لبنان : انتفاضة فاجأت الجميع ضد بناء ينخره الفساد

لم يتوقع أحد من الشباب الذين نزلوا عفوياً عصر ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، للاحتجاج على نية الحكومة فرض ضرائب جديدة منها ضريبة على خدمة الواتسآب، أن عشرات الآلاف سوف تتبعهم، وبهذه السرعة القياسية. وأنهم سيطلقون أكبر احتجاج شعبي ضد “المنظومة اللبنانية” تشهده البلاد منذ عشر سنوات، احتجاجاً لا يبدو أنه سيتوقف بمجرد سماع خطاب رئيس الوزراء سعد الحريري يوم الإثنين وما حمله من وعود بالإصلاح.

أكتوبر 18 مظاهرة أمام مبنى السرايا في بيروت
Bilal Jawich/Xinhua/IANS

يقف الشاب العشريني العاري الصدر أمام الكاميرا التلفزيونية وهو يصرخ فرحاً ومذهولاً في ميكروفون صحافي «انظري كم أصبحنا؟ كنا ١١ شابا فقط، هل تصدقين؟». يقول ذلك وهو يشير الى الآلاف المؤلفة التي انحشرت حوله، بين سد من رجال الأمن المدججين بكامل عتادهم اسفل مبنى السراي الحكومي وسط بيروت، وبين ساحة الشهداء التي تقع على بعد مئات الأمتار منها. لم يتوقف تدفق الناس حتى ساعة متأخرة من الليل، ومعظمهم من الشباب، بالرغم من أن معظم الطرقات قطعت بالدواليب المشتعلة. كانوا يصلون مشياً من أماكن بعيدة. تظاهرات «طيارة» أخرى اندلعت، كالنار في الهشيم، في مختلف ضواحي الفقر. وسرعان ما التحقت الأطراف الأشد بؤساً كطرابلس، المدينة المصنفة الأفقر في حوض البحر الابيض المتوسط، وعكار وريفها في الشمال، وصيدا في الجنوب وبعلبك في البقاع، من دون أدنى تنسيق، ما شكل عنصر قوة للانتفاضة التي طال انتظارها ومنحها مناعة على القمع الفعال. كأن اللبنانيين كانوا ينتظرون من يشجعهم على النزول والاحتجاج، او كأن القهر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، الذي ساوى بين غالبية المواطنين على اختلاف طوائفهم، انفجر في الوقت ذاته.

أرض خصبة

والأرضية كانت حاضرة منذ زمن بعيد، لكن اللمسات الأخيرة أنجزتها عدة أحداث متلاحقة: قرارات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، التي سحبت الدولار من أيدي اللبنانيين، ما أثر على سعر الصرف واستقرار (مفتعل بالأصل) العملة الوطنية، ثم ما فعلته المصارف التي أخذت ترفض تزويد زبائنها به، ولو كانت حساباتهم بالدولار! كل هذا في بلد يستورد تجاره وصناعييه بالدولار ويستوفون بالليرة اللبنانية، ما خلق أزمة اقتصادية رهيبة، زادت اللبنانيين إرهاقاً اقتصاديا واجتماعيا. ثم جاء أداء الحكومة الرهيب بدرجة تقصيره، عند وقوع كارثة الحرائق التي شبت في أحراج لبنان في آن، فألتهمت ملايين الأمتار من الثروة الحرجية في مشهد موجع للقلوب.

ثم...إعلان الحكومة نيتها فرض ضرائب جديدة على التبغ والبنزين و... خدمة الواتسآب المجانية! أي المنافذ الثلاثة التي كان فقراء لبنان لا زالوا يتنفسون، او ينفسون، عن قهرهم بواسطتها.

هكذا، اشتعلت التظاهرات في اليوم التالي، وانتشرت على كافة مساحة الخارطة، بشكل أشبه بانتشار الحرائق التي شاهدها المواطنون بلوّعة على الشاشات منذ أيام. الا أن أكثر ما لفت الانتباه وأعطى جرعة من الأمل، كان نزول الناس من مناطق لم تعتد الاحتجاج الاجتماعي، كمدينة جونية الساحلية الشهيرة بملاهيها مثلا، أو زغرتا في الشمال، أو قرى المتن وساحلها، وهي مناطق القاعدة الشعبية لأحزاب السلطة المسيحية.

لقد وحدت السياسات الاقتصادية والهندسات المالية المتماهية مع طلبات البنك الدولي لحاكم مصرف لبنان، اللبنانيين خارج العصب الطائفي والحزبي. فنزلوا وهتفوا ضد حاكمه رياض سلامة، وضد زعمائهم الطائفيين، في مناطقهم، وبالإسم.

