وبالرغم من التعاطف الشديد لدى كل من الدولة والرأي العام تجاه الأويغور، فلقد تضاءلت المساعدة التركية الموجهة للأصدقاء بشكل متزايد وباتت تقتصر أكثر فأكثر على مجرد مواقف خطابية. وهكذا وبالرغم من توارد الأنباء المقلقة والمخاوف المتزايدة حول اتساع حملة القمع، لم تعد تركيا تعمل على إسماع صوتها بالمعنى الحقيقي للكلمة حتى لو كانت تعلن على الملأ وعبر أبواق الدعاية أن السياسة الصينية “عار على الإنسانية”. ولو كنّا بحاجة لمزيد من الإثباتات بشأن سعي تركيا الى عدم إزعاج الشريك الصيني، لكتفينا بلإشارة الى ابتعاد أنقرة عن الجمعيات الأويغورية في تركيا. بل وفِي صيف 2019 وافقت السلطة التركية على رد الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين على أعقابهم. ومن ضمنهم عائلة طاجيكية تم ترحيلها الى الصين فألقي القبض فوراً على الأم ورميت في السجن. غني عن البيان أن وزن الصداقة التركية الأوغورية لا يُرجّح دفة ميزان الاعتبارات السياسية والأمنية في العلاقات بين الصين وتركيا.
اعتدال أم خذلان؟
من يستمع لهيئات الدفاع عن قضية الأويغور في تركيا وفِي العالم يسيطر عليه انطباع مفاده أن تركيا قطعت صلة التضامن مع إخوانها من ذوي الأصول التركية، فخذلتهم تاركةً إياهم لمصيرهم المؤلم. إلا أن ما قامت به تركيا على مر الزمن من إعمال تضامن لا يسمح بتصديق هذا الشعور تماماً. لم تتخل أنقرة عن مساندتها، حتى لو كانت قد خففت منها لأنها لا يمكن أن تسمح لنفسها بتردي العلاقات مع الصين مما قد يقضي على الصوت التركي بشكل تام بما في ذلك في قضية الأويغور. ويبدو التوازن بين هذا وذاك صعب المنال. وحتى عام 1997 كان من الواضح أن تركيا تدعم القضية الأوغورية بصراحة أكبر، بما يتضمن التصريحات العلنية بالتعاطف مع الشرائح المطالبة بالاستقلال.
كانت أنقرة تستطيع ذلك عندما كانت علاقاتها الاقتصادية مع الصين محدودة. ولكن مع ترسيخ الصين المتعاظم لموقعها على الساحة الدولية واستفادة تركيا من هذه العلاقات تأثرت سياسة تركيا حيال الأويغور على المدى البعيد. وتحولت من المساندة المطلقة والموقف التاريخي الى البراغماتية المتفهمة للصين. العوامل البراغماتية التي أجبرت تركيا على وضع ضوابط وحدود لمساندتها للقضية الأوغورية متعددة. وعلى راس هذه العوامل، بطبيعة الحال، العامل الاقتصادي، وهو عامل يطغى على العامل الإنساني. لقد استفاد الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة من الأسواق الصينية الجديدة، كما أنه بحاجة في الوقت نفسه للاستثمارات المباشرة الصينية في تركيا. كما ثمة خلل كبير في التوازن التجاري لصالح الصين مما يحد من السيادة التركية في مجال الاقتصاد. فتجد تركيا نفسها واقعة في شبكة الاستراتيجية الصينية الجديدة المسماة “طريق الحرير الجديد عبر الصين” والتي تخطط لسياسة جديدة من الانفتاح على العالم. والدليل على الأهمية التي توليها تركيا لهذه المبادرة هو مشاركة الرئيس أردوغان شخصياً في منتدى الإعلان عنها في مايو أيار عام 2017. فبالنسبة للسلطات التركية تندرج عملية تشييد خط السكة الحديدية باكو تبيليسي قارس الذي أنجزتها مؤخراً وكذلك الجسور الثلاثة على البوسفور ومطار اسطنبول الجديد كلها في سياق مشروع طريق الحرير الجديد هذا. وفِي سعيها لتنويع شركائها الاقتصاديين بسبب فتور العلاقات مع حلفائها التقليديين، أوروبا والولايات المتحدة، لا يمكن لتركيا أن تترك لنفسها العنان بتوجيهها الانتقاد الشديد لسياسة الصين تجاه الأويغور، حتى لو كانوا إخوة في العرق والدين.
البحث عن حلفاء جدد
العبرة التي يمكن استخلاصها من أوضاع الأويغور هي أن تركيا في السنوات الأخيرة قد أعادت النظر بقيمها الجوهرية. فهي الى حد ما تعيد النظر في حلم التجذر في الغرب، وتقترب من دول ذات نظم أكثر تسلطاً، كروسيا والصين، وإيران، من ضمن دول أخرى، وهي الأكثر أهمية لمصالحها الحيوية. تعكرت علاقات تركيا مع الحلفاء التقليديين وهي في شبه قطيعة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومضطرة لموازنة هذا الخلل بعلاقات أخرى، لذا فهي لا تستطيع تكدير علاقاتها مع الصين أو روسيا حتى لو كان هذان البلدان يسيئان معاملة مجموعات إثنية مقربة منها، مثل الأويغور أو التتر في القرم.
تركيا اليوم في عزلة دولية، تخضع لعقوبات أمريكية بعد قضية القسيس الإنجيلي أندرو براندون المعتقل بتهمة “الإرهاب”، وهي بأمّس الحاجة لإيجاد دعم جديد وشركاء في أماكن أخرى، ولا سيما بالتوجه شرقاً، والشرق حلبة يزدهر فيها النفوذ الاقتصادي الصيني. لا عجب إذاً إن تبنت تركيا الخطاب السلطوي نفسه، ولا إن هي عقدت اتفاقيات سياسية واقتصادية بل وعسكرية مع هذه البلدان كما تدل على ذلك صفقة شراء صواريخ S-400 من روسيا. عام 2013، أجرت تركيا مباحثات لشراء صواريخ مماثلة من الصين. وإن كان خيارها قد وقع على روسيا في نهاية الأمر فهي ما زالت مهتمة الى أبعد الحدود بالتعاون العسكري مع الصين، ما يعتبر التفاتة تحدي من أنقرة لحلف شمال الأطلسي والحلفاء الغربيين. تركيا تبدي شيئاً من الاعتدال في سياسة التضامن مع الأويغور رغم تشكيكيها بمشروعية القمع الذي تمارسه الصين بحجة مكافحة الجهادية الأوغورية المزعومة. فإن كان هناك بعض المجموعات الصغيرة الناشطة فعلاً في الجهاد إلا أن الصين تضخم أهميتها الحقيقية وتواطؤ المعارضة المطالبة بالاستقلال معها. للأسف هذه الجماعات الصغيرة المشاركة في الحرب في سوريا تقوض مصداقية القضية الأوغورية وتقضي على رصيد التعاطف معها والتفهم لها. وبالرغم من عدم وجود أي دليل على عودة جها ديين أوغوريين من سوريا الى الصين ليهددوا أمن المدن الصينية إلا أن الدعاية الرسمية (البروباغندا) لا تتردد في الخلط الكاذب بين الأمور. ويزداد الحرج على تركيا المتهمة أساساً بالتساهل مع ظاهرة الجهاد في سوريا، فيصبح من العسير عليها أن تدافع عن القضية الأويغورية دون أن تظهر وكأنها تزكي التطرف الأويغوري في الصين.