كان اليوسفي مهندسا للعمل السري في المعارضة، اختار أن يلتحق بجوار ربه في صمت عن سن يناهز 96 سنة. وقد كان أبا-مؤسسا للاستقلال وللفكرة المغاربية، ظل التزامه قارا منذ انخراطه في صفوف المقاومة حتى انسحابه من الحياة السياسية. الاحتلال أو سنوات الرصاص والاعتقال ثم الاختياران الثوري والديمقراطي فالحروب الداخلية للحزب ورئاسة الحكومة... كلها لم تتمكن من الحد من تأثيره على الأجيال المتعاقبة ولا من تقليص سلطته المعنوية.
عبد الرحمان اليوسفي من مواليد طنجة سنة 1924، التحق بصفوف المقاومة في المناطق الفرنسية والإسبانية التي تقاسمت المغرب سنة 1912. انخرط في حزب الاستقلال سنة 1944 في الدار البيضاء وهي سنة التوقيع على “وثيقة الاستقلال”1 التي أيقظت الضمير الوطني وربطت بين الساكنة الحضرية والكفاح المسلح والقصر الملكي. من أصول متواضعة، تدرج الشاب اليوسفي في جيش التحرير رفقة قائده محمد البصري الملقب بـ“الفقيه”. واندمج كذلك في الحزب مع زعيمه المهدي بن بركة الذي دَرَّسَهُ الرياضيات بثانوية مولاي يوسف بالرباط.
الطرد من الجامعة في باريس
في خمسينات القرن الماضي، التحق بباريس لدراسة الحقوق قبل أن يُطرد منها بسبب نشاطه المناهض للاستعمار، فعاد إلى طنجة لممارسة مهنة المحاماة وتولي مسؤولية نقيب هيئة المحامين والمساهمة في تأسيس اتحاد المحامين العرب المدافع عن حقوق الشعوب المستعمَرة آنذاك. هذه الحقبة فرضت عبد الرحمان اليوسفي كإطار مركزي للمقاومة وكحليف للثورة الجزائرية، حيث ربط بين زعماء جبهة التحرير الجزائرية وملك المغرب الراحل محمد الخامس ونظِّم المؤتمر الوحدوي للمغرب العربي سنة 1958.
استقلال المغرب فَجَّرَ تناقضات داخل الحركة الوطنية جعلته يتبنى الوضوح الأيديولوجي من خلال الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي دافع عن الطرح الاشتراكي واستمرار حركة التحرر الشعبية. وكان عبد الرحمان اليوسفي مع الوطنيين المهدي بن بركة وعبد الرحيم بو عبيد وعبد الله ابراهيم، وقادة جيش التحرير والفقهاء المتنورين أمثال “شيخ الاسلام”، والحركة النقابية الممثلة في الاتحاد المغربي للشغل وجناحها الماركسي لعمر بنجلون، أحد مؤسسي أكبر حزب جماهيري ونخبوي عرفه المغرب المعاصر.
بينما كان رفاقه يخوضون تجربة حكومية اشتراكية سنة 1960 لوضع اللبنة الأولى للسيادة الاقتصادية والإصلاح الزراعي في المغرب قبل إسقاطها من طرف ولي العهد مولاي الحسن (الحسن الثاني)، تفرغ النقيب اليوسفي للحزب وللدفاع عن حقوق الإنسان. فكان لمقاطعة الدستور الممنوح سنة 1962 وللانتخابات المزيفة سنة 1963 وللمحاكمة الصورية التي حوكم فيها بن بركة والبصري وبنجلون بالإعدام آثار كبيرة على مساره النضالي، حيث اضطر إلى اللجوء السياسي. وقد كان اغتيال المهدي بن بركة في أكتوبر/تشرين الأول 1965 السبب الرئيسي في انقسام الحركة الاتحادية بين مناصري الاختيار الثوري والخيار الديمقراطي.
