الحراك الجزائري في زمن كورونا

تعليق التظاهر خدمة للجميع… بسبب التهديدات المرتبطة بوباء فيروس كورونا، كان يوم 20 مارس / آذار 2020 أول جمعة بدون مسيرات شعبية منذ 22 فبراير/شباط 2019 تاريخ انطلاق الحراك. وهو قرار حظي في النهاية بدعم المواطنين القلقين أمام الوباء، خاصة أنهم لا يجهلون شيئا عن تدهور النظام الصحي الجزائري.

ليس للحراك قيادة في الجزائر، وبالتالي تمت مناقشة قرار التخلي عن المسيرات عبر الشبكات الاجتماعية وأيضا خلال مسيرة جمعة 13 مارس/آذار 2020. وقد نددت وسائل إعلام السلطة بتنظيمها واصفة إياها بالتصرف “غير المسؤول”. مع أن الإجراءات الحكومية لمواجهة الوباء قد اقتصرت عشية ذلك اليوم على غلق المؤسسات التعليمية. وبعدها بيومين، توجه الوزير الأول عبد العزيز جراد إلى المتظاهرين قائلا: “يمكنكم الخروج كما شئتم، ولكن خذوا حذركم حتى لا تضروا بصحتكم، وصحة جيرانكم وأمهاتكم وآبائكم وتجنبوا تعريضهم للخطر”. في 17 مارس/آذار، أعلن الرئيس عبد المجيد تبون في خطاب متلفز عن سلسلة من الإجراءات منها غلق الحدود البرية وتوقيف الرحلات الجوية والبحرية وغلق المساجد ومنع المظاهرات… كل ذلك كان مرفقا برسالة مطمئنة: “الوضع تحت السيطرة وعلى الجزائريين ألا يقلقوا”.

كان فاعلون كثر من الحراك قد سبق ونادوا بتعليق المظاهرات، وعيا منهم ليس فقط بالمخاطر الصحية بل أيضا بوجود حرب إعلامية تقودها وسائل الإعلام السمعية البصرية العمومية والخاصة، إذ دأبت هذه على إبراز المخاطر الوبائية المرتبطة بالمظاهرات من دون أن تتطرق إلى الجانب المقلق جدا المتمثل في تراخي السلطات وترددها في اتخاذ وتنفيذ إجراءات الوقاية والحجر.

لم يُتخذ قرار تعليق المسيرات بسهولة، وكانت هناك مناقشات حادة ومواقف متباينة: “مع كورونا لنا 97% فرصة نجاة، أما معكم فهي معدومة 100%”. توجز هذه اللافتة التي رفعتها متظاهرة يوم 13 مارس/آذار 2020 بالجزائر العاصمة أحد أهم مخاوف الحركة الاحتجاجية: أن يتم غلق المجال العام الذي احتله المواطنون وشغلوه بشكل مستمر منذ 22 فبراير/شباط 2019.

“الاشتباك السلمي” العبثي

جلبت مسيرة الجمعة السادسة والخمسين آلاف المتظاهرين إلى الجزائر العاصمة واتخذت طابع التحدي في سياق يتميز بالقلق بسبب وباء كوفيد-19. وكانت أيضا لحظة مكثفة من المشاورات والنقاشات بخصوص الموقف الذي يجب اتخاذه. ومن بين ما جعل قرار التخلي عن المسيرات صعبا كون النظام لم يقدم أي تنازلات، بل يواصل اعتقال النشطاء والمتظاهرين وإدانتهم بتهم “المساس بالوحدة الوطنية” أو “التجمع غير المرخص”. في حين أن الاستيلاء السلمي على المجال العام يشكل المكسب الرئيسي لحركة 22 فبرابر/شباط 2019.

وكانت خيارات الحراك محل نقاش مفتوح منذ 10 أيام وليس فقط بخصوص وباء فيروس كورونا. فقد وجه العديد من الفاعلين على الشبكات الاجتماعية انتقادات لاذعة للرسالة التي أطلقها من لندن العربي زيطوط، وهو دبلوماسي سابق بسفارة الجزائر بليبيا انشق في التسعينات، والذي وجه دعوة إلى “التصعيد” عبر “اشتباك سلمي” مع قوات الأمن. كل ما أعطاه العربي زيطوط الذي يتابعه أكثر من مليون مشارك على الفايسبوك بندائه العبثي هذا هو مادة دسمة لمؤيدي السلطة لتطوير خطاب تآمري ضد الحراك.

رفض المواجهة

وبالفعل تتكلم السلطات اليوم عن “الحراك الجديد”. هذا العنصر اللغوي الجديد أدخله وزير الاتصال عمار بلحيمر، ملمحا به إلى أن الحراك لم يعد كما كان عليه في الأول وأنه اليوم سقط بين أيدي “منظمات غير حكومية متواجدة بجنيف أو لندن وبقايا عنيدين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ وانتقاميين مافياووين من النظام القديم الذين يعملون عن كثب، بما في ذلك من وراء القضبان أو من خلال خلواتهم الذهبية”القسرية أو المختارة“، لبثّ شعارات العصيان المدني والاضطرابات واللجوء إلى العنف”. أي بصفة أوضح إن “الحراك الجديد” موظف من طرف قوى معادية للجزائر، وهو اتهام يردد ما كان يدعيه النظام في بداية المسيرات في فبراير/شباط 2019.

أدانت وسخرت كثير من أصوات الحراك من نداء زيطوط مؤكدة -كما فعل عبد الله بن عدودة وهو صحفي في المنفى يحظى بمتابعة كبيرة على الفايسبوك- بأن دعوات زيطوط إلى “اشتباكات سلمية” وإلى “محاصرة مراكز الشرطة” لا علاقة لها “بالحراك السلمي الساري منذ 22 فبراير/شباط 2019. (...) نعلم جميعا أن السلطة فظة وعنيفة ولكن كانت الفكرة منذ البداية أنه يجب تجنبها والالتفاف حولها وعدم مواجهتها لأن ذلك لن يفيد في شيء”.

“استيراد” الفيروس

جاء نداء زيطوط الذي واجه انتقادات شديدة واستغل من طرف وسائل الإعلام الموالية للنظام، في وقت كان فيه خطر فيروس كورونا يفرض فكرة تعليق المظاهرات، أي فكرة الانسحاب بدل اشتباك افتراضي لا يمكن أبدا أن يكون سلميا لمن يعرف أساليب قوات الأمن الجزائرية. غير أن “متشددي” الحراك دافعوا عن فكرة مواصلة المظاهرات في الشوارع على أنها أقل خطورة على الصحة العامة من ضعف الإجراءات الوقائية المتخذة من طرف السلطات العمومية. وهكذا اتُّهمت السلطات العمومية بأنها لم تغلق الباب في الوقت المناسب في وجه “استيراد” الفيروس من خلال الإبقاء على الرحلات الجوية مع أوروبا وخاصة فرنسا.

في الواقع تم الحفاظ على الرحلات الجوية مع فرنسا إلى غاية 19 مارس/آذار قصد إرجاع الجزائريين المقيمين في الجزائر. ويبدو الأمر منطقيا حيث إن كل الدول اتخذت هذا النوع من التدابير. غير أن شهادات نشرت على الفايسبوك تؤكد غياب أية تدابير خاصة عند ركوب الطائرات وعند الوصول إلى البلاد، وفي بعض الحالات رفض العائدون تدابير الحجر الصحي. تشهد جزائرية عائدة من باريس قائلة: “عند وصولي إلى الجزائر العاصمة كانت هناك كاميرات حرارية تفحص جميع الركاب وكان كل الموظفين بأقنعة وقفازات وحافظوا على مسافة بينهم وبين الركاب. غير أنه لم يتم تقديم أية تعليمات حجر على مستوى المطار بل ترك كل واحد لمسؤوليته. لدي انطباع أن الناس غير مدركة للخطر المحتمل الذي يشكلونه، فقد قال لي مسافر”إن حصل شيء ما فمن الله سبحانه“. وهكذا يتم التخلي عن المسؤولية بتسليم كل شيء إلى الله”.

أمر آخر أثار خلافا بين الحراكيين، إذ أكّد العديد من “المتشددين” -بما ينافي كل منطق- أن النداء إلى التعليق المؤقت للحراك جاء من “الديمقراطيين” ومن “اليسار الميسور”، متهمين إياهم بترك المجال للإسلاميين. غير أن هذه الأصوات المتشددة أخمدت بتزايد النداءات إلى التعقل وتعليق المسيرات. فخلال مسيرة 13 مارس/ آذار كانت هناك لافتة أخرى تقول: “تعليق المسيرات من أجل الحماية ضد كورونا، فالنظام لن يحمينا، ما رأيكم؟”.

سينفجر المنحنى...

ليس للحراك قيادة، وتلك هي قوته، فالمواقف المتكررة المعلن عنها عبر الشبكات الاجتماعية هي التي تفرض الاختيارات النهائية. وقرار تعليق المسيرات كان شبه محسوم يوم الجمعة 13 مارس/ آذار. وقد تم دعمه من خلال سلسلة من مواقف أصوات الحراك، مثل المحاميين مصطفى بوشاشي وعبد الغني بادي. كما أعلنت وسائل إعلام إلكترونية عملت على تغطية الحراك وكسرت التعتيم المفروض عليه من طرف وسائل الإعلام السمعية البصرية العمومية والخاصة بأنها لن تغطي المسيرات بعد تلك الجمعة في حالة حدوثها.

وتوجهت يوم الثلاثاء 17 مارس/آذار أفواج من الطلبة إلى ساحة الشهداء بالجزائر لإقناع مجموعة من “المُصِرِّين” -وهم في الغالب من كبار السن الذين تعودوا على مرافقة الطلبة في يوم خروجهم- بالعدول عن المسيرات واحترام تعليمات الوقاية. مع ذلك انطلق حوالي مائتي شخص في مظاهرة تم تفريقها بالقوة من طرف الشرطة.

“الصلاة في منازلكم!”

حرص العديد من النشطاء على أن يأتي قرار تعليق المسيرات من الحراك نفسه، حتى لا يخسر “المعركة الإعلامية” ولا يظهر النظام على أنه أكثر مسؤولية من المحتجين. بالنسبة لفيصل صاحبي وهو أستاذ محاضر في الاتصال: “سينفجر منحنى فيروس كورونا في غضون أيام قليلة، لا مفر من ذلك، فالعلم يقول ذلك. خمنوا من سيُشار له بالبنان كمسؤول في بلاتوهات التلفزة وأجهزة الدعاية؟ لن تكون صلوات الجمعة [التي تأخرت السلطة في تعليقها] ولا غياب الصرامة في المراقبة عند الحدود ولا الملاعب التي كانت ما تزال تستقبل الجمهور إلى وقت متأخر. بل سيتهم الحراك بأنه افتقر إلى”الحذر والمسؤولية“.”

مع توقيف الحراك، بدأ كثير من الجزائريين في الضغط على السلطات التي لا يتميز تسييرها للوضع بالوضوح. تساءل كثير منهم لماذا لم تقرر السلطات الحجر بصفة واضحة واكتفت بنداءات للحذر والبقاء في البيوت. وعلى الرغم من أن المخابز ومحلات البقالة هي وحدها مرخصة بالفتح، أظهر الصحفي محرز رابية يوم السبت 21 مارس/آذار أن متاجر أخرى تواصل نشاطها. كما ترددت الحكومة كثيرا بخصوص المساجد التي يتجاوز عددها 18 ألف على مستوى البلاد والتي وصفها الأطباء بأنها أحد أماكن انتشار الوباء الأكثر خطورة. تركت الحكومة المسألة للجنة الفتوى بوزارة الشؤون الدينية التي أصدرت في مرحلة أولى قرارا اعتبره كثيرون باللاعقلاني يعفي من يخافون على صحتهم من الانتقال إلى الصلاة في المسجد ويدعو المرضى إلى الامتناع أيضا.

