مصر

شركة الحديد والصلب، ذاكرة تمحى

الثلاثاء الأول من يونيو/حزيران 2021 توقفت شركة الحديد والصلب في التبين بحلوان، التي انطلقت في يوليو/تموز 1958، قبل أن تكمل عامها الثالث والستين بأسابيع. لكن تصفيتها تتجاوز في معناها مجرد التخلص من مشروع خاسر لأسباب اقتصادية. فقد مثلت الشركة خلال العقود الستة التي ظلت فيها أفرانها مشتعلة ذاكرة للمجتمع المصري، حيث كانت دائما في قلب كل التحولات التي مرّ بها.

Keem Ahmed/Shutterstock

لم يكن إنشاء شركة الحديد والصلب المصرية مجرد إضافة شركة جديدة للشركات التي أنشئت في تلك الفترة. هذه المؤسسة التي يبدأ عملها من خام الحديد حتى المنتج النهائي، كانت وثيقة الصلة بالمشروع السياسي الاقتصادي لمصر في ذلك الوقت. فالاستقلال السياسي والاقتصادي الذي كانت تسعى له مصر في تلك الفترة استدعى ضرورة الاعتماد على الصناعة المحلية، وخاصة صناعة الحديد والصلب والتي كانت تعد صناعة مغذية لأغلب الصناعات.

ارتباط شركة الحديد والصلب بالصراع من أجل التحرر الوطني والاستقلال، سياسيا واقتصاديا، شكل جانبا هاما من شعور عمال الشركة تجاه عملهم، فقد تحدث العمال دائما بفخر عن دورهم في حرب يونيو/حزيران 1967، سواء أولئك الذين كانوا يقضون فترة تجنيدهم على الجبهة، أو من كانوا في العمل في الشركة، إذ اعتبروا المهمتين متساويتين. ويحكي عمال قدامى في الشركة في لقاءات عن تطوع عمال الشركة للعمل بدون أجر في العطلات لدعم المجهود الحربي، وعن تحايلهم على نقص قطع الغيار بتصنيعها في الشركة، حتى لو بجودة أقل، وعن إبداعات مهندسي الشركة في ابتكار طرق لإصلاح المعدات المعطلة، ورفع مستوى الإنتاج خلال الحرب، وقيام العمال بمهام لم تكن تطلب منهم.

المواقف الوطنية لعمال الحديد والصلب لم تقتصر على وقت الحرب، والتي كانت تتفق مع التوجهات العامة للسلطة، ولكنها امتدت لوقت السلام، حيث عارضت النظام. ففي عام 1980، خلال زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق نافون لمصر بناء على دعوة الرئيس المصري آنذاك محمد أنور السادات عقب إبرام معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل، كان ضمن جدول زيارته لمصر زيارة مجمع الحديد والصلب بالتبين. لكن عددا من القيادات العمالية في الشركة بادروا إلى إصدار بيان يرفضون فيه هذه الزيارة وكافة أشكال التطبيع مع إسرائيل، وهو ما اضطر اللجنة النقابية بالشركة إلى إعلان رفض الزيارة التي ألغيت بالفعل بعد الضغط العمالي. وقد ظل هذا الموقف محل فخر لعمال الحديد والصلب منذ ذلك الوقت، فرغم المزاج الشعبي المعارض لاتفاقية السلام والتطبيع مع إسرائيل، كان هذا أول موقف فعلي يتخذ في مصر ضد التطبيع.

في قلب المجتمع العمّالي

ارتباط العمال بمقر الشركة لم يكن فقط كونه مقرا للعمل، بل كذلك لبعده الاجتماعي والسياسي، إذ كان مقابل العمل ليس مجرد أجر يتقاضاه العامل، ولكن حياة كاملة له ولأسرته. فقد كانت الشركة هي النواة التي تأسست عليها مدينة الصلب السكنية، والتي ولّدت مجتمعا بأسره. فالعمل هناك كان يعني أيضا حق العامل في الحصول على سكن تابع للشركة، في مدينة جيدة التخطيط، وتتوافر بها كافة المرافق والخدمات، بحيث كانت تعني للعامل ضمان مستوى اجتماعي جيد له ولأسرته مدى الحياة. فالعامل كان يتخرج من مدرسة التلمذة الصناعية التابعة للشركة، ليلتحق بالعمل بعدها مباشرة، وحتى إذا التحق بالتجنيد، يكون حقه في التوظيف محفوظا بمجرد انتهاء فترة تجنيده. ويظل مستقرا في عمله حتى الإحالة للتقاعد عند سن الستين، حيث ينال تقاعدا كريما بدخل لا يقل عن راتبه في الشركة. كما يمكن أن ينخرط العامل وأعضاء أسرته في النادي الرياضي التابع للشركة، والحصول على الرعاية الصحية له ولأسرته من توفير الشركة.

