تدخل أزمة سد النهضة مراحلها النهائية، فإما أن تبدأ أثيوبيا في المرحلة الثانية لملئ المياه خلف السد في يوليو/تموز القادم وبدون اتفاق مع دول المصب، لتمنع بذلك تدفق مياه النيل الأزرق الذي يمثل معظم إمدادات النهر. ما سيسبب جفاف مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية في مصر والسودان. وإما أن تتوصل الدول الثلاث إلى اتفاق ملزم، تقوم من خلاله أيضا إثيوبيا بملأ السد لكن على مراحل أطول، مما يقلل تداعيات حجز المياه خلف السد. وقد تطول فترة الملأ في هذه الحالة حتى سبع سنوات، وهو مالا ترغب فيه سلطات أديس أبابا.
لكن مفاوضات كينشاسا التي وُصفت بمفاوضات الفرصة الأخيرة وصلت إلى طريق مسدود، وتتلاشى آمال التوصل الى اتفاق مع مرور الوقت خاصة مع التصريحات التي أدلى بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والتي تُعتبر الأكثر جرأة منذ بداية المفاوضات. فقد أعلن الأخير أثناء زيارته للمجرى الملاحي لقناة السويس إثر حل ازمة جنوح السفينة “أفرغرين”:“لن يستطيع أحد اخذ نقطة مياه من مصر، وإلا فستكون هناك حالة من عدم الاستقرار في المنطقة [أي الشرق الأوسط] لا يتخيلها أحد”.
رهانات داخلية
تداعيات هذه المفاوضات بالنسبة للدول الثلاث ليست فقط زراعية أو بيئية، بل كذلك سياسية، إذ أن أوضاعها الداخلية أكثر هشاشة مما يظن الكثير من المراقبين. فحكومة الرئيس الأثيوبي آبي أحمد تتعنت في المفاوضات لتقوية وضعها في الانتخابات التشريعية المزمع انعقادها في الخامس من يونيو/حزيران 2021، وسط أجواء حرب أهلية في إقليم تيجراي، وأعداد كبير من النازحين في الدول المجاورة. ويتزامن ذلك مع مناوشات حدودية مع السودان، تحاول فيها الأخيرة استرداد مناطق حدودية استولت عليها ميليشيات القبائل الأثيوبية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
تحاول الخرطوم هي الأخرى لملمة أوضاعها الداخلية، فمازالت الحكومة المؤقتة تصارع في فترة انتقالية لبناء مناخ مدني يخرج عن سيطرة الجيش والميليشيات المسلحة، وحلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، إذ تحاول الحكومة المدنية السودانية الهروب بكل الوسائل من هاوية الإفلاس الوشيكة، بعد أن أعلن شطب السودان من قائمة “الدول الراعية للإرهاب”.
تبدو مصر أكثر استقرارا، لكن الفشل في ازمة سد النهضة، لن يشفع لنظام عبد الفتاح السيسي في الاستمرار، رغم محاولاته الحثيثة إيجاد شرعية شعبية من خلال انجازاته الهائلة -مثل حفل نقل المومياوات من متحف القاهرة إلى متحف الحضارة المصرية بالفسطاط-، بغض النظر عن الحكم القمعي الممنهج الذي يمارسه النظام، الدخول في صراع مسلح الآن هو آخر ما يريده الحكم العسكري.
إمكانية الحل العسكري
تم التلميح مرارا خلال الأسبوعين الماضيين بالحل العسكري، سواء من قبل الرئيس المصري، او خلال تصريحات مسئولين سودانيين. في الوقت التي تجرى فيه مناورات عسكرية سودانية مصرية، ذات أهداف هجومية، على حد تعبير رئيس الأركان المصري في الرابع من أبريل/نيسان، الذي زار السودان للمرة الثانية خلال مدة قصيرة، مرافقا لزيارة علنية لرئيس المخابرات العسكرية المصري، لإجراء مباحثات مع نظيره السوداني. ورغم كون كل هذه التحركات ذات طابع عسكري، إلا أنها لا تعدو تلويحا علنيا باحتمالية التدخل العسكري، وهو ما يجعل الاحتمال بالأقدام على عمل عسكري أبعد مما تعطيه انطباعات التحركات المصرية السودانية. خاصة وان الجانب السوداني يبدي تململا من مجاراة التشدد المصري منذ بداية الأزمة، وتحاول حكومته المدنية تجنب التلويح بالخيار العسكري، او حتى نفي ذلك الخيار بالكلية.
القيام بضرب السد عسكريا سيحول إثيوبيا الى عدو صريح لكلا الدولتين. ربما تنجح العملية العسكرية في تدمير السد، وتدفق مياه النهر إلى كل من السودان ومصر، لكنه لن يمنع أثيوبيا من حجز المياه مرة أخرى وبشكل دائم، وعندها ستظل أثيوبيا متحكمة في إيرادات النهر. كما تُستبعد أي عمليات تدخل واسعة تقوم بها القوات السودانية والمصرية في إثيوبيا، لتأمين واردات نهر النيل. لأسباب لوجستية وطبوغرافية بحته، سيستحيل على أي قوات نظامية التعامل مع الوضع في الهضبة الاثيوبية، خاصة مع وجود ظروف ديموغرافية شديدة التعقيد. فضلا عن عدم الاستعداد الدولي للسماح ببؤرة جديدة تهدد أمن القرن الأفريقي.