كان هناك شيء شديد الصدق في تعبير الناس عن وجع حقيقي وعميق لم يعد ممكناً احتماله. هكذا، كانت الهتافات غاضبة وعفوية: سيل من الشتائم والسباب المقذع. كما لو كان ذلك السباب حفلة جماعية للتطهر من ولاءات الماضي الخادعة، أو نوع من بطاقة حسن نوايا يقدمها المتظاهرون لبعضهم، لإخوتهم في القهر المعيشي.

السياسيون في حالة إنكار

وفي البداية بدا وكأن الطبقة الحاكمة لم تفهم أن هذه الانتفاضة لم تكن بسبب الواتسآب، ولا بسبب بضع ليرات زادت على سعر علب السجائر التي يدخنوها بشراهة، ولا حتى على البنزين، بقدر ما كانت تراكما لعقود من خيبات الأمل. يقول احد الشبان المتظاهرين ل «أوريانت ٢١»: «هم يظنون أننا نحتج على الواتساب والدخان؟ ولا حتى على الرغيف. نحن لن نقبل بعد اليوم أن تحكمنا هذه الطبقة الطفيلية التي افقرتنا ووضعتنا تحت نير دين عام وبنك دولي وتنوي أن تواصل الاستدانة من «سيدر» وغيرها». يتدخل شاب آخر «من رئيس الجمهوية وبالنازل ما بدنا حدا منهم. خلص. يرحلوا». أما الفتاة التي جاءت من منطقة نائية من عكار فقالت «أنا خريجة ادارة اعمال، مجبرة كغالبية جيلي ان نشتغل بأشغال لا علاقة لها باختصاصنا، هذا إن وجدنا عملا. نعمل اكثر من عشر ساعات بدون حقوق، إنهم يذلونا. لا أريد أن أهاجر اريد وطني لبنان»، ثم تضيف ودموع غاضبة تلتمع في عينيها «بدلا من تدريسنا تاريخ الحرب العالمية، فليدرسونا عن الحرب الأهلية التي تسببوا بها وشاركوا فيها، ثم توجوا أنفسهم علينا. لا نريد ان يستقيلوا فقط، نريد ان نستعيد ما نهبوه».

من يمنع الإصلاحات؟

الا أن الناس في واد والطبقة السياسية في واد آخر. هكذا، خرج وزير الاتصالات محمد شقير في اليوم التالي ليعلن أنه وبناء على اقتراح رئيس الحكومة فقد قرر سحب «اقتراح» الرسم على خدمة الواتساب المجانية. لكن، المتظاهرين الذين سمعوا الخبر ، ردوا في الساحات بسباب مقذع بحق الوزير الذي يمتلك سلسلة محلات شوكولا، قام بعضهم، في مدينة طرابلس شمال البلاد، بتكسيرها ونهب محتوياتها و.. توزيعها على المتظاهرين الفقراء.

كما وثقوا تلك «الغزوة» على الواتسآب ونشروها على شبكات التواصل، مع «تاغ» للوزير الذي اشتهر ببلادة حسه الاجتماعي وقلة كفاءته فضلا عن فساده، في تحد واضح من قبل من لم يعودوا يملكون اي شيء.

سرعان ما خرج بعده رئيس الحكومة شخصيا ليتبرأ من الأزمة آولاً، وملمحاً، ثانياً، الى أن «شركاء في الحكومة» يعيقون إقرار اصلاحات مؤتمر «سيدر» التي من المفترض أن تؤمن١١ مليار دولار كقروض، ستضاف لا شك الى العبء الذي يثقل كاهل اللبنانيين!

ثم أمهل الحريري اولئك الشركاء (إقرأ تيار الرئيس ميشال عون وتحالف أمل/حزب الله) ٧٢ ساعة ليقروا ورقة الإصلاحات تلك وإلا، مهددا ضمنيا بالاستقالة.

ثم كانت مداخلة للرئيس ميشال عون بعد تظاهرة حاشدة أمام قصر بعبدا الرئاسي، محاولاً تهدئة خواطر المتظاهرين دون جدوى، فأفعال وزير خارجيته جبران باسيل، المكروه شعبياً، لعنصريته وفساده، والذي يتحضر لوراثة الرئاسة عن عمه والد زوجته، كانت أكبر من اي تطييب خاطر.

