المعتقدات الدينية أمام تحدّي فيروس كورونا

يسود سوء الفهم منذ أسابيع إزاء رفض أو مقاومة بعض الجماعات الطائفية والدينية الامتثال للقواعد الصّحية التي تعتبرها غالبية الناس أساسية لوقف انتشار فيروس كورونا. فكيف يمكن تفسير هذا الأمر؟

في الشرق، في الغرب أو في آسيا، في الكنائس والمساجد والمعابد اليهودية وغيرها من أماكن التجمع الطائفي، يجتمع المؤمنون ويصلّون، ممّا يساهم في انتشار الفيروس. كيف نسينا أن الطّاعون انتشر في روسيا، خلال القرن الثامن عشر، بسبب اصطفاف المتدينين لتقبيل الأيقونات التي كانت وعاءً وعاملاً لانتقال البكتيريا؟ إذا كانت شعوب ذاك الوقت تجهل كيف ينتقل الوباء، فكيف يمكن تفسير سلوكيات اليوم، في حين تؤكد كل المعلومات أن خطر الانتشار يأتي من الاختلاط البشري؟

مقاومة العولمة

في كوريا الجنوبية، حيث بدأ انتشار الوباء أوائل فبراير/شباط، تنتمي النسبة الأكبر من المصابين بالفيروس لمجموعة مسيحية هامشية تدعى كنيسة يسوع شينشيونجي، وهو ما دفع بالكثيرين إلى المطالبة بحلها.

وفي إسرائيل، تجاهلت الأحياء الأرثوذكسية المتشددة القيود التي فرضتها الدولة لأسابيع. بالنظر إلى كثافتها السكانية المرتفعة جدّاً، تُشكّل هذه التجمعات الحضرية خطراً على البلد بأكمله. ففي “بني براك”، أبرز مدينة أرثوذكسية متشددة (في الضاحية الشمالية الشرقية لتل أبيب)، كانت نتائج فحص 35 إلى 40 بالمائة من الساكنة إيجابية. وفي القدس، 74٪ من الأشخاص المصابين يعيشون في الأحياء الأرثوذكسية المتطرفة للمدينة. وقد انتشرت الصور لمدينة قم الإيرانية حيث يحتشد المتدينون في الأضرحة الشيعية، في حين قام المئات في سانت بطرسبرغ بتقبيل أيقونات كاتدرائية “قازان” خلال معرض لآثار القديس يوحنا المعمدان، جيء بها من القدس. وفي تناقض تام مع قواعد الحجر الصارمة، تم الاحتفال بقداس عيد الفصح بكنيسة القديس نيكولا دي شاردوني في باريس يوم 12 أبريل/نيسان. وتتعدد الأمثلة حول التجمعات الطائفية عبر العالم التي تسببت في انتشار كبير للمرض.

كان من المنتظر أن تؤدي العولمة إلى الاستغناء عن الدين. بل كان يُنتظر أن يكون تطلّعها الأخير في حال لم تساهم في اختفائه، أن تعمل على حصره في جيوب معينة واعتباره بالياً ومتعارضاً مع المنطق أو غير مفيد بما يكفي لاقتصاد السوق. إذ نظراً لما يحمله اقتصادها الذي يجوب القارات من فوائد مادية للجميع - وإن كان بشكل غير متساوٍ -، لا يمكن العولمة إلا أن تؤدي إلى حصر أهمية الدين، وقد نجحت في ذلك في كثير من الأحيان. ولعلّ ما ساهم في تسهيل هذه المهمة كون العولمة لا تنقل البضائع والمنتجات فحسب، بل كانت أيضاً تفرض التنقل على الناس. وبسبب تغرّبهم تحت خطوط عرض جديدة، يفقد هؤلاء جغرافيتهم ومعها جزءًا من تاريخهم. وحدها ثقافتهم - حقيبة سفر كبيرة تحتوي على معرفتهم ومعتقداتهم وطقوسهم وممارساتهم وقِيمهم وما إلى ذلك- التي أخذوها معهم كانت تسمح لهم بسد الفجوة بين ما تركوه وما وجدوه. هكذا تمكنوا من الحفاظ على جذورهم من خلال الحفاظ على معتقداتهم وممارساتهم الدينية.