إلى جانب عائلة بن بركة
تولى اليوسفي القيادة السياسية لما عُرِف بـ“التنظيم”، أي الجناح الثوري لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المقيم في أوروبا و العالم العربي، رفقة محمد البصري قائده “اللوجستي”. بين القاهرة وباريس، كان “الرفيق عبد الرحمن” مناضلا لا يتعب أبدا. بين اجتماع سري مع رفاقه في دمشق واستقبال غيفارا في الجزائر العاصمة، كان اليوسفي في خدمة مغرب آخر ومغرب عربي مبنيين على قيم العدالة والوحدة والاشتراكية. كمحامي، سيدافع اليوسفي على عائلة بن بركة أمام الغرفة الجنائية بباريس مع المحامي الفرنسي موريس بوتان (Maurice Buttin) الذي سيرسله فيما بعد إلى مدريد للتحقيق في اختطاف المقاوم سعيد بو نعيلات والمناضل أحمد بنجلون فيما ستصفه الصحافة الدولية سنة 1970 بـ“قضية بنبركة الثانية”2.
سيتدخل كذلك لدى الأمم المتحدة لفائدة المئات من المختطفين، ومن بينهم أفراد عائلة المقاوم علي المانوزي. وفي محاكمة 1973 بعد أحداث “مولاي بوعزة” وسط جبال الأطلس، ستطالب النيابة العامة برأسه في الوقت الذي سيعرف رفاقه أشرس مظاهر التعذيب والاغتيال والتنكيل. ثمن دفعه المناضلون جعله يُقدِّم نقدا ذاتيا يتمثل في القطيعة مع العمل الثوري وتبني استراتيجية النضال الديمقراطي التي نهجها الحزب منذ 1972 وكرسها في مؤتمره الاستثنائي الذي نتج عنه ميلاد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975.
كانت هذه المحطة منعرجا حاسما في تاريخ الاشتراكية في المغرب، ليتعثر شهورا بعد ذلك باغتيال عمر بنجلون، العقل الأيديولوجي والنقابي والحزبي للحركة، على أيدي الشرطة السياسية التي كانت تسمى آنذاك الكاب-1، برئاسة الجنرال الدليمي والمشاركة التنفيذية لـ“الشبيبة الإسلامية”. هذه الجريمة تسببت في دخول الحزب إلى دورات انتخابية عبثية وصراعات داخلية لا منتهية تفاقمت بعد الوفاة المبكرة لعبد الرحيم بوعبيد سنة 1992. في تلك السنة سيتمكن اليوسفي من قيادة الاتحاد الاشتراكي وكان لي أول لقاء معه في سن الخامسة عشر بمناسبة وفاة جدتي، والدة عمر وأحمد بنجلون، التي خبرت مزارات السجون لزيارة أبنائها واختارت الموت في نفس اليوم الذي رحل فيه عبد الرحيم بو عبيد. اليوسفي الذي تلا في ذلك اليوم الكلمة التأبينية لرحيل من كان يعتبره “زعيم الاتحاد بدون منازع” أمام مئات الآلاف من المناضلين والمتعاطفين... جاء للترحم على والدة رفاقه ساعات بعد ذلك في حميمية أخوية ونضالية.
عودة محمد البصري وأبراهام السرفاتي
رغم إضعاف الاتحاد بعشرات السنين من صراعات الاستنزاف مع النظام والحروب الداخلية، لم تفقد الحركة مصداقيتها السياسية ومشروعيتها الشعبية، ما جعل الحسن الثاني يلتجئ إلى الحزب تحسبا لانتقال العرش إلى ابنه. وقد استمر الديمقراطيون في تعليق آمالهم عليه. بعد سنوات من التجاذب والمنفى والمراجعات الدستورية والمفاوضات في تسعينيات القرن الماضي، استقرت الأوضاع على تكوين حكومة “تناوب توافقي” سنة 1998. وافق اليوسفي على تكوين حكومة مع إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق ذي الحكم المطلق لمدة 25 سنة، وأحزاب تُعرف بـ“الإدارية” نظرا لخبرتها في التزوير الانتخابي وسلب الإرادة الشعبية. جعل الوزن السياسي للوزير الأول رغم ذلك روح المصالحة تطفو على المناخ السياسي المغربي، الذي تأثر كذلك بانتقادات اليسار غير الحكومي وتربص الإسلاميين وظهور جوقة من الانتهازيين أغرقوا الأجهزة الحزبية والهياكل الإدارية للدولة. رغم كل هذه العوامل، نجحت حكومة اليوسفي في بعض أوجه العدالة الانتقالية بإدماج آلاف الموظفين مِمَن طُردوا بسبب مواقفهم السياسية، والعفو على المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين أمثال محمد البصري وأبراهام السرفاتي، وإقرار حقيقة نسبية حول انتهاكات حقوق الإنسان، ثم تقليص ديون الخزينة وإعادة الثقة السياسية لدى الشباب وفتح المجال أمام تعدد الصحافة، وأخيرا التقدم في قضية الصحراء وإحياء الحوار المغاربي.
أُغلِق هذا القوس التوافقي بارتباك انتخابي سنة 2002، إذ وجد كل من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي اللذان خرجا من رحم الحركة الوطنية نفسهما متساويين من حيث عدد المقاعد وفي حالة تنافر أدت الى إزاحة اليوسفي من رئاسة الحكومة لفائدة رجل أعمال لا سياسي، في وضعية لم تُقَدِّر الظرفية التاريخية بل احرجت رجلا من عيار عبد الرحمان اليوسفي ليتلو مباشرة بعد ذلك وَصِيّته في بروكسيل قبل الانعزال عن الحياة العامة.
“كيف جمعوا ثروتهم؟”
سيرفض المناضل اليوسفي بشخصيته الزاهدة ونزاهته الطبيعية التعويضات الوزارية وتلك التي خُصصت له من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة لضحايا سنوات الرصاص، ليقوم بتحويلها لمنظمات ذات مصلحة عامة. وأخذ مسافة من ـجل التأمل في ساحة سياسية تحتضر وتتأرجح بين فقدان رفاق الدرب واحد تلو الآخر وبين الغارقين في مسلسل ديمقراطي محاصر بين النيو ليبيرالية والأصولية. كان اليوسوفي يرفض الظهور الرسمي، ما عدا لتكريم أصدقائه أمثال أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر أو محمد عابد الجابري المثقف العضوي للاتحاد، او العمل على المصالحة المغاربية.
في الذكرى الخمسينية لاختطاف المهدي بن بركة في أكتوبر/تشرين الأول 2015، طلب مني الأستاذ اليوسفي المشاركة في تنظيم المهرجان الوطني احتفاء بالزعيم الأممي. وقبل ساعات من انطلاقه وحفاظا على سرية تامة طيلة فترة الاستعداد، علمنا كجميع المدعوين بانضمام الملك محمد السادس إلى التجمع برسالة ملكية موجهة إلى “الشعب الاتحادي”. وكانت قبل ذلك بأَشْهُرٌ وصلتني أنا والوالدة رسالة مَلَكِية تنعي الوالد أحمد بنجلون، المناضل الاتحادي منذ الرعيل الأول حتى سنة 1992 حيث سيؤسس حزب الطليعة الذي يُعتبر من أعمدة اليسار الديمقراطي واستمرارا للحركة الاتحادية. زرت آنذاك عبد الرحمن اليوسفي لدعوته لأربعينية رفيقه وفي أوج حديثنا طرح علي سؤالا عفويا ذا بعد وجودي قائلا: “محمود، هل بإمكانك أن تشرح لي كيف جمعوا ثروتهم؟”
سؤال أربكني... وأحالني على ذاكرة الوالد الذي ترك لي حسابا معبئا ب 1,34 درهم واسمين، عمر عن أخيه قائد الاختيار الديمقراطي المغتال سنة 1975 ومحمود عن رفيقه من الخيار الثوري الذي استشهد في ساحة الشرف في أعالي الأطلس سنة 1973. سؤال نبهني إلى أن جيلا من الوطنيين أضحى في طور الانقراض، وأن بين حس النجاة من أجل الدفاع عن شعب مُهْمَل وثقة مُغتصَبة، لم يستطع اليوسفي حماية المشروع من الهزيمة الأخلاقية رغم أن سلطته المعنوية كزعيم سياسي ظلت شامخة.
