لبنان الآفات المتتالية

تم الكشف عن 449 إصابة بفيروس كورونا في لبنان وتسجيل 11 وفاة منذ 21 فبراير/شباط 2020. على الرغم من كونه أقل كثافة من بعض بلدان المنطقة إلا أن الوباء ينتشر بوتيرة متواصلة، خاصة وأن هذه الوضعية الصحية الصعبة تتزامن مع أزمة مالية غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الأهلية (1975-1990).

منذ يوم 12 مارس/آذار وأبواب مطعم “بربر” في شارع الحمراء التجاري ببيروت مغلقه. وكانت سلسلة المطاعم اللبنانية الشعبية هذه قد قاومت كل شيء قبل ذلك ولكن فيروس كورونا تمكّن منها. حتى خلال حرب 2006 بين إسرائيل وحزب الله بقي “بربر” مفتوحا على الرغم من القصف. وفي ماي/أيار 2008 عندما مزقت اشتباكات بين مقاتلي حزب الله وأنصار تيار المستقبل للوزير الأول السابق سعد الحريري بيروت الغربية، بقيت لافتة المطعم مضاءة على الرغم من أن الرشاش لم يكن يبعد عنها سوى عشرات الأمتار.

ليست الحرب ولا حتى الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي تعصف بلبنان منذ 6 أشهر التي اضطرت المطعم إلى غلق أبوابه مؤقتا: ففي 11 مارس / آذار، طلبت الحكومة من جميع المطاعم التوقف عن النشاط. كما صارت الحدائق العمومية والكورنيشات البحرية أيضا أماكن ممنوعة.

بلد في عزلة تامة

تصاعدت إجراءات الحجر تدريجيا. ففي 2 مارس/آذار أوقفت دور الحضانة والمدارس والجامعات كل أنشطتها. يعيش لبنان منذ 15 مارس/آذار في ظل “التعبئة العامة” التي قررها رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للدفاع بموجب الفقرة 1 من المادة 2 من قانون الدفاع الوطني، وهي تسمح للسلطات العمومية بأخذ جميع التدابير لاحتواء الوباء. وقد تم بعد ذلك تعزيز إجراءات الحجر بتجنيد الجيش، ففي صبيحة 22 مارس/آذار صارت مروحيات عسكرية تحلق فوق بيروت تدعو المواطنين بمكبرات صوت إلى البقاء في بيوتهم.

لبنان ليس بلدا في الحجر فقط، بل إنه ينعزل تدريجيا عن بقية العالم. ففي 11 مارس/آذار، قامت حكومة حسن دياب بتعليق الرحلات مع إيطاليا وكوريا الجنوبية وإيران والصين، في حين أعطيت بضعة أيام للمواطنين اللبنانيين والأجانب الذين لهم تصاريح إقامة والموظفين الدبلوماسيين وقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (“اليونيفيل”)، للدخول من فرنسا ومصر وسوريا والعراق وألمانيا وإسبانيا ومن المملكة المتحدة. ومنذ 18 مارس صارت الحدود البرية مع سوريا وكذلك موانئ ومطار بيروت الدولي مغلقة.

هذه العزلة الكاملة غير مسبوقة في لبنان ويمكن وضعها في منظور تاريخي، إذ بقيت الاتصالات الجوية مؤمنة أيام الحرب الأهلية (1975-1990) على الرغم من كل الصعاب. وخلال الاجتياح الاسرائيلي سنة 1982، تم فعلا غلق مطار بيروت الدولي وبقي هذه الحال حتى شهر أكتوبر/تشري الأول، بينما كانت العاصمة اللبنانية تحت حصار كلي ووابل من النار الإسرائيلية ـ ومع ذلك، ظلت الحدود بين لبنان وسوريا مفتوحة. كذلك الحال خلال حرب يوليو/ تموز 2006، إذ لم يتمكن القصف الإسرائيلي على البلاد وتدمير مدارج مطارها من منع السلطات اللبنانية والسورية من الحفاظ على معابر الحدود بين البلدين مفتوحة.

سلسلة من الكوارث

يأتي وباء كوفيد-19 في أحرج وقت، فمنذ 6 أشهر تتراكم الكوارث في لبنان. في أكتوبر/تشرين الأول 2019 أتلفت الحرائق الساحل ووسط البلاد. وفي نفس الشهر، انتفض السكان ضد قرار وزير الاتصالات محمد شقير تطبيق ضريبة الدولارين (1,83 أورو) على التطبيقات الهاتفية (المسماة ضريبة واتساب). وتبع ذلك حركة اجتماعية احتجاجية طويلة طالبت بتعيين حكومة مستقلة عن الأحزاب السياسية وإجراء انتخابات تشريعية بناء على قانون انتخابي جديد. في نفس الوقت، بدأت البلاد تغرق شيئا فشيئا في أزمة مالية جامحة.

أصبحت مديونية البلاد تمثل 170% من ناتجها المحلي الإجمالي. وفي 2 مارس/آذار، أعلن لبنان عن أول تخلف عن تسديد دين في تاريخه. واستمرت قيمة الليرة اللبنانية في التدهور مقابل الدولار وازداد التضخم باضطراد، وحصلت موجات هائلة من تسريح العمال. تفكر حكومة حسن دياب منذ فبراير /شباط بجدية في فتح مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، غير أن المسألة تقسّم البلاد. وقد سبق لحزب الله أن أعلن أنه سيضع شروطا لأية مساعدة دولية.

بالتالي، لا يمكن فصل وباء كورونا عن الوضع المالي والاقتصادي الجديد في لبنان، إذ بدأت الأزمة الصحية في ظل إفلاس عام. وقد سبق أن دخلت المستشفيات الخاصة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في إضراب منددة بالنقص في الدولارات الضرورية لشراء الأدوية ومعدات المستشفيات. وعبر ممرضون وأطباء وجراحون منذ 6 أشهر عن تخوفهم بسبب الانخفاض التدريجي لمخزون المستشفيات، ما ينذر بندرة. وهكذا تَكوَّن منذ نهاية فبراير/شباط لدى السلطات العمومية خوف واحد: ألا تتمكن المستشفيات الخاصة والعمومية ماديا من مواجهة عدوى سريعة وواسعة للفيروس حيث سبقت أزمة قطاع المستشفيات وصول الوباء. في 4 مارس/آذار، نظّم موظفو مستشفى رفيق الحريري العمومي ببيروت اعتصاما لتنبيه الرأي العام والحكومة إلى هشاشة ظروف العمل في زمن الوباء.

وضع ليس بسابقة

تدابير الحجز التي قررتها الحكومة ورئاسة الجمهورية هي بالطبع غير مسبوقة، ولكنها تبدو بالنسبة للسكان أمرا تم الاعتياد عليه منذ 6 أشهر. فأبواب دور الحضانة والمدارس والجامعات مغلقة منذ 2 مارس/آذار لكنها أغلقت قبل ذلك لعدة أيام في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2019 في أوج المظاهرات المناهضة للحكومة. كما أعلنت جمعية المصارف اللبنانية في 16 مارس/آذار غلق مؤسساتها وإن أبقت على بعض الفروع مفتوحة مع ساعات وأيام إغلاق وفتح جد متذبذبة. وقد كان ذلك هو الحال فعلا طيلة الخريف والشتاء الماضيين حيث تم تقييد وصول المدخرين لحساباتهم بالدولار وبالليرة اللبنانية. كما أصدرت أوامر بإغلاق المطاعم والحانات والمحال التجارية، ولكن العديد منها كان سبق وأغلق فعلا منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول بسبب الانهيار الاقتصادي.