الاستنتاج يبقى نفسه بالنسبة لمن تمكن من تفادي الاقتلاع: يُنظر إلى العولمة على أنها زوبعة من المعالم، وإلى المعتقدات كأساس يرتكز عليه المرء لمّا ينقلب كل شيءٍ رأساً على عقب. بعبارة أخرى، كلما تغلغلت العولمة، إلّا وترسخت معها المسألة الدينية وطقوسها المطَمئِنة بقوة في وجه الفوضى والاقتلاع والانزياح وكذا الرفض الذي قد نتعرض له من قبل الآخرين. لذلك، ليس من المستغرب أن ترفض مجتمعات متدينة الالتزام بإجراءات احترازية تُشعرهم أن عليهم التخلي عن شيء ذي طبيعة أعلى، وترك طقوس جماعية تمنح معنىً لمعتقداتهم: عناق أو تطهّر أو وضوء أو غسل شعائري أو خبز القربان المقدس.

الجريمة والعقاب والحماية الإلهية

عندما لا يوجد تفسير لمأساة غير متوقعة -حرب، مجاعة، كارثة طبيعية أو بشرية، جائحة- تتحول المعتقدات إلى مصدر لا ينضب من التفسيرات، التي لا يستبعد أن تكون لها اعتبارات سياسية وانتهازيات إيديولوجية.

يعتبر رالف درولينجر وهو وزير متدين أمريكي يقود مجموعة دراسات حول الكتاب المقدس في محيط الرئيس الأمريكي1 أن أزمة فيروس كورونا قضاء إلهي. إنها تُعبر بالنسبة إليه عن “غضب الله” وهو غير موجه على حد قوله ضد أمريكا بل ضد الأمريكيين الذين مارس بعضهم عبادة “النزعة البيئية” وعبروا عن ميلهم لـ “السّحاق والمثلية الجنسية”. أمّا قسّ فلوريدا المحافظ ريك وايلز، فيرى أن انتشار الفيروس داخل المعابد “عقاب من الله لمعارضي المسيح”. ورغم إغلاق قناته على اليوتيوب، لم تتوقف أفكاره عن الانتشار.

وردا على سؤال حول ما إذا كانت إسرائيل ستطبق الحجر الصّحي إلى غاية عيد الفصح اليهودي، ردّ وزير الصحة الأرثوذكسي المتطرف يعكوف ليتزمان: “نُصلي ونأمل أن يصل المسيح قبل الفصح، وقت الخلاص. أنا متأكد أن المسيح سيأتي ويخرجنا مثلما أخرجنا [الله] من مصر. قريباً سنخرج أحراراً وسيأتي المسيح ليخلصنا من كل شرور العالم”. من سخرية الأقدار أن يُصاب ليتزمان بالفيروس لاحقاً، ممّا أجبر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وباقي المسؤولين السياسيين والأمنيين الذين خالطوه، على الخضوع للحجر الصحي.

وإدراكا منه لخطر الفيروس، فسّر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لأعضائها أن الفيروس “أمر من الله” ونصحهم بـ“وضع إيمانهم في الله واللّجوء إليه”، لكن مع تقديم توصيات لتفادي انتشار الفيروس.

وفي بداية مارس/آذار، نفت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية عبر بيان عمومي للمُجمّع المقّدس أن تساهم تجمعات المصلين في انتشار الفيروس: “بالنسبة إلى أعضاء الكنيسة، من شبه المستحيل أن تكون المشاركة في القربان المقدس (الأفخارستيا) سببًا لانتقال المرض [ولو] في خضم جائحة”.

مخططات سرية

ُوفّر المعتقدات إجابات لألغاز الوجود وبداية معنىً لمن يؤمن بها. وتماما كما لا ينبغي التوهم، فإنه لا ينبغي أيضاً إيلاء أدنى أهمية لتلك الفئة التي تعتقد أن الواقع لا يمكن أن يكون إلاّ منطقياً، وأن كل ما يبتعد عن العقلانية ليس سوى نتاج مخطط سري، شيدته بالضرورة قوىً خفية. يندرجُ المهوسون بنظرية المؤامرة ضمن هذه العيّنة. فبمجرد أن يستعصي كلام أو فعل أو حدث على الفهم بسبب غرابته، تجد هؤلاء مقتنعين بأن هناك قوى خفية تشتغل في الخفاء. وطبعاً، يتباهى هؤلاء بقدرتهم على كشف مدبري المكائد المتآمرين.

يحدث أن تلجأ الدول أيضاً لهذا الحلّ السّهل، لكن لأغراض مختلفة. فاستناداً إلى موقع “مؤامراتي”، لمّح المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو ليجيان في 12 مارس/آذار 2020 إلى أن الجيش الأمريكي هو من قام بإدخال فيروس كورونا إلى الصين. بالطبع، لم يعلّل ادعاءاته ولم يقدم أي دلائل تؤكدها. بالموازاة، ظهرت نظريات عديدة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، تعتبر أن الصين سمحت بانتشار الفيروس لينهار الاقتصاد العالمي كي تفرض نفسها كقوة دولية وحيدة.