قاعدة حزب الله تشارك في الحراك

تلت مداخلة رئيس الجمهورية، عدة ظهورات تلفزيونية لزعماء مشاركين في الحكومة كوليد جنبلاط، الذي حاول التماهي مع الشارع وكأنه ليس جزءا أساسيا من الفساد المستشري منذ الحرب الأهلية التي كان أحد أمرائها، ومن رموز النظام الطائفي، ما أوضح، بما لا يقبل الشك للرأي العام، أن الطبقة السياسية في حالة إنكار تام.

ولم يفلح ظهور الأمين العام لحزب الله في مداخلة تلفزيونية كانت مبرمجة مسبقاً لمناسبة دينية، في التحكم بشارعه، للمرة الأولى. فقد شارك هذا الشارع في التظاهرات بقوة. خاصة في الجنوب، معقل تحالفه مع نبيه بري رئيس حركة أمل والمجلس النيابي منذ ٢٧ عاماً، وممثل «حصة» الشيعة الرسمي في السلطة!. فقد أخذ عليه محازبوه مشاركته حكومة فاسدة، وتأخر نوابه في فضح هذا الفساد على الرغم من جهرهم بامتلاك وثائق تثبت تورط العديد من أهل الحكم في قضايا نهب اموال عامة وإثراء غير مشروع.

وبالفعل،كان متوقعاً لهذا التحالف مع حركة أمل، والذي كان الهدف منه حماية مشروعية سلاح المقاومة بجهة رسمية، أن يحرج الحزب يوماً ما نظراً للفساد المستشري في هذه الحركة. إلا ان أولويات نصرالله بداية، كانت التركيز علي نشاط المقاومة نفسه ضد العدو الاسرائيلي، مع تعاطٍ ضئيل في الأمور الحكومية، تاركاً الامور في يد حليفه. لكن الأمر تغير مع تشكيل الحكومة الأخيرة السنة الماضية. هكذا، خرج نصرالله ليعلن عن نية حزبه محاربة الفساد، وايجاد دولة لا تتكل على الاقتصاد الريعي والمضاربات المالية بل على الاقتصاد المنتج.

كان ذلك تحولا كبيرا. وبالفعل بدأ نوابه ووزرائه بالتدقيق وفضح التلاعب بارقام الميزانيات منذ العام ١٩٩٢، حيث اتهموا رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة باختلاس ١١ مليار من ميزانيات الدولة خلال توليه المسؤولية، الأمر الذي اعتبره مفتي السنّة، المذهب الذي ينتمي إليه السنيورة، خطاً أحمر وعطل ملاحقته في بلاد ذات حساسيات طائفية.

نبيه بري، الثابت في كرسيه

لكن ماذا قال نصرالله في مداخلته؟ أهم ما قاله إن «الوضع الاقتصادي والمالي ليس وليد العهد الجديد بل نتيجة تراكم عشرات السنين». لكنه رأى أن إسقاط الحكومة «غير مناسب في هذا التوقيت لأن أي حكومة جديدة ستأتي من التشكيلة نفسها» مشدداً على أن العهد. اي حليفه رئيس الجمهورية، لن يسقط.

أما الصامت الاكبر، فقد كان رئيس مجلس النواب نبيه بري، الثابت في كرسيه1 والذي طال السباب في الشوارع زوجته، التي يتهمها الناس بمشاركة فعالة في الفساد والسمسرات والإثراء غير المشروع. الا أن اتباعه عوضوا هذا الصمت.. بضرب المتظاهرين والاعتداء عليهم بعنف وعلانية، إن كان في معقله الرئيسي جنوباً في صور، وبنت جبيل والنبطية، أو في بيروت حيث التظاهرة المركزية، بواسطة … حرس مجلس النواب الذي يرأسه! هكذا رشق هؤلاء، مع قوات مكافحة الشغب، المتظاهرين بقنابل مسيلة للدموع واعتقلوا اكثر من ٧٠ شخصا في الليلة الأولى، ضربوا قبل إطلاق سراحهم الأحد الماضي. الإ أن كل ذلك لم يمنع المتظاهرين لا من التجمع ولا من التظاهر، ولا حتى من السخرية ممن يرموهم بقنابل تبين أنها منتهية الصلاحية قائلين: «فرقونا على الاقل بقنبلة صالحة للاستعمال وليست مثلكم منتهية الصلاحية»!.