الجمع بين المتناقضات
استقبلني مرة أخرى الأستاذ اليوسفي بعد سنوات من هذه الحادثة لإهدائي مذكراته التي تغطي ما يقارب قرنا من الزمن. خلال هذا اللقاء، سلط الضوء على واقعة تاريخية للحركة الاتحادية تعرضت للتستر، ألا وهي اقتراح عمر بنجلون كاتبا أولا للاتحاد الاشتراكي بعد انتهاء المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975، في اجتماع تحضيري انعقد في باريس بين اليوسفي وعبد الرحيم بو عبيد ومحمد الفقيه البصري. سيرفض الشهيد عمر بنجلون هذه المسؤولية التاريخية بسبب الآثار الجسدية والنفسية للتعذيب عليه وحسه العملي الذي كَوَّنَ لديه قناعة بأن عبد الرحيم بو عبيد هو الوحيد القادر على “طمأنة الحسن الثاني”.
رغم كوني خبرت السجون لزيارة الوالد المعتقل السياسي وتظاهرت في فاتح مايو/أيار وخلال مسيرات الكفاح الفلسطيني منذ سن الخامسة، لم أدرك بعد أن الاتحاد بحر تاريخي يحتفظ بجوانب من الغموض، خاصة وأننا نعيش منافسة الذاكرات ومحاولات تزييفها من قبل بعض الطامحين في “المراجعة” التاريخية.
الأستاذ اليوسفي المقاوم والمناضل وقائد المعارضة وحكومة التناوب، كان رمزا لحقبة ما بعد الحسن الثاني، بل كان بمثابة ضامنها المعنوي. وقد جَسَّد قيمتين أساسيتين: الحسّ بالواجب والنزاهة. وقد تمظهر الحس بالواجب في مقاومة المستعمر والاستبداد وإرساء أسس المصالحة الوطنية. أما النزاهة، فتظهر في المسافة التي يضعها مع مصلحته الشخصية والسياسة السياسوية. بين رجال الدولة ورجال السياسة، بين المغاربيين والمدافعين عن الحركات الثقافية، العروبيين والوطنيين، أصحاب العمل الشرعي والسري، المحافظين والتقدميين، الاشتراكيين والليبيراليين، الشعب والمَلَكِية ... كان الأستاذ اليوسفي تركيبا شاملا لهذه التناقضات التي تتغدى من بعضها البعض، والتي قد تتمثل في تلك الصورة الرائعة التي نرى فيها الملك محمد السادس في المستشفى في زيارة لـ“تاجر السلاح” كما وصفه يوما ما الحسن الثاني وهو يقدمه لابنه ولي العهد.
بمناسبة تقديم مذكرات اليوسفي بمسرح محمد الخامس سنة 2018، قال مهندس الانتقال الديمقراطي الإسباني فيليبي غونزاليس: “ناضل اليوسفي من أجل الديمقراطية قرابة قرن من الزمن وأخد منه الأمر سنين طويلة قبل أن يقدم ذكرياته للأجيال الصاعدة... بينما يعتقد دونالد ترامب أنه قادر على تغيير العالم بتغريدة عبر تويتر”. بحس من الاعتدال والتضحية وكونه كتوما وأحيانا غامضا، نجح عبد الرحمن اليوسفي في عدم الخلط بين الزمن الطويل والعبث، والموافقة بين العمل الحكومي وشرف المعارضة، وإرساء التركيب السياسي لوطن له ألف سنة من التاريخ في 75 سنة من العمل السياسي. نقدم اليوم تحية إلى الرجل الذي جسد آمال المغرب والمغرب العربي، وإلى المدافِع عن الثورة والديمقراطية.