اللاجئون السوريون في لبنان

سوريا ومواصلة الهرب من الخدمة العسكرية

رغم عودة بعض السوريين إلى منازلهم، يواصل العديد من الشباب التوافد إلى لبنان المجاور هربا من الخدمة العسكرية، وهي إلزامية للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عاماً. وخوفا من الاعتقال، فهم لا ينوون العودة إلى ديارهم.

“أتيت إلى لبنان لأنه خياري الوحيد”، يقول ربيع، 28 عاماً، الذي تواصلنا معه عبر تطبيق محادثة معروف، في وقتٍ تعيش فيه بيروت حجراً صحياً آخراً. هذا الشاب أصيل مدينة السَّلَميَة قرب حماة، وقد غادر سوريا في عام 2017 مباشرة بعد إنهاء دراسته، لتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية داخل صفوف القوات المسلحة السورية.

بموجب الدستور السوري، يُنادى على الشباب للخدمة العسكرية لفترة تتراوح بين 18 شهراً وعامين، مع بعض الاستثناءات. تُمنح الإعفاءات لأسباب طبية، ولابن الأسرة الوحيد (حتى لو كان لديه أخوات)، وأيضاً للطلاب الذين يمكنهم تأجيل أداء خدمتهم العسكرية إلى غاية تخرجهم. بيد أن النظام منع تكرار السنة النهائية من الكلية أكثر من ثلاث مرات، منذ أن أدرك أن الطلاب يفشلون عمداً بغرض تأجيل وقت التحاقهم بالجيش.

إنها حيلةٌ يعرفها مهدي جيدًا. لقد كرّر هذا الدمشقي ذي الـ 26 ربيعاً عامه الرابع في الهندسة المعمارية من أجل “ربح الوقت” وفق تعبيره، قبل الذهاب إلى لبنان، حيث لا يتخيل أي مستقبل له أو لأبناء بلده، إذ يواجه لبنان أزمة اقتصادية ومالية فاقمت منها الإجراءات الصحية المتخذة لمكافحة كوفيد-19.

تحت ظلال الأَرز

يقول مهدي متأسفاً: “لقد غيّر العام الماضي كل شيء. كان لدي عمل، وكنت أكسب أجراً جيداً في انتظار أن أتمكن من المغادرة إلى أوروبا. أما الآن، فليس لدي ما يكفي من المال للعيش من يوم لآخر، وبات من العبث التفكير في السّفر”. ثم يُضيف أنه كان حتى قبل الأزمة يعاني من العنصرية والتمييز بشكل يومي.

اعتباراً من عام 2015، منع لبنان تسجيل “اللاجئين” الجدد لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. ووفقاً لوكالة الأمم المتحدة، فإن أقل من ربع السوريين المقيمين في لبنان في عام 2019 يتمتعون بوضع قانوني.

إذا نجح بعضهم في الحصول على تأشيرة طالب أو على الإقامة لأن أفرادا من أسرهم يحملون الجنسية اللبنانية، فإن آخرين يخضعون لنظام الكفالة، على غرار رابح الذي يرى أن هذا الوضع يعرضه لمزاج الكفيل اللبناني المتقلب ويقيّد من حريته. يصرّح رابح: “أريد أن أعيش في مكان تُحترم فيه حقوقي”، متألماً من عدم توفره على جواز سفر، كما هو حال العديد من الفارّين من الخدمة العسكرية والذين يتجنبون المؤسسات السورية -خاصة السفارات- كتجنب المرء للطاعون.

ورداً على سؤال حول إمكانية عودته إلى سوريا، يردّ رابح بشكل قاطع أن قدماه لن تطآ مجددا بلده الأصلي، طالما أن الخدمة العسكرية إلزامية وأن الطريقة الوحيدة لتفاديها هي ضريبة الإعفاء “بدل”. وتتراوح قيمة “بدل” المشتقة من كلمة “بديل” بين 7 و10 آلاف دولار أمريكي، وتعتمد قواعد تطبيقها على مزاج المسؤولين ومدى ميلهم للارتشاء.

هذا المبلغٌ يكاد أن يكون مستحيلاً بالنسبة لمعظم الشباب السوريين في لبنان الذي بات أكثر من نصف سكانه تحت عتبة الفقر منذ العام الماضي. بيد أن المسألة بالنسبة لرابح هي أيضاً قضية مبدأ: “لا أريد أن أدفع (مالاً) للحكومة لأنهم يستعملونه في اقتناء الأسلحة ولقتل الناس”. ونحن على أبواب الذكرى العاشرة لبداية الصراع في سوريا، وصل عدد القتلى 387 ألف شخص، من بينهم 117 ألف مدني.

عائق لإعادة الإعمار

شرعت السلطات اللبنانية منذ عام 2017 في الضغط على نظام دمشق للانطلاق في إعادة اللاجئين إلى وطنهم. وبالفعل، سمحت عمليات الإعادة “الطوعية” نصف الشهرية -بين أبريل/نيسان ويناير/كانون الثاني 2019- بعودة 10 آلاف لاجئ إلى سوريا، وفقاً وكالة فرانس برس. بيد أن تقريراً لـهيومن رايتس ووتش صدر خلال نفس السنة كشف أن هؤلاء اختاروا العودة “نتيجة للسياسات القاسية والظروف المتدهورة في لبنان”.

