في أواخر سبتمبر/أيلول 2020، وصل عدد حالات كورونا في قطر منذ بداية الجائحة قرابة 45 ألف حالة مؤكدة لكل مليون ساكن، في حين تعدّ البحرين 42 ألف. وهي من أعلى النسب على الصعيد العالمي، وضعف ما وصلت إليه بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو البرازيل، والذي يعتبر عدد حالاتها مرتفعا جدا. لكن عدد سكان هذين البلدين الخليجيين متواضع، إذ تعدّ البحرين 1.7 مليون نسمة وقطر 2.8 مليون. ويبقى عدد الوفيات محدودا، ويعود ذلك في الغالب لنسبة الشباب في المجتمع1. كما يحتل الكويت أعلى المراتب عالميا، ولا يختلف الوضع كثيرا بالنسبة لعُمان.
وقد شهدت إسرائيل التي فاقت الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لعدد الحالات لكل مليون ساكن، ظاهرة مقلقة في 23 سبتمبر/أيلول، إذ ارتفع فجأة عدد الحالات اليومية ليصل إلى أربعة أضعاف اليوم السابق، وعشرة أضعاف النسبة الأمريكية. وهنا يجب القول إن إسرائيل هي حتما البلد الذي تبدو إحصائياته غير عادية ومربكة. وهو نفس الاستنتاج الذي وصل إليه موقع “تايمز أوف إسرائيل” (Times of Israel) في 29 سبتمبر/أيلول حيث كتب: “تحظى إسرائيل بأسوأ عدد في العالم لحالات العدوى اليومية مقارنة بعدد السكان”.
ونرى هنا تشابهات بين مملكات الخليج وإسرائيل، رغم الاختلافات في طريقة انتشار الجائحة. فقد اتخذت بلدان الخليج وبسرعة تدابير قاسية: إغلاق المدارس والجامعات، الحد من الرحلات الدولية وخاصة، إغلاق المساجد. فمنذ بداية الجائحة، سلطت الطقوس الدينية من ترتيل بصوت عال أو تحركات جسدية الضوء على مجموعات معينة، وتم الحد منها بسرعة.
لكن السلطات الإسرائيلية من جهتها تأخرت على هذا الصعيد، بل إن الهريديم -أي المتدينين الأرثوذكس والذين يمثلون 10% من السكان- يرفضون إلى اليوم الانصياع إلى تعليمات الحماية ويشكلون إذن خطرا على الصحة العمومية والأمن العام. ويكثر اللغو وسفسطة الحاخامات بنفس وتيرة تكاثر العدوى. وقد جعل الحجر الصحي الشامل الثاني ومظاهرات الشارع اغير المسبوقة الوضع الإسرائيلي تحت المجهر، خلافا لبلدان الخليج التي يصعب تقييم وضعها. وتتمتع إسرائيل كما بلدان الخليج بأجهزة صحية ناجعة نسبيا، وفق المعايير الدولية: “في تقييم نشرته منظمة الصحة العالمية في منتصف شهر مارس/آذار حول مدى الاستعداد لظهور الجائحة، تم ترتيب البلدان حسب سلم من 1 إلى 5: الدرجة الأولى تعني عدم الاستعداد، أما الدرجة الخامسة، فتعني قدرة دائمة. وقد حصلت جميع بلدان مجلس التعاون الخليجي -ما عدا قطر- على الدرجة الرابعة أو الخامسة”. لكن هذا المقياس لا يؤثر بطريقة مباشرة على أسباب العدوى أو طريقة الانتشار. وتظهر مراقبة ديناميات هذه العدوى غير المسبوقة والمهمة والتي لم يتم بعد تحليلها بطريقة شافية، أن الوضع ليس كارثيا بقدر ما يترجم عن سلوكيات اجتماعية، وعقلية جماعية، وطريقة معينة لممارسة الحكم.
