“وادي السيليكون” الإيراني، صراع من أجل البقاء، رغم العقوبات

تجلت آثار تشديد العقوبات التي تهدف إلى مواصلة استراتيجية العزل الاقتصادي الأمريكية وعواقبها على طهران مع ارتفاع أسعار الوقود منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني. آثار أخرى -أقل بروزا- تمس قطاع التكنولوجيات الجديدة وهي موضع آمال كثير من الشباب الإيراني، وقد صار بدوره مهددا بهذه التدابير العقابية. فتتساءل أوساط التكنولوجيا في طهران: هل يمكن لهذا القطاع النجاة من دونالد ترامب؟

يصعب العثور على العنوان، كما يبدو المبنى باليا بعض الشيء، ولكن عند الوصول إلى الطابق الأخير ينكشف المنظر البانورامي لجبال ألبُرز فريدا من نوعه. في هذه المكاتب التي تطل على الشوارع الملوّثة، أقام محمد رضا عزالي مقر “تكراسا”، وهي وسيلة إعلامية متخصصة في الأخبار الرقمية في إيران. محمد رضا خبير في مشهد الشركات الناشئة وهو يعرف عالم 2.0 في إيران كما لا يعرفه أحد:“إطلاق شركة هنا سهل جدا!” يقول ذلك بضحكة ساخرة تغرق في لحيته “الهبستر”، “يكفي فقط أن تجد الفكرة الملائمة، في حين أنه في أوروبا والولايات المتحدة، كل شيء موجود بالفعل”.

توظّف “تكراسا” ثلاثة أشخاص وتشغّل بانتظام حوالي 20 محررا. ويعدّ هذا نجاحا صغيرا لموقع أنشئ بالكاد منذ أربع سنوات. على الرغم من هذا التفاؤل الظاهري، يشعر محمد رضا بالمرارة، فهو يرى في وضعية الشركات الإيرانية الناشئة قصة فرصة ضائعة: “تصوروا، هناك مئة مليون شخص في المنطقة يتكلمون الفارسية، الإمكانيات لا تصدق... وقد كانت البنية التحتية والسوق متوفرتين، تنقصهما فقط شرارة”.

تلك الشرارة التي كانت ستسمح بانطلاقة القطاع كادت أن تحصل في يوليو/تموز 2015. إذ كان يفترض أن يتم التوقيع على اتفاق فيينا النووي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإيران تدشينا لعهد جديد من الرخاء وتوفيرا لنوع من الاستقرار للجمهورية الإسلامية التي خنقتها عقود من العزلة الاقتصادية. بفضل هذا الاتفاق التاريخي، كانت إيران تأمل في استقبال رؤوس أموال أجنبية للاستثمار في صناعتها الرقمية الناشئة.

سوق مغلقة تعدّ 80 مليون نسمة

من المفارقة أن العقوبات التي طبقت في عهد بوش وأوباما والتي منعت الشركات الأمريكية من العمل في إيران أدت إلى بروز الشركات الناشئة الإيرانية التي تمكنت من التطور بدون منافسة أجنبية. وقد شرعت في اقتراح نفس خدمات تطبيقات وادي السيليكون الأمريكية. وهكذا ظهر مقابل إيراني لعديد الشركات الأمريكية مثل أوبر وأمازون وإيباي، تحت رعاية الرئيس حسن روحاني المنتخب سنة 2013. فمنذ ذلك التاريخ، تم استثمار 5 مليارات دولار في تطوير البنية التحتية التكنولوجية وكذلك الجيل الرابع للشبكات الخلوية. ووفقا لشركة القياس المعلوماتي الإيراني التابعة للحكومة، فإن أكثر من 72% من الأسر كانت متصلة بالإنترنت سنة 2018 مقابل 21% سنة 2013. ويوجد في إيران اليوم 6500 شركة ناشئة تقيم أساسا بطهران. ويمثل القطاع الرقمي وفقا للمحترفين 1% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوظف 45 ألف شخص.