وفي تصريح لأوريان 21، أكّد خضر خضّور، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، أن “النظام السوري لا يتوفر حالياً على الإمكانات الاقتصادية والأمنية لاستقبال العائدين. كما انه لا يملك إرادة في ذلك، لأنه يستعمل اللاجئين كورقة للتفاوض مع المانحين الأجانب”. أمام سيطرة الحكومة على حوالي 70٪ من مساحة البلاد، لا يعتقد خضر خضّور أن إحجام المنفيين عن العودة إلى البلاد ينبع بشكل أساسي من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، بل من قبضة جهاز الأمن التابع للنظام على المجتمع.

نظامٌ دفع جورج ثمنه، إذ أمضى ست سنوات وهو يلعب لعبة القط والفأر مع السلطات السورية لأنه لم يستجب في الوقت لموعد تجنيده الإلزامي، قبل أن يقرر عبور الحدود اللبنانية بشكل غير قانوني سنة 2018. في نهاية شهر مايو/أيار من كل عام، يتم إرسال أسماء الفارّين إلى نقاط التفتيش المنتشرة في المدن والطرق في سوريا. بعدها، يصبح التنقل محفوفًا بالمخاطر لمن فضلوا -أمثال جورج- الفرار على حمل السلاح. خيار طبيعي في نظر جورج، لأن شقيقه الأكبر أمضى ثماني سنوات في الخدمة العسكرية.

أملاُ في ألا يضطر إلى العيش في الظل، انتهى المطاف بجورج في بيروت، حيث يعيش منذ ذلك الحين بشكل غير قانوني. لا يزال رأيه متبايناً حول تجربته في لبنان: “إنه نوع مختلف من الضغط، [...] لا أعرف ما سيحصل لي إذا تم القبض علي وتمت إعادتي إلى سوريا”، حيث يخشى الأسوأ: السجن أو الجيش.

منذ مغادرته سوريا، تغير الوضع. فاتفاقيات المصالحة، التي وضعها النظام في المناطق التي استعاد السيطرة عليها تسمح تقنياً للفارين من الخدمة العسكرية والمتمردين بطي صفحة الماضي مع السلطات الحكومية. لكن على أرض الواقع، تستنكر جمعيات كالمرصد السوري لحقوق الإنسان عمليات السجن التي تعرض لها عدد من الموقعين على الاتفاق المعني، بل وحالات وفاة خلال الاعتقال.

إلى جانب قلة موارد القوات المسلحة السورية وانخفاض حدة الاشتباكات، يرى خضر خضّور أن اتفاقيات المصالحة ساهمت في أن “صناع القرار في دمشق لم يعودوا في حاجة إلى ممارسة نفس الضغط على الشباب كي ينضموا للجيش”، موضحاً أنه تمت خصخصة النظام الأمني في سوريا التي شهدت أيضاً ارتفاعا في عدد المجموعات شبه العسكرية. “تدفع هذه المجموعات أكثر بكثير من الجيش مقابل الخدمة العسكرية، وهو ما يجعل الكثير من الشباب يفضلون الانضمام لهذا النظام البديل بدلاً من النظام الرسمي”. من المستحيل تحديد حجم هذه الظاهرة بحسب خضّور، بيد أن مقالًا لروييترز نُشر على الموقع الإلكتروني لصحيفة هآرتس الإسرائيلية اليومية1 يوضح أنه يتم تجنيد الشباب السوريين من قبل مُناوِلين روس، لإرسالهم للقتال في ليبيا مقابل أجر يتراوح بين 830 و 1250 يورو شهريًا. بديلٌ مربح مقارنة مع الخدمة العسكرية، ولكنه ليس أكثر جاذبية بالضرورة لأولئك الذين يريدون تجنب القتال بأي ثمن.

مع القيود الحدودية التي فرضتها الأزمة الصحية، والمبالغ الباهظة التي يطالب بها المهربون، والوضع الكارثي في لبنان، ما هي الخيارات المتبقية للشباب الذين يرفضون ارتداء الزي الرسمي؟ في نظر خضر خضّور، يرتبط هذا السؤال ارتباطًا وثيقًا بمسألة إعادة إعمار سوريا، التي دمرتها عشر سنوات من الحرب التي لا تزال نهايتها معلقة. ويلخص الأمر قائلاً: “إذا كان النظام يريد إعادة البناء، يجب عليه أن يحقق هدفًا يتمثل في إغراء الناس بالعودة. وإذا أراد تشجيعهم على ذلك، فعليه تعزيز إعادة الإعمار”. دائرةٌ فاضلة، تجعل إلزامية الخدمة العسكرية تنفيذها أمراً مستحيلاً في الوقت الحاضر.

1« Russian Hiring of Syrians to Fight in Libya Accelerated in May, Sources Say »، 7 يونيو/حزيران 2020.