قبل أن نقترح بعض الأطروحات حول انتشار جائحة كورونا في إسرائيل وبلدان الخليج، نذكر بأن الوباء السابق لفيروس كورونا -أي متلازمة الشرق الأوسط التنفسية- والذي كان أقل انتشارا بكثير، ظهر في المملكة العربية السعودية وحلّ خاصة في الشرق الأوسط. وقد كانت الحالة الأولى لرجل سعودي يبلغ من العمر 60 سنة، توفي في يونيو/حزيران 2012 بعد أن دخل المستشفى بسبب التهاب رئوي حاد وفشل كلوي. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن 80% من الحالات المذكورة لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية كانت في المملكة العربية السعودية. ويبدو أن مصدر هذا الفيروس كان أيضا الحيوان، وهو في هذه الحالة الناقة. وبعد ذروة في 2014، بقيت المتلازمة مزمنة خاصة في السعودية، حيث باتت أقل عدوى لكن بتداعيات أكثر خطورة.
مجتمعات مقسومة إلى شطرين
نلاحظ أن مجتمعات الخليج وإسرائيل منقسمة إلى شطرين. ولبلدان الخليج تركيبة اجتماعية خاصة، إذ يمثل العمال المهاجرون فيها -سواء كانوا رجالا أو نساء- بين 50 و90% من السكان. وهؤلاء هم أولى وأهم ضحايا الوباء2.
تظهر الدراسة الوبائية الأولى التي أجريت في عُمان أن ثلثي المصابين هم عمال مهاجرون. أما في إسرائيل، فقد طال الانقسام بين المتدينين الأرثوذكس وبقية المجتمع معظم دوائر الحياة الاجتماعية. صحيح أن معظم بؤر الوباء توجد في أوساط الهريديم، لكننا نجدها أيضا في أماكن الترفيه في تل أبيب أو وسط التجمعات السكنية الفلسطينية داخل إسرائيل. وعلى غرار العمالة الأجنبية في بلدان الخليج، يعاني الهريديم من مستوى فقر وتهميش صحي مرتفع مقارنة ببقية المجتمع. وتتسبب الفوارق المادية والانقسامات الطائفية في أزمات كوفيد-19 غير مسبوقة يصعب تقييم تداعياتها.
كانت بلدان الخليج واعية بهذه المخاطر، لذلك اتخذت خلال السنوات الأخيرة عدة تدابير للتقليص من عدد العمال المهاجرين، لكنها لا تستطيع الاستغناء عنهم دون أن تضع اقتصادها في خطر. يعيش أغلب العمال المهاجرين في الخليج بعيدا عن أهلهم الذين مكثوا في بلدانهم (في الهند أو في البلدان الآسيوية والإفريقية)، لكن بعضهم تمتع بإجراء لم شمل الأسرة. كما أن وصولهم للرعاية الصحية والضمان الاجتماعي محدود ويتعرض في جميع الأحوال للعديد من الشكاوى. وهم يعيشون في مساحات ضيقة وهامشية، تساهم في ظهور بؤر الوباء.
نمو متسارع وطرق عيش تقليدية
بلدان الخليج كما إسرائيل هي بلدان شابة، شهدت نموا اقتصاديا صاعقا وتحضرا متسارعا خلال العقود الأخيرة. وهي بلدان ذات مساحات متواضعة، يعيش أغلب سكانها على السواحل وفي مساحات ضيقة، بسبب تقدم الصحراء والمناخ الساخن. كما أن الكثافة السكانية في المدن مرتفعة. وتأتي البحرين في الصفوف الأمامية لترتيب بلدان العالم ذات الكثافة السكانية المرتفعة، مثلها مثل دبي والشارقة وبعض مناطق تل أبيب، لا سيما تلك التي يقطن فيها المتدينون الأرثوذكس. وقد سارعت طريقة العيش والأكل في هذه البلدان الحديثة للغاية في انتشار مرض السمنة وأمراض القلب والشرايين، وهي عوامل مشددة للإصابة بكورونا.
في إسرائيل، توجد أمثلة عديدة لحفلات زفاف ولأعياد دينية أو طائفية واسعة التي باتت بؤرا للوباء. وخوفا على غالبيتها البرلمانية، لا تستطيع حكومة نتانياهو مواجهة المتدينين الأرثوذكس، بل سمحت لهم بممارسة الصلوات الجماعية خلال هذا الحجر الصحي العام وخسرت ثقة المواطنين. كما أفسد ذلك خطة الوقاية الصحية والتوافق الاجتماعي. وهكذا رافقت انتشار فيروس كورونا مظاهرات متكررة وغير مسبوقة، حتى أن البعض يتساءل إن لم تساهم الجائحة في توحيد المجموعات وتهديد وحدة الدول.