وقد طبقت الحكومة إعفاءات ضريبية لصالح الشركات الرقمية الناشئة والتي تستفيد من الوصول إلى قروض بأسعار تفضيلية. وهي سياسة تتماشى مع البرنامج الاقتصادي الليبرالي الذي انتخب من أجله روحاني. والهدف من ذلك تقليص اعتماد البلاد على صادرات النفط وإتاحة فرص للشباب الذي يتراوح معدل البطالة في أوساطه بين 25 و30%. وكان بوسع أصحاب الشركات الناشئة الاعتماد خاصة على سوق مغلقة تعدّ 80 مليون نسمة، نصفهم لم يبلغ من العمر 30 سنة، وهم شباب حضري مترابط بقوة بالإنترنت وشتات متعلم بدأ في العودة إلى البلاد. كان ذلك وضعا اقتصاديا غير عادي سمح للبيئة المحيطة بالشركات الناشئة بالنمو. نمو دمّره وصول دونالد ترامب إلى السلطة.

تراجع بسبب العقوبات الأمريكية

فعلا، قام الرئيس الأمريكي في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 بإعادة فرض العقوبات التي كانت قد رفعت في 2016 بعد الاتفاق على الملف النووي الإيراني. وأجبرت استراتيجية “الضغط الأقصى” الأمريكية الهادفة إلى عزل إيران الشركات الغربية على مغادرة البلاد وأوقعت ضربة قاصمة بصادرات النفط.

تعيش البلاد اليوم حالة ركود وتشهد قيمة الريال انخفاضا يوما بعد يوم، في حين وصل التضخم معدلا قياسيا بـ 40 %. وفي سبتمبر/أيلول ،2019 أعلنت الولايات المتحدة عن عقوبات جديدة في أعقاب التوترات الناجمة في خليج عُمان والهجوم على المراكز النفطية السعودية. هذه العقوبات التي قدمها دونالد ترامب على أنها “الأكثر قسوة على الإطلاق التي تم تطبيقها على بلد ما”، كانت بمثابة الضربة القاضية بالنسبة لكثير من الإيرانيين. وقد كان ذلك قبيل الإعلان عن زيادة سعر الوقود في 14 نوفمبر/تشرين الثاني والذي فجّر حركة تمرّد واسعة في جميع أنحاء البلاد.

تبلغ لينا فافائي 38 سنة، وتنخر هذه العقوبات يومياتها كمقاولة. بعد دراسات في كندا ونيويورك، عادت لينا إلى إيران لتنشئ “بياد”، وهو تطبيق يسمح بتحديد الموقع الجغرافي للمستخدم ويقترح عليه أنواع الترفيه الأقرب مع نظام تشاركي للآراء: “لقد أخذنا نموذج”يالب“”، أي التطبيق الأمريكي الأصلي. تعدّ “بياد” 45 موظّفا نصفهم نساء، يعملون في طابقين لمبنى قديم من طراز آرت ديكو. لا فرق بين هذا المكتب وبين أي شركة ناشئة أمريكية، مع هؤلاء الموظفين الذي يدخنون سجائرهم وهم مستلقون على وسائد، قبالة حواسيب من طراز “ماك بوك” وهم يرصدون أسطر الشيفرة. تتنهد لينا قائلة: “تمسنا العقوبات بطريقتين، فبسبب المخاوف العامة وانخفاض مستوى المعيشة قل عدد الإيرانيين الذين يذهبون لأماكن الترفيه، مما يفقدنا زبائن. وعلاوة على ذلك، لا يمكننا استعمال الخوادم الالكترونية والبرامج الأمريكية”.

تحايل على الرقابة

على الرغم من أن هذه العقوبات تبعد المنافسة الدولية فهي تعقد الحياة اليومية لأصحاب الشركات. فعلا، خوفا من انتهاك القانون، لا تسمح الشركات الأمريكية بتوفر تكنولوجياتها في إيران. وبالتالي لا يمكن للينا الوصول إلى شبكة إعلانات “غوغل آدس” ولا لـ“غوغل آناليتيكس” التي تسمح بتعداد زوار الموقع لحظة بلحظة، ولا لخدمات الحوسبة السحابية (الـ“كلاود”) التي يقترحها العملاق الأمريكي. تقول لينا: “نتيجة لكل ذلك أصبحنا نقضي وقتا طويلا في إنشاء نسخ احتياطية لقواعد بياناتنا... كما لا يسمح لنا باستعمال أرضية”وان سيغنل“التي تتيح إمكانية إرسال إشعارات على شاشات المستخدمين”.