العجز النسبي للحكومات

في إسرائيل، أعاد الجيش الانتشار حول محيط مدينة بني براك الأرثوذكسية المتطرفة، والتي انتشر فيها الفيروس بشكل واسع بسبب تجاهل سكانها لهذه الآفة “الأرضية”. تحولت المدينة إلى مخيم “محاصَر” بعدما تم وضعها تحت الحجر الصحي، مع فرض حظر تجوالٍ عسكريٍ. يؤكد هذا الإجراء المتشدد كيف تجد الدولة نفسها عاجزة، خلال أوقات المآسي الوطنية عن تمرير قرارات استثنائية دون اللجوء إلى فرض تدابير جدّ مُلزمة. وفي حالة وزير الصحة الإسرائيلي، تتجلى المُفارقة في رفضه الامتثال لقواعد الحماية التي وضعتها إدارته قبل أن يُصاب بالفيروس.

من وجهة نظر المتدينين الصّرفة، ليست الدولة سوى مخلوق حديث، تاريخ انتهاء صلاحيتها مسجّل في طبيعتها العابرة. وبالتالي فإن طاعتها تأتي بعد طاعة المعتقد. ويتقاسم أولئك الذين يدركون انتماءهم إلى جيل معين من المعتقدات عاجلاً أم آجلاً هذا الإغواء، لكن دون أن يستسلموا له جميعاً.

بين الإلزام والإذعان

رضخاً للواقع أو تحت ضغط من الدولة، اتخذ القادة الطائفيين إجراءات أولية جذرية أحيانًا، لمواجهة جائحةٍ سرعان ما ثبت أنها قاتلة. ففي القدس، قررت إدارة الأوقاف في 23 مارس/آذار ولأول مرة إغلاق المسجد الأقصى وأجبرت المؤمنين على الصلاة خارجه مع احترام المسافة بين بعضهم البعض. كما قامت المملكة العربية السعودية بإلغاء العُمرة وطلبت من الحكومات الأجنبية تعليق الاستعدادات للحج هذا العام. وهي المرة الأولى التي سنشهد فيها سنة بدون حج، كما تم حظر مجيء المسلمين الأجانب إلى مكة والمدينة.

وفي إيران -إحدى الدول الأكثر تأثراً بالفيروس- وضعت السلطات حدّاً لصلوات الجمعة في جميع عواصم المقاطعات، كما طالب آية الله خامنئي مواطنيه بالصلاة في المنزل خلال شهر رمضان. وفي سنغافورة، يتوجب على المسلمين قبل الذهاب إلى المسجد أخذ سجّاد صلاة خاص بهم وتجنب المصافحة. فيما طلب الوزير المسؤول عن الشؤون الإسلامية من المشتبه في إصابتهم بالفيروس مبارحة منازلهم. وفي طاجيكستان تم إلغاء احتفالات “نوروز” للعام الفارسي الجديد. كما ألغت الكنيسة المورمونية [كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة] جميع الاحتفالات العامة عبر جميع أنحاء العالم. أمّا في إسرائيل، فلم يشهد عيد الفصح اليهودي احتفالات في حجم السنوات الماضية.

بين الحجر ومنع التنقل بين المدن وحواجز الطرق وحظر التجول والطائرات الآلية بدون طيار وطائرات الهليكوبتر لمراقبة التحركات، يبرح الجميع بيته. في إيطاليا المنكوبة، تمّ إلغاء جميع احتفالات عيد الفصح في روما. وتلاَ البابا فرنسيس رسالته المبارِكة “أوربي إيتوربي” (“مباركة المدينة والعالم”) أمام ساحة القديس بطرس فارغة. على غِرار مكّة والكعبة، تجري زيارة الفاتيكان الآن افتراضياً على الإنترنت.

إن الضرورة المُلحّة هي تمكين المجتمعات الإنسانية من وسائل حماية أنفسها ضد الفيروس. على المدى الطويل، يبدو أن المجتمعات ستستغرق بعض الوقت للتعافي مالياً واقتصادياً من الكارثة الحالية. بيد أنه من المحتمل أن يترك الوباء بصماته أيضاً على المجتمعات المتدينة. فقد تم التخلي عن طقوس وارتكاب عمليات تدنيس واتخاذ تدابير اعتُبرت مخالفةً للعقائد، وتم الدوس على تقاليد. كل هذا سيعرض السلطات الروحية التي قبلت تعليمات الدول الوقائية للّوم والعِتاب.

1تضم هذه المجموعة مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي