في الذكرى العاشرة: رؤى عربية متقاطعة (1)

بعض الأشياء التي تعلمتها عن كيف لا نتذكر الثورة

أطاحت الانتفاضات الشعبية التي شهدتها تونس والقاهرة وطرابلس بداية سنة 2011 برؤساء مستبدين ومبغوضين. وكان وقع هذه الأحداث كبيرا في كامل المنطقة، من المغرب إلى عمان، ومن سوريا إلى العراق. ثم أتى زمن الجمود -وكان أقل الأضرار- والقمع المتوحش والحرب والأحزان. كانت هذه الشعوب تطمح للتغيير، لكنها ورثت في أغلب الأحيان وضعا أسوأ. في سلسلة من المقالات التي ننشرها بالتشارك مع شبكة الإعلام المستقل من العالم العربي التي يشكلها أوريان 21 مع مواقع الإعلامية العربية المستقلة، يقدم عدد من الصحفيين والمختصين من أبناء المنطقة تحاليلهم وخواطرهم حول ثورات الربيع العربي وتداعياتها.
نستهل هذه السلسة بمقال لينا عطا الله، رئيسة تحرير موقع مدى مصر والتي تنطلق فيه من قراءة مشتركة لنص كتبه الفيلسوف فالتر بنيامين سنة 1940 في محاولة لإعادة النظر في الطريق الذي سلكته مصر منذ عشر سنوات. ربما لم ينته كل شيء، رغم الموت المخيم واليأس.

تظهر الصورة مشهداً من مظاهرة أو حدث احتجاجي، حيث يوجد عدد كبير من الناس يتجمعون حول دبابة. أحد الجنود يقف فوق الدبابة ويرفع يدَه كما لو كان يحمل شيئاً أو يجذب الانتباه. الأجواء تشير إلى توتر أو حالة من الحماس بين الحشود. الصورة تُظهر تبايناً كبيراً بين الأضواء والظلال، مما يضفي عليها طابعاً دراماتيكياً.

غمرني التعب عندما يصبح فعل التذكر في المتن العام شديد التماثل. الصورة نفسها. والأسئلة ذاتها. ميدان التحرير بين الامتلاء والخواء. ماذا تبقى من الثورة؟ هل تبقى أي شيء؟ هكذا تضع السؤال أمامي صحفية التلفزيون الأوروبي حالها حال صحفي الراديو الأمريكي. الكاميرا في مواجهتي وكذلك الميكروفون، الأولى تعميني والثاني يعنفني، ولكنهما لا يبحثان عن اجاباتي. الموضوع منتهي وأنا مجرد كومبارس يؤكد على انتهائه.

في محاولة لتجاوز دور الكومبارس، أحاول أن أسحب محاورتي الى منطقة ميتافيزيقية ما وأحدثها عن السحر. السحر الذي يركبنا كزي خفي ويحرك أشياء فينا دون أن نعرف، واللحظات الخلاصية التي تظهر أمام أعيننا عندما نعي بهذا الخفاء. لم تفهمني وربما تحولت في ذهنها الى نفس دروشَتها صدمات متتالية. استمتعت داخليًا بمحاولتي وما حركت عند محاورتي من تخيلات عن قواي العقلية.

احتياج للفهم مجددًا

بداية العام الماضي، دعتنا الصديقة سلمى شامل لمجموعة قراءة لأعمال فالتر بنيامين، ليس بدافع دراسة كتاباته في المطلق، ولكن بدافع مقاربتها كمنهجية للمعرفة. أصبحت لقاءاتنا الأسبوعية بمثابة تجسيد لما قد يدعونا له بنيامين أو حسبما فهمت: كيف نستحضر مقطع ما من التاريخ لتلبية احتياجات الحاضر؟ أصبح استحضار ما كتبه بنيامين محاولة لتلبية احتياج ما للحظة: احتياج للفهم مجددًا، أو محاولة الفهم بشكل مختلف، أو تهريب الفهم من عملية انتاج المعرفة المهيمنة، بما يحتويه الفهم من فعل التذكر. تستوقفني أحيانًا حالتنا: جماعة من المهنيين، أكاديميين وكتاب وفنانين وصحفيين، غارقين في فك شفرات كتابات جاءتنا من أربعينيات القرن الماضي، مترجمة من لغتها الأولى ونقرأها معظمنا بلغتنا الثانية. أنجذب إلى طاقة محاولة الفهم هذه، بما فيها من مشاعر الارتباك في أحيان ونشوة الوصول لمعنى في أحيان أخرى. تبدو لي من أفضل محاولات التعامل مع الأزمة: كيف نكون ذوات سياسية في واقعنا الحالي؟ وكيف تكون سياسة ذواتنا نابعة من محاولة أصيلة للاشتباك مع الواقع بعيدًا عن سهولة المسلمات؟ وما موقع التاريخ في هذه الخريطة؟