اعتبر كثيرون هذا الاختيار الحر المتروك للمصلين غير مسؤول وقد أحدث ذلك ضجة كبيرة. وفي الأخير قررت نفس اللجنة -تحت ضغط فايسبوك كما يقول جزائريون ساخرين وجادين في نفس الوقت- تعليق صلاة الجمعة وصلوات الجماعة الأخرى محتفظة فقط بالأذان. ولأول مرة حتى في حياة المسنين يسمع الجزائريون أذانا ينتهي بنداء: “الصلاة في منازلكم!”

“ابقوا في بيوتكم، فنحن لا نستطيع لكم شيئا”

تزايدت وتيرة الإجراءات المتخذة من طرف السلطات ولكن ببطء شديد في نظر المختصين الذين يخشون تفشيا مفاجئا للوباء، والحال أن قدرات النظام الصحي متدهورة وغير كافية البتة. أكد الوزير الأول عبد العزيز جراد يوم 15 مارس/آذار أن الجزائر استوردت في غضون أسبوع أكثر من 300 مليون دولار (279 مليون أورو) من المعدات لمواجهة وباء كورونا. “خلال أسبوع استوردنا عدة ملايين من الدولارات من الأجهزة والكاميرات الحرارية وكيتات وقفازات لمواجهة النقص الذي كان لدينا في البداية”. أما وزير الصحة عبد الرحمن بن بوزيد، فأكد أن الجزائر تملك “كل إمكانيات المواجهة”.

على جبهة المستشفيات وإلى غاية ليلة الجمعة 20 مارس/آذار، كانت الحالات تتزايد: 11 ضحية و95 إصابة [تشير آخر الأرقام أن عدد الإصابات بلغ 511 حالة]. وهي أرقام يشكك فيها كثير من الجزائريين إذ يرون فيها تقليلا. وقد ازدادت المخاوف وتحول الجزائريون من اللامبالاة النسبية إلى القلق. وأكد الرئيس عبد المجيد تبون في خطابه يوم 17 مارس/آذار أن الجزائر ما تزال في المرحلة الثانية من الوباء ولكنها مستعدة لمواجهة الانتقال إلى المرحلة الثالثة. وظهرت على الشبكات الاجتماعية انتقادات لرتابة الخطاب الرئاسي، لكن الجدل الأكبر دار حول رقم 2500 سرير إنعاش جاهز على حد قوله، إذ كان وزير الصحة قد أعلن قبلها بيومين أن للجزائر “أكثر من 400 سرير إنعاش”. وقد اعتبر الطاقم الصحة هذا الرقم أيضا مبالغا فيه، مؤكدين أن العدد الحقيقي هو أقرب إلى 300.

بعد يومين من الخطاب الرئاسي، عاد الوزير للظهور ليؤكد أن للجزائر 2500 جهاز تنفس اصطناعي، أي 2699 سرير إنعاش، ناهيك عن 2500 جهاز تخدير. إضافة إلى ذلك، توجد 220 عيادة خاصة بها بين 3 و4 أسرة إنعاش، ما يرفع المجموع إلى “6000 سرير إنعاش”. وهي تطمينات تبدو غير مقنعة دائما بالنسبة لكثير.

نُشر على الانترنت فيديو لطبيبة من مستشفى زميرلي بالجزائر وهي تروي باكية تنبيب مريض في ظروف “كارثية ودون قفازات” وقالت محذرة: “احموا أنفسكم، ابقوا في بيوتكم بحق السماء، فنحن لا نستطيع لكم شيئا”.