التحركات وتكثيف التدفقات
تستند حياة واقتصاد الدول الشابة في الشرق الأوسط إلى التبادل والأسفار والتنقلات المتنامية. فقد طورت دول الخليج في السنوات الأخيرة مطاراتها وطائراتها وموانيها التجارية. كما شهدت إسرائيل المعادية لمعظم بلدان الجوار تكثيف تدفقاتها بالنسبة لمبادلاتها التجارية والسياحية. أما داخل الدول والفضاءات الحضرية، فقد شهدت التحركات تكثيفا مهما سهّل التبادل والنقاشات المختلفة... وتناقل الأمراض. ففي بلدان الخليج، تتنقل العمالة المهاجرة بين محل سكنها وعدد من الفضاءات الاجتماعية، عمومية كانت أم خاصة، في قلب المدن واقتصادها. ويشكل التنقل اليومي لسكان غير محميين بما فيه الكفاية من الناحية الصحية خطرا لكامل المجتمع، خاصة في المناطق التي يكون فيها عدد المهاجرين مهما.
كما أن التوترات التي نتجت عن حروب الشرق الأوسط -والتي تُربط عادة بضغط العمل ووتيرة المدن المتطورة- لم تحظ بانتباه كاف. لكنها تساهم في نفس الوقت في المس بمعنويات المجتمعات وفي طاقتهم على الصمود.
اتفاقيات استراتيجية من أجل اللقاح
أمضت إسرائيل والبحرين والإمارات في سبتمبر/أيلول 2020 بواشنطن اتفاق تعاون أمني. وقد كانت الصحافة منذ شهر مايو/أيار 2020 تتحدث عن دنو بين إسرائيل ودول الخليج "لمواجهة الجائحة“. ربما كان وباء كورونا مجرد ذريعة. لكن بعيد أيام من الإمضاء الذي تم على الأراضي الأمريكية، أمضت شركات إسرائيلية وإمارتية”اتفاقيات تجارية استراتيجية“حول الأبحاث على كورونا. وقبلها بشهر، قام منتج اللقاحات الصيني الضخم”سينوفارم" بإطلاق حملة اختبارات رسمية في الإمارات وفي البحرين. ولم تكد هذه الحملة تتجاوز دائرة العمال المهاجرين، وهي تمكن دول الخليج من أن تظهر كمخابر وأراض لاختبار اللقاح.
لا شك أن خطر كوفيد-19 كان موضوع نقاشات وتبادل ملفات -لا فيروسية ولا صحية بل حول وضع العالم خلال الجائحة وبعده- في كواليس ما يسمى باتفاقيات “أبراهام” التي أُبرمت في واشنطن. ولا بد من تقييم هذه المخاطر وأخذها بعين الاعتبار في ظل واقع المنطقة الجديد. فتداعيات الجائحة على أمن الدول وأنماط الحكم قد بدأت بالظهور، ففي إسرائيل مثلا، بات الجيش هو من يقود مواجهة الجائحة بعد أن فقدت الحكومة السيطرة على الوضع. وفي الشرق الأوسط، تتدخل التساؤلات السياسية في الدوائر الخاصة والدينية أكثر من أي مناطق أخرى. ويجب أن يُؤخذ تغلغلها من خلال أنظمة المعلومات الجديدة على محمل الجد، خاصة وأن الأمر يتعلق باستباق الوضع، وفق منطق الأسبقية التكنولوجية. هنا كما في مناطق أخرى من العالم، تُغير الجائحة وبعمق ممارسة السلطة وتستدعي أسئلة جديدة.
1لوحظت هذه الظاهرة في مملكات الخليج منذ شهر يوليو/تموز 2020: “تعد المملكة والإمارة الجارتان بحرين وقطر نسب عدوى هي من الأعلى في العالم، مقارنة بعدد السكان”، جون غمبرل، « Two Mideast countries have highest confirmed virus rates »، وكالة “أسوشيتد برس”، 23 يوليو/تموز 2020.
2مثال في قطر: ليث أبو رداد ومجموعة من الكتاب، « Characterizing the Qatar advanced-phase SARS-CoV-2 epidemic »