«كلن يعني كلن»

وقد حاول العديد من النواب والنواب السابقين المشاركة في التظاهرات، لكن تم طردهم وشتمهم ورشقوا بقناني المياه. هكذا طرد نائب كتائبي نزل للمشاركة في بيروت من قبل المعتصمين، كما طرد نائب سابق في طرابلس، الا ان حراس الأخير أطلقوا النار على المتظاهرين، فقتل شخص وجرح ٧ اشخاص، ما دفع بعض المتظاهرين الى الانتقام من النائب بتحطيم مكتبه، وشركة نقل تابعة له.

وفي الحقيقة أن طرابلس، التي وصل الفقر والبطالة فيها، كما الغنى، الى مستويات غير مسبوقة2. ، كانت قد أعطت إنذارا شديد التعبير طبقياً، قبل بدء الاحتجاجات في العاصمة بأسبوعين تقريباً. فقد حاصر متظاهرون فقراء منزل رئيس الحكومة السابق الملياردير نجيب ميقاتي ليلا، بتظاهرة سلمية، ودعوه عبر مكبرات الصوت لأن يستثمر ثروته الهائلة في المدينة - وهو ما لا يفعله- أو يرحل عنها.

كما ترددت اشاعات في اليومين الماضيين أنه يستعد لمغادرة لبنان، تماما مثل رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، المتهم بالإثراء غير المشروع، ما جعل الحراك يرفع شعارات تطالب بمنعهم من السفر، ومحاسبتهم واستعادة الأموال المنهوبة منهم والتي تكفي لتسديد الدين العام الضخم للبلاد. لا بل أن البعض لم يتردد في الدعوة إلى إلقاء القبض على كل ناهبي الأموال العامة، وحبسهم في فندق على طريقة «الريتز كارلتون»3

وحتى كتابة هذه السطور لم تتوقف محاولات الحكومة لفض التظاهرة التي حشدت عشرات الآلاف او ربما أكثر في بيروت وحدها، وجموعاً مماثلة في مختلف المناطق على الخارطة اللبنانية. هكذا أعلن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وهو الآخر من رموز الحرب الأهلية، عن سحب وزرائه من الحكومة الحالية، الأمر الذي لم يهز شعرة في رأس أي متظاهر. أما أهم تلك المحاولات، فقد كان البيان الذي أصدره وزير المال علي حسن خليل ليل السبت، إثر اجتماعه مع رئيس الحكومة، والذي قال فيه إنه اتفق مع رئيس الحكومة على «انجاز الموازنة بدون أي ضريبة أو رسم جديد وإلغاء كل المشاريع المقدمة بهذا الخصوص من أي طرف وإقرار خطوات إصلاحية جدية مع مساهمة من القطاع المصرفي وغيره بما لا يطال الناس بأي شكل ولا يحملهم أي ضريبة مهما كانت صغيرة».

الا أن هذا «التنازل الكبير» من قبل السلطة، لم يلق الا أذنا طرشاء من قبل المواطنين، الذين واصلوا التظاهر اليوم معلنين أنهم غير مهتمين بنهاية المهلة التي حددها رئىس الحكومة لإيجاد حلول ترضيهم، وانهم سيواصلون احتلال الشوارع حتى إسقاط هذه الحكومة، وإجراء انتخابات وفق قانون انتخاب جديد خارج القيد الطائفي، كما نص اتفاق الطائف. طبعاً، هذا يعني أنهم يريدون إسقاط النظام. وهي معركة وجود، يعلمون أنها لن تكون سهلة بتاتاً، ومع ذلك يبدو أنهم مصممون على خوضها، تماما كما يبدو أن أهل النظام مصممين على إطالة حياته ولو على حساب حياة شعب، بات أكثر من ربعه، يعيش بصعوبة تحت خط الفقر.

1تولى رئاسة مجلس النواب من ٢٠ تشرين الزول/أكتوبر العام ١٩٩٢

2" ٧ مليارديرات يمتلكون ثروات بقيمة ١٣،٣مليار دولار، أي أكثر بعشرة أضعاف ما يمتلكه نصف السكان الأدنى دخلاً. وتستحوذ طبقة ١% الأكثر ثراءً ، على ٥٨ % من مجمل ثروات اللبنانيين، أي أقل من ٤٢ ألف لبناني بالغ، يحصلون على حصّة أعلى من حصّة ٤ ملايين و١٢٠ ألف شخص» (تقرير لأوكسفام صادر العام ٢٠١٩ نشر في جريدة الأخبار اللبنانية

3في إشارة الى ما فعله ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من سجن كبار أثرياء البلاد وإجبارهم على التنازل عن نسبة من أموالهم.