يعيش لبنان منذ 6 أشهر في حالة استثناء مستمرة، وقد أضيف إلى الطوارئ الاجتماعية والاقتصادية الطارئ الصحي الذي يزيد الفوارق الاجتماعية عمقا. فالجميع مثلا لا يمتلك إمكانية حجر نفسه، وعاملات وعمال محلات المواد الغذائية التي ماتزال مفتوحة ومحطات توزيع البنزين وموظفو المستشفيات وأيضا أفراد الجيش وأعضاء مختلف أسلاك الأمن (قوى الأمن الداخلي، الأمن العام، إلخ)، هم أكثر عرضة من الآخرين لانتشار الوباء.

ولكن المحجورين ليسوا أكثر حظا. فقد أصبح آلاف من ضحايا الأزمة الاقتصادية (بطالون، مياومون، سائقو الحافلات وسيارات الأجرة الذين هم حاليا في بطالة تقنية) لا يذهبون إلى العمل كونه لم يعد متوفرا. وإذا استمر الحجر، فلا أحد يدري كيف سيتمكنون من تلبية حاجيات أسرهم. في يوم 19 مارس/آذار، دعا اتحاد نقابات السائقين وعمال النقل الحكومة إلى وضع آليات تعويض لسائقي سيارات الأجرة الجماعية والفردية ولسائقي الحافلات. غير أن الدولة في حالة إفلاس والهوامش المالية لحكومة حسن دياب جد ضئيلة، ومع ذلك فقد أطلقت مساعدات طارئة (طرود غذائية) للأسر الأكثر احتياجا.

مخاوف بخصوص صحة اللاجئين

وفي الأخير، يبقى لمفهوم الحجر معنى نسبي في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين أو السوريين نظرا لكثافة السكان العالية والاكتظاظ الكبير. خوفا على صحة اللاجئين، استقبل سفير فلسطين في لبنان، أشرف دبور، مسؤولين من فتح وحماس ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) والهلال الأحمر بمقر الممثلية الدبلوماسية الفلسطينية، بالجناح، في ضاحية بيروت، كما تم إنشاء لجنة تنسيق مشتركة. تحث قوى الأمن الفلسطينية داخل المخيمات على عدم مغادرة السكان شققهم، في حين تتولى حركة فتح توزيع معقم اليدين للاجئين. كما تقوم فرق من مفوضية الأمم المتحدة للاجئين في المخيمات السورية في شرق البلاد بحملة توعوية بخصوص آثار الفيروس وتوزع كيتات صحية.

عودة الأحزاب التقليدية

إذا كان الوباء يندرج ضمن أزمة اقتصادية ومالية كارثية طويلة المدى، فله تداعيات سياسية فورية أيضا. من ثلاثة أشهر خلت، كان المحتجون يحثون المواطنين على النزول إلى الشوارع من أجل تعيين حكومة من الكفاءات المستقلة أو ضد البنك المركزي اللبناني بينما صاروا يطلبون منهم اليوم حجر أنفسهم. ومن سخريات التاريخ استبدل رمز #انزل_عالشارع في شبكات التواصل الاجتماعي برمز #خليك_بالبيت. والجيش اللبناني الذي كان منذ وقت ليس ببعيد مشغولا بفتح الطرقات التي أغلقها المتظاهرون ونزع الحواجز الشعبية، صار هو من يعمل على غلق الطرقات الرئيسية. وكان أمل حكومة حسن دياب والرئاسة العودة الى حياة طبيعية، لكنهم الآن مضطرون إلى إعلان حالة الاستثناء.

في هذا السياق، تتكيف تدريجيا الحركة الاجتماعية التي راهنت على تعبئة طويلة الأمد موجهة على الخصوص ضد مصارف لبنانية على شفا حفرة من الإفلاس والتي تحجز أموال المدخرين. توقفت المظاهرات في بلدة كفر رمان بجنوب لبنان، البلدية “الحمراء” حيث لا تزال الثقافة الشيوعية قوية، وحيث يعمل النشطاء على تطهير الشوارع وخلق خدمات مساعدة منزلية للأكثر احتياجا. ولم تتم إزالة خيام المحتجين في بيروت وصيدا وطرابلس. هي بالطبع خالية من المناضلين ولكن الحكومة تتردد في فعل ذلك خشية إعادة بعث الحركة الاحتجاجية.