إثيوبيا تتعاون بشكل أساسي مع جارتها الساحلية إريتريا في كل معاركها، وتعتمد عليها كواجهة بحرية على خليج عدن ومضيق باب المندب، الذي تمر منه سفن التجارة العالمية والنفط لتعبر من قناة السويس إلى أوروبا. عدم الاستقرار في أثيوبيا وأريتريا سوف يؤثر بشكل مباشر على أمن الممر المائي الهام، الذي يعتبر مهددا أصلا بسبب الحرب في اليمن والتدخلات الإيرانية. كما أن اشتعال حرب في دولة يبلغ تعدادها السكاني أكثر من 112 مليون نسمة، ينذر بأزمة دولية كارثية.
تعتمد مصر على مياه النيل بنسبة 97% لسد احتياجاتها المائية التي تقدر ب 68 مليار كيلو متر مكعب سنويا، يأتي معظمها (70% الى 80%) من الهضبة الأثيوبية. وفي حالة البدء في الملء الثاني للسد الإثيوبي في يوليو/تموز 2021، سيدفع ذلك الملايين من العمال الزراعيين وأسرهم إلى البطالة والنزوح. هذا بشكل مباشر، إلا أنه يجعل النظام المصري في وضع غير مستقر بالمرة، وهو نظام يعتمد بشكل أساسي على القمع في إطار دولة عسكرية بوليسية، مما يجعل وضعها هشا للغاية أمام أي ازمة داخلية تواجهها. وبالتالي فلا يمكن استبعاد قيام النظام المصري، بإجراءات استثنائية في حالة استنفاذ جميع المساعي الدولية.
تداعيات دولية
يجب التأكيد أن عدم استقرار الدولة المصرية لن يكون محبذا في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية. فرغم الانتقادات التي توجهها إدارة الرئيس بايدن للنظام المصري بشأن أوضاع حقوق الإنسان والحريات في مصر، إلا أنها مازالت تؤكد على استمرار المساعدات لدعم استقرار مصر، كونها حليفا استراتيجيا للولايات المتحدة. كما تعتمد اسرائيل ودول الخليج على استقرار النظام المصري، كأحد الدعائم الهامة في مواجهة المد الإيراني والتركي في الشرق الأوسط.
تحاول الإدارة الأمريكية هذه المرة بجدية دبلوماسية أكثر حرفية في تعاملها مع الملف، لكنها لم تسفر حتى اللحظة عن أي تقدم يذكر، بعد فشل الإدارة السابقة للرئيس ترامب، في استخدام نفوذها لإجبار الجانب الإثيوبي على اتفاق قانوني ملزم.
تبدو أوروبا في نفس الوقت مشغولة بمشاكل أهم، كالنفوذ الروسي والصيني في شرق أوروبا، وأزمة الخروج البريطاني من الاتحاد، وخاصة أزمة جائحة الكوفيد-19 الثقيلة على شعوبها واقتصادها. ما يجعل أزمة سد النهضة تبدو بعيدة وهامشية. وهي لا تدرك أن هذه الأزمة في دولة مثل مصر يبلغ تعداد سكانها ما يقرب من 101 مليون نسمة سوف تؤدي إلى نزوح ملايين المهاجرين إلى أوروبا وسيؤدي ذلك إلى وضع أكثر صعوبة بكثير من الذي شهدته البلدان الأوروبية مع أزمة المهاجرين السوريين. وحتى ان لم تكن اوروبا كلها معنية بالازمة، فإن هناك دولتين على الأقل يجب عليهما تحمل المسئولية المباشرة، وهما إيطاليا وفرنسا.
تشارك شركة ساليني امبرجيلو الإيطالية في بناء السد باستثمارات بلغت 4.8 مليار دولار. استثمارات مليارية كهذه لم تمنع الحكومة الإيطالية من إطلاق تصريحات معارضة لبناء السد بين الحين والآخر! فالعلاقة بين مصر وإيطاليا تبدو متضاربة، إذ يقوم النظام المصري بصفقات مليارية لشراء السلاح الإيطالي دون فتح ملف اختطاف ومقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني على يد الأمن المصري سنة 2016.
من جهتها، تستثمر شركة ألستوم الفرنسية في بناء الأنظمة الهيدروكهربية للسد الإثيوبي، مما يجعل فرنسا تقف على الحياد وعلى نفس المسافة من دول الأزمة، على حد تعبير سفيرها في القاهرة ستيفان روماتيه، رغم أن القاهرة تعتبر زبونا هاما للسلاح الفرنسي واستقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للسيسي في زيارة رسمية بباريس في ديسمبر/كانون الأول 2021.