قائمة البرامج الأساسية للشركات الناشئة والمحظورة في إيران لا تحصى: أرضية “غيتلاب” التي تحظى بشعبية كبيرة في عالم التكنولوجيا وهي تسمح بإيواء مواقع إلكترونية، برنامج تطوير “أندرويد” الذي يستعمله المبرمجون لإنشاء تطبيقات، ناهيك عن برنامج “أدوبي” لإنشاء ملفات “بي دي أف” (pdf) والعديد من برامج مكافحة الفيروسات...

في مارس/آذار 2018، قامت شركة آبل بمنع الإيرانيين من الوصول إلى متجرها للتطبيقات (الآب ستور). وفي فبراير/شباط 2018، حُذف حوالي 100 تطبيق تم تطويره في إيران من الآب ستور. ويتعين على الإيرانيين الذين يرغبون في تنزيل تطبيقات على جهاز الآيفون الخاص بهم أن يتحايلوا على هذه الرقابة باستعمال شبكة افتراضية خاصة(VPN) ، وهي خادم إلكتروني يسمح بتخطي الرقابة عن طريق تغيير موقع الجهاز الذي يستعمل للاتصال. وتختم لينا قائلة: “لو كنت أجنبية لما استثمرت في إيران، فالسوق غير مستقرة البتة وبسبب العقوبات على النظام المصرفي لا يمكننا حتى تصدير الأموال”.

المحور التكنولوجي المستقبلي للشرق الأوسط؟

تمكنت الشركات الناشئة التي أسّست في وقت سابق والتي عرفت نموا قويا من استيعاب صدمة العقوبات. إحداها تشكل نموذجا لأصحاب الشركات الشباب وتسمى “سناب”، وهي الرائد الوطني في مجال النقل عن طريق استئجار سيارة مع سائق -أي أنها النسخة المحلية لشركة “أوبر” الأمريكية- وتتواجد أساطيل سياراتها في كل أنحاء طهران. يوجد مقر الشركة التي توظف ألف شخص في الأحياء الشمالية للعاصمة حيث يعيش الشباب الميسور للبلاد.

يفتخر مهراد عبد الرزاق، وهو إطار بشركة “سناب” قائلا: “بالنسبة لنا، العقوبات حدث جيدّ! صرنا لا نقلق بشأن منافسة أوبر. ورقتنا الرابحة أننا نعرف السوق المحلية: إننا نجمع منذ سنوات معطيات حول عادات استهلاك الإيرانيين، وهو ما يعطي لنا سبقا كبيرا”. ومثالا عن هذه المهارة المحلية، تقترح “سناب” سائقات للزبونات المحافظات اللواتي يرفضن التنقل مع رجل غريب.

توفر “سناب” مليوني رحلة يوميا وهي من بين التطبيقات الخمسة الأكثر أهمية في العالم في مجال النقل بواسطة سيارة مع سائق. وتقول الشائعات أن مهندسا في “سناب” رفض عرضا من شركة “أوبر” لرئاسة فرع نيويورك للمجموعة، وذلك من أجل إنشاء شركته الخاصة بإيران. يقول مهراد ضاحكا: “نحن قصة نجاح بعد الثورة... إحدى النجاحات النادرة!”

على الرغم من الأوهام الضائعة والصعوبات التي يواجهها هؤلاء الشباب، مازال كثير منهم متمسكا بحلم أن تصبح إيران المحور التكنولوجي للشرق الأوسط. دخلت مشهد سبحاني، وهي خريجة جامعة كندية مرموقة، البلاد سنة 2018 قبل عقوبات دونالد ترامب بقليل، وذلك لإنشاء شركتها المتخصصة في التمويل الجماعي. تقول: “في البلدان الأخرى، يلتحق الطلبة بشركة استشارية كبرى لشق مسار مهني. لكن في إيران لا توجد شركة كبيرة، وهو ما يشجع الشباب على إنشاء شركاتهم”. مثل غيرها من نوابغ التكنولوجيا الشباب، تحتفظ مشهد بهامة عالية وتقسم بأنها لا تأسف على تخليها عن مسار مهني في الغرب لإنشاء شركتها في طهران: “يوم ترفع العقوبات، سنكون جاهزين”.