في عام 1940 كتب بنيامين نص عن مفهوم التاريخ مكون من 20 مقطع، قرأناهم سويًا مقطعًا مقطعًا عبر عدة جلسات. كتبه قبل هروبه من فرنسا وقت تسليم اليهود للغستابو الألماني وانتحاره. أرسل نسخة من النص لصديقته حنا أرندت ليس بغرض النشر، ولكنها ستعبر بهذه النسخة فيما بعد الحدود الفرنسية الإسبانية لتزور قبر صديقها على ضفاف البحر المتوسط وتسلم نسخة النص لأصدقائه لتصل لثيودور أدورنو الذي يتولى نشره لاحقًا.

قد يلبي نص «عن مفهوم التاريخ»، بين أشياء أخرى، احتياجنا للإجابة عن سؤالين: كيف نجعل نظرية الزمن أكثر مواءمة لواقعنا الحالي ولالتزاماتنا السياسية؟ وكيف يمكننا التعاطي مع الماضي بشكل سياسي وليس فقط تاريخي؟

لجنة المعادي الشعبية

الأساسيات في مفهوم بنيامين عن التاريخ تبدأ من التحرر من استهلاك التاريخ كتطور خطي للأحداث والنظر للوقت كشيء متجانس ومتراتب وخاوٍ، واستبدال ذلك بعملية لاستحضار مقاطع بعينها تتقاطع مع حاضرنا. تَظهر لنا هذه المقاطع في لحظات الاحتياج، لحظات الأزمة، وهنا يصبح تقاطع الماضي مع الحاضر لحظة مكثفة، لحظة سياسية. كنت أعيد قراءة نص بنيامين عندما استرسل صديق في الحديث عن لجنة المعادي الشعبية للحفاظ على مكتسبات الثورة التي تكونت في 2011. استوقفني تذكره لهذه اللحظة وسألت نفسي: كيف أثرت هيمنة مركزية السردية الخطية لتاريخ الثورة على هذه الهوامش، هذه المقتطفات والشظايا التي لم نقف عندها كثيرًا؟ في انتصاريته، هناك شيء من الشاعرية في اسم «لجنة المعادي الشعبية للحفاظ على مكتسبات الثورة». وفي هذه الشاعرية، هناك حس سياسي قد يعيد تنظيم فهمنا للسياسات الصغرى المكونة للمشهد الثوري الكبير. ناهيك عما هي اللجنة فعليا، ومن هم أعضاؤها، وكيف يعملون، وما هي أهدافهم، وما هي علاقتهم بحي المعادي في ثورة هيمن ميدان التحرير على مخيلتها الجغرافية؟ وما الذي يمكن أن تقوله لنا حالة هذه اللجنة عن علاقة المحلي بالسياسي وما هي أفق وحدود المحلي في الممارسة والكينونة السياسية؟ وما الذي كان يمكن أن يحدث إن أفسحنا مساحة السرد التاريخي لحدث الثورة لتضم قصة اللجان الشعبية بشكل أكثر جدية؟