قد تكون الأحزاب الطائفية التي كانت محل نقد واستهجان قبل بضعة أشهر أكبر المستفيدين من الأزمة الصحية. إذ تبقى الأحزاب الشيعية والسنية والدرزية والمسيحية في سياق الأزمة الاقتصادية شبكة أمان اجتماعي نادرة بالنسبة للمواطنين المعوزين. بعض هذه الأحزاب ملتصقة بالدولة والوزارات التي تسيطر هذه الأحزاب عليها، وبعضها الآخر قادر على تجنيد مناضليه المتواجدين في قطاعات أساسية كالصحة، وهي تتمتع في هذا الظرف على قدرة إعادة تعبئة قواعدها الاجتماعية. فالوباء يفيد الطائفية فعلا، إذ يُطلب من اللبنانيات واللبنانيين المكوث في بيوتهم ليصبح أفقهم الفوري الوحيد الأسرة القريبة والعمارة ثم الحي والحزب السياسي بمؤسساته الصحية والاجتماعية وشبكات التضامن التي يمكن تفعيلها بسرعة. وفي المناطق ذات الأغلبية المسيحية كجبيل وكسروان، تعمل القوات اللبنانية لسمير جعجع والتيار الوطني الحر لرئيس الجمهورية ميشال عون على توزيع مكثف لمعقم اليدين والمطهرات. ويعرض الحزب الاشتراكي التقدمي لوليد جنبلاط تقديم معدات تعقيم لمراكز الاعتقال.

في 15 مارس/آذار، أكد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في خطاب قارن فيه أزمة فيروس كورونا بمعركة وطنية حقيقية أنه يدعم عمل الحكومة لاحتواء الوباء، ورحب بقرار أهم المؤسسات السنية والشيعية والمسيحية إلغاء كل التظاهرات الدينية. كما عرض المساعدة اللوجستية والطبية للحزب - والتي يُعترف بفعاليتها - على السلطات اللبنانية. كذلك أعلن عن تعليق كل تجمعات الحزب في المناطق الشيعية. وأكد حزب الله في نهاية مارس/آذار أنه جنّد 24500 مناضلا من بينهم العديد من الأطباء والممرضين للعمل على كبح انتشار الفيروس.

حكومة بدون هامش مناورة

وأخير تعد الأزمة الصحية اختبارا حقيقيا لحكومة حسن دياب. اضطلع الوزير الأول بالمسؤولية منذ شهرين فقط وهو يريد أن يكون مستقلا عن الأحزاب السياسية وقريبا من مطالب المتظاهرين. غير أن شرعيته تعرضت للطعن منذ أول يوم من عهدته، إذ لم يمنحه النواب السنة من تيار المستقبل لسعد الحريري والتابعين للوزير الأول السابق نجيب ميقاتي ثقتهم. وكذلك الحال بالنسبة لنواب القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي التقدمي. أما في صفوف المتظاهرين، فمازالت هناك ريبة تجاهه رغم الإعلان عن بعض الإصلاحات الضرورية، لا سيما بخصوص استقلالية القضاء.

ويتعين على الحكومة الحالية أن تتعامل مع ظرف جديد. ففي وقت كانت تنوي فيه طلب مساعدة تقنية ومالية دولية لإعادة هيكلة مديونيتها، باتت هذه الإمكانية غير مؤكدة بسبب احتمال حصول ركود اقتصادي دولي يؤثر بشكل مباشر على المانحين المحتملين، خاصة الدول الأوروبية.

وأخيرا، قصد مواجهة الوباء بموارد استشفائية محدودة، لا خيار للسلطات سوى إغلاق البلد وحجره. ولكن الحجر والانعزال يزيدان الأزمة الاقتصادية حدة ويقيدان أي استثمار ويعجلان من وتيرة الفقر. لبنان الذي لم يعد في الشهر الأول من كارثة معلنة ينتقل إذن من سيء إلى أسوء.