هذا ما يمكن أن يفسر مواقف العمال خلال الاحتجاجات التي نظموها للمطالبة بحقوقهم وأبرزها اعتصام أغسطس/آب 1989، والذي أعلن العمال فيه الاعتصام مع استمرار العمل، وتناوب الورديات الثلاث على الاعتصام والعمل. وكان الهدف من الاعتصام المطالبة برفع الحوافز كمطلب رئيسي وكاد ينتهي بالاستجابة لمطالب العمال، ولكنه تطور بعد محاولة الأمن القبض على العامل محمد مصطفى ممثل العمال في مجلس الادارة، وتدخل العمال لمنع الأمن. وقد أبرزت الصحف وقتها مفارقة زيادة معدلات الإنتاج خلال الاحتجاجات. وقد شهد هذا الاحتجاج حركة تضامن واسعة نظمها سياسيون ومثقفون من اليسار وألقي القبض على عدد كبير منهم لتضامنهم مع العمال بعد اقتحام الشركة وفض الاعتصام بالقوة، منهم محمد سيد سعيد ومدحت الزاهد وكمال خليل وهشام مبارك وعبد الخالق فاروق وآخرين.

وفعلا، فإلى جانب مشاركة عمال المصنع في معركة التحرر الوطني، فإن شركة الحديد والصلب تحمل مكانة خاصة جدا في تاريخ الحركة العمالية المصرية، إذ شهدت كباقي المواقع العمالية احتجاجات ونشاطا نقابيا، تميزت عن الكثير من مواقع العمل بأنها كانت نقطة التقاء فريدة بين العمل السياسي والعمل النقابي.

لم يكن انتماء القيادات العمالية في مصر لتيار سياسي، خاصة اليسار، باستثناء فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين. ولكن شركة الحديد والصلب كانت متميزة في هذا الصدد، إذ ضمت عشرات من القيادات العمالية التي ربطت نشاطها النقابي والعمالي بانتمائها السياسي، وكان عدد كبير من قيادات الشركة ينتمون لمنظمات اليسار الراديكالي الموجودة وقتها، مثل حزب الشعب الاشتراكي وحزب العمال الموحد تضم في صفوفها عمال قياديين من الشركة، وكذلك حزب التجمع والحزب الشيوعي المصري، فيما لم تخل الشركة من الناصريين أيضا وحتى أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من التيارات السياسية. وكانت الشركة على الصعيد السياسي نموذجا مصغرا للمجتمع تلتقي فيه كافة التيارات السياسية، يختلفون لدرجة الصراع في السياسة، ويتوحدون في العمل العمالي. وقد ترك هذا الترابط بين العمل السياسي والعمل العمالي في شركة الحديد والصلب ترك أثرا واضحا في مستوى وعي الحركة العمالية في الشركة وأدواتها.

مهد التنظيم العمالي

من بين تلك الأدوات كانت تجربة الصحافة العمالية في الشركة من أبرز تجارب الصحافة العمالية التي شهدتها مصر، وكانت النشرات التي يصدرها العمال في الشركة ويسهرون على كتابتها ومراجعتها، وكان أبرزها “نشرة الصنايعية” التي كانت تصدر في السبعينيات حتى مطلع التسعينيات، نموذجا على قدرة العمال على تطوير أدواتهم بقدراتهم الذاتية. وبالفعل لعبت الصحافة العمالية داخل الشركة دورا هاما في تنظيم العمال وتوحيدهم وربطهم بقضاياهم وتطوير الوعي الجماعي في الشركة.

كذلك كانت تجربة “لجان المندوبين” في الشركة تجربة ملهمة للديموقراطية العمالية، وهي عبارة عن دوائر واسعة من العمال المنتخبين من داخل العنابر والقطاعات المختلفة، من خارج مجلس اللجنة النقابية، يجتمع دوريا مع أعضاء النقابة لرفع مطالب العمال. وبذلك تغلّب العمال على الطابع الهرمي الجامد للتنظيم النقابي الرسمي، وأنشأوا مستوى نقابيا جديدا أكثر ديمقراطية للضغط على التنظيم البيروقراطي. صحيح أن التجربة لم تولد في شركة الحديد والصلب نفسها، بل ظهرت في شركة النصر لصناعة الكوك وشركة مصر حلوان للغزل والنسيج، إلا أن عمال الشركة تمكنوا من تطويرها وتفعيلها.