فتح غرف الماضي

تبدو لي لجنة المعادي الشعبية للحفاظ على مكتسبات الثورة كانحراف لتاريخ 2011 الملحمي كما نعرفه، وكما لقنّاه لأنفسنا. يحدثنا بنيامين عن الانحرافات والطرق التي لم نسلكها ويجعلنا نتساءل عن الإمكانيات الكامنة فيها. عند بداية الثورة وانسحاب قوى الأمن أمام حالة التصميم الثوري، ظهرت لجان شعبية من نوع آخر في المناطق المختلفة، هادفة بشكل أساسي الى سد الفجوة الأمنية ولعب دور الدولة لحماية المناطق. ظهرت الاختلافات السياسية بمكوناتها الطبقية والجغرافية والجندرية في جسم هذه اللجان، وطاف على السطح مشهد القوة عندما يكتسبها الأشخاص أو يسترجعونها من الدولة. أصبحنا أمام استعراض لهذه القوة كل بحسب ما يمتلكه من أداة: أبناء حي الزمالك يقفون عند مداخل حيهم بالعوامات والأسلحة الآلية، وأبناء امبابة ينتظرون بعصي الشوم وبأجسام رجولية ضخمة. تحولت اللجان هذه لهامش لا نلتفت له كثيرًا في طريقنا من وإلى الميدان، ربما لأنه يربكنا أو يخرجنا عن الحالة المنسجمة المتطهرة التي فرضت نفسها على الميدان على اختلاف مكوناته هو أيضًا. كان هناك إيهام بالانسجام حتى على مستوى خطوط الرفاقية والعداء داخل الميدان. كل شيء خارجه بات مربكًا، ربما لما يمثله من التعقيد الأصيل للواقع. قد تتشابه حالة فرض انسجام ما على الواقع هذه مع ما حاول القيام به صديقا بينامين القريبان، ثيودور أدورنو والمؤرخ غيرشوم شولم عندما غيّبا رسائله للكاتب المحافظ كارل شميت، والذي عبر بنيامين عن فضوله واهتمامه بمشروعه الفكري مرارًا وتكرارًا في مرحلة ما من حياته. تقول لنا محاولات قراءة هذا التقرب (بين بنيامين وشميت) أن الأمر يعود إلى البعد اللاهوتي في فكر بنيامين، وهو البعد الذي خلق مسافة بينه وبين المادية التاريخية التقليدية. بعيدًا عن وساطة أدورنو وشولم لتقديم بنيامين لنا كمفكر ثوري وتقدمي متجانس، أتساءل عن سر هذا التقرب، وما يمكن أن يوحيه لحلحلة ثنائية الثورة والثورة المضادة، الثنائية التي تبحث عن أريحية سياسية في خلق حدود خيالية بين الأشياء. ماذا لو لم يكن هناك مساحة فاصلة بين العالمين؟ أين نقف وكيف نشتبك؟

في استحضار اللجان الشعبية المحلية على اختلاف أشكالها، تعجبني حالة فتح غرف الماضي التي لم تُفتح. يشير بنيامين لهذه الغرف كحاويات للمستقبل يحب علينا تخليصها. يستدعي الأمر التوقف عن النظر الى الماضي كصورة أبدية، ولكن كمجموعة من التجارب.

أجلس على الجانب الآخر من المكالمة منتظرة السؤال الصحفي الحتمي الذي سننهي به الحوار أخيرًا: هل انتهت الثورة؟ الإجابة بنعم قد تخلصني من هذا المأزق المتكرر. والإجابة بلا قد توحي بسذاجة سياسية من المستحيل ألا أكون تجاوزتها بعد كل هذه السنوات. أجد مزيجا من الانضباط الفكري والتحرر الفكري في الوقت نفسه، في دعوة الابتعاد عن منطق اكتمال السردية التاريخية ومقاربة التاريخ كشيء غير مكتمل. أحاول أن أجد كلمات تصف استمرار الماضي عبر فعل التقاطه في الحاضر، في أوج الأزمة، في قمة الشعور بالانسداد، وأن الفعل السياسي يكمن هنا. لا أعرف إن كانت ستستخدم كلماتي في النهاية. فعشرية الثورة تأتي كنُصب زمني صلب، نُصب تذكاري يعنوِن زوال الحدث وينعيه.

ربما علينا أن نتجاوز العشرية هذه وكل العشريات.