العلاقة بين العمل السياسي والعمل العمالي لم يكن في اتجاه واحد، فمثلما تأثرت الحركة العمالية في الشركة بالاتجاهات السياسية المختلفة التي تفاعلت داخل أسوارها، أثرت أيضا الحركة العمالية في السياسة بوضوح. ولعل أبرز مظاهر هذا التأثير كانت في الانتخابات التشريعية لسنة 1990، أي بعد عام من اعتصام الحديد والصلب الذي اقتحمته قوات الأمن وفضته بالقوة وألقت القبض على أعداد كبيرة من العمال. رغم هذا القمع كان تأثير العمال قويا في الانتخابات، حيث تمكن محمد مصطفى أحد قادة الاعتصام من الفوز في إحدى دوائر جنوب القاهرة التي تضم حي التنين الذي تقع فيه الشركة، أمام عزت قرني، مرشح الحزب الحاكم وقتها، وكأن المنطقة بكاملها كانت تنتصر لعمال الحديد والصلب وتتحدى السلطة التي فضت الاعتصام. واللافت أن هذا القائد نفسه بعد تراجعه عن دوره العمالي وانضمامه للحزب الحاكم، لم يتمكن من الفوز في الانتخابات في أي جولة تالية، في عقاب مباشر من العمال لانقلابه عليهم.

هذا الترابط العميق بين العمل السياسي والعمل العمالي في الحديد والصلب هو ما جعل مجموعة من شباب اليسار الراديكالي ينظر للشركة كملاذ في عام 1991 الذي كان مربكا للغاية لليسار في العالم، لا سيما لليسار المصري. فعلاوة على انهيار الاتحاد السوفياتي، هذا العام هو الذي شهدت بدايته حرب “عاصفة الصحراء” التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد العراق عقب غزوه للكويت، بما مثله ذلك من هيمنة مطلقة لأميركا على المنطقة. وهو أيضا العام الذي شهد انعقاد “مؤتمر مدريد للسلام”، والذي اعتبر محاولة لتصفية القضية الفلسطينية عبر مشروع أميركي.

بوصلة اليسار

وسط كل هذا الارتباك، اعتبرت جماعة جديدة من الشباب الراديكالي شركة الحديد والصلب بما لها من تراث نضالي البوصلة الأكثر صدقا لليسار، فتوجهوا لعمالها في انتخابات النقابة عام 1991 لدعم ومناصرة قادة الاعتصام الذي كانت أنباؤه لازالت تتردد في مصر حتى ذلك الحين. وهو ما كان له تأثير ملحوظ في تكوين ذلك التيار الجديد من اليسار الذي انطلق من إعادة الاعتبار للصراع الطبقي والقطع مع الرؤية الستالينية التي هيمنت على القطاع الأوسع من اليسار المصري وقتها.

كانت آخر المعارك التي واجهها عمال الشركة هي التصفية، والتي تميزت بصلة دفينة بين لحظة ميلادها ولحظة وفاتها. سنة 1957، أي قبل عامين من افتتاح جمال عبد الناصر لشركة الحديد والصلب، كان قد أسس “الاتحاد العام لنقابات عمال مصر”. وكانت هذه هي الخطوة التي أنهى بها عبد الناصر مرحلة طويلة من تطور الحركة النقابية المصرية المستقلة عن السلطة، ليصبح بها التنظيم النقابي مجرد ذراع عمالي للسلطة. نجح بالفعل عبد الناصر في تأميم الحركة النقابية، ولكن مع هذا النجاح لم يترك في الشركات التي أسسها أي أدوات لحمايتها والدفاع عنها. حتى أن التنظيم النقابي الذي نادى بالعمل التطوعي لدعم المجهود الحربي في عهد عبد الناصر، هو نفسه الذي اصطحب السادات قادته في زيارته للقدس، فالتنظيم الذي نشأ في أحضان السلطة ظل دائما مع السلطة.

هكذا الشركات التي أسسها عبد الناصر كجزء من معركة الاستقلال لم تصمد في مواجهة الخصخصة، لأن التنظيم النقابي الذي أنشأه عبد الناصر في كنف السلطة ما كان ليقود العمال في حركة مقاومة منظمة ضد الخصخصة التي تقودها السلطة.

بلغ عدد عمال الشركة أكثر من 20 ألف عامل في نهاية الثمانينيات وحتى مطلع التسعينيات، وتقلصت الأعداد تدريجيا ليبلغ أكثر قليلا من سبعة آلاف. تراكمت ذاكرتها على مدى ستة عقود، يبددها اليوم قرار التصفية الذي لا يقف عند هدم الحجر وتشريد البشر، إنما يمتد لمحو التاريخ.