أعادت زيارة الوسيط الأمريكي في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل السفير جون دوروشيه للبنان منتصف يونيو/حزيران الماضي هذا الملف الحساس إلى الواجهة، خاصة بعد ما تسرب من لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين من مواقف فُسرت ضغوطاً أمريكية للعودة إلى المفاوضات، لكن دون شروط مسبقة، والتخلي عن «السقوف العالية» للمطالب. ملمحاً إلى أن أقصى ما قد يحصل عليه لبنان هو 860 كلم من المنطقة المتنازع عليها، وليس 2293 كلم كما كان قد طالب في جلسة المفاوضات الأخيرة مايو /أيار الماضي. ما أدى إلى انسحاب الإسرائيليين غاضبين من المفاوضات دون الإعلان عن انتهائها.
لولا الضغوط الأمريكية غير المسبوقة على لبنان، مستغلة الأزمة الاقتصادية وما يعيشه من انهيار لنظامه، لكانت احتمالات دخوله المفاوضات على ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل ضعيفة. فلبنان، المشغول بانهيار متمادٍ اقتصاديا واجتماعيا والذي يختنق بحصار أمريكي غير معلن تلاقيه دول خليجية وأوروبية معنية تاريخياً بهذا البلد، ليس من مصلحته وهو في حالة الوهن الشديد هذه، أن يدخل مفاوضات مع عدو شرس وطماع كإسرائيل، مدعوم من القوة الأشد فعالية في العالم أي الولايات المتحدة الأميركية. قوة تفرض نفسها في الوقت ذاته وسيطاً غير نزيه بينه وبين إسرائيل، في مفاوضات مصيرية.
هكذا، رضخ لبنان لضعوط واشنطن، في الظاهر على الأقل، فأعلن رئيس البرلمان نبيه بري، وتلافياً لعقوبات أمريكية عليه وعلى عائلته سبق وان لوُّح بها المبعوثون الأمريكيون إلى المنطقة، عن اتفاق إطار للمفاوضات في تشرين الأول/أكتوبر 2020، ليرمي بالملف بعدها في حضن رئيس الجمهورية الذي أدار الملف حتى توقف المفاوضات تماماً في مايو/أيار 2021.
خطأ لا يرحم
بدأ كل شيء في العام 2006، حين أرادت قبرص ترسيم حدودها البحرية مع لبنان تمهيداً لاستخراج ثروتها من النفط والغاز اللذان أظهرت الدراسات وجودهما بوفرة كبيرة في مياه المتوسط. لكن تشابك الحقول النفطية والغازية تحت البحر فرض عليها ترسيم حدودها المشتركة مع البلدان المتشاطئة معها -أي لبنان وإسرائيل. هكذا، بدأت مفاوضات الترسيم بين لبنان وقبرص في ذلك العام، حيث كلف رئيس الحكومة فؤاد السنيورة -وهو ورئيس الجمهورية الجهتان اللتان لديهما صلاحية الإمساك بهذا الملف حسب الدستور- مكتب «يو كاي اتش او» (UKHO) البريطاني للدراسات، رسم الخرائط وفقاً لوثائق خط الهدنة مع إسرائيل (1949) وخط الانتداب المرسوم العام 1923، وكل ما هو معتمد من وثائق مودعة لدى الأمم المتحدة من قِبل لبنان وإسرائيل.
بنتيجة هذه الدراسة، اعتمد المكتب البريطاني نقطة لانطلاق الترسيم، تبين لاحقاً حسب دراسات أعدّها الجيش اللبناني أنها خاطئة، كونها تنطلق من نقاط في البر أصبحت متنازعاً عليها بين لبنان وإسرائيل إثر الانسحاب الإسرائيلي العام 2000. لكن لبنان لم يتنبه لهذا الخطأ الذي يخسره من حدوده البحرية مساحة 1430 كلم مربع، إلا بعد التوقيع الأولي مع قبرص، التي تحتاج إلى توقيعين لتصبح مبرمة (توقيع رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية).
أرسل الخبراء الخرائط بعد تصحيح الخطأ إلى لجنة الطاقة والمياه في مجلس النواب ليوافق عليها فترسل بعدها إلى الأمم المتحدة ثم تعتمد رسمياً في الترسيم. لكن لبنان في تلك الفترة (أي بين 2006 و2008 ثم بين 2014 و2018) كان يمر بفراغ في مؤسساته الدستورية، لذا نام الملف في الأدراج.
بعد حكومة السنيورة التي استقالت العام 2006، وحكومة لسعد الحريري، كلف رئيس الجمهورية ميشال سليمان في العام 2011 الملياردير ورجل الأعمال نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة ما لبث أن استقالت هي الأخرى لتصبح حكومة تصريف أعمال في 2013.
بوصلة تركية
لا حديث عن حدود قبرص دون ذكر الأتراك. يقول مصدر متابع عن قرب لهذا الملف إن عدم إبرام لبنان الاتفاقية مع قبرص لم يكن فقط بسبب الخطأ المذكور أعلاه، بل لحسابات سنية واقتصادية لميقاتي، رئيس الحكومة الجديد. إذ يشرح المصدر الذي رفض ذكر اسمه كونه في منصب رسمي: “علاقة ميقاتي بالأتراك أكثر من جيدة من نقطتين: موقعه كممثل للمنصب السني الأول في الدولة اللبنانية، وثانياً لمصالحه التجارية الضخمة مع تركيا، إذ يستثمر في قطاعات مختلفة كالاتصالات والغاز والنفط، والعقارات والبنوك.”
لم تكن تركيا راضية عن تنقيب القبارصة في المنطقة التي تعتبر أن لها حقوقاً فيها، لذا أوقف ميقاتي إبرام الاتفاقية بحجة تقنية أن حكومته كانت مستقيلة العام 2013 لا يمكنها التصديق على اتفاقية من هذا النوع. لكن، يضيف المصدر، كانت هناك في الحقيقة وعود لأردوغان ان الاتفاقية مع قبرص لن تبرم.
في نفس الفترة، وقعت قبرص اتفاقية ترسيم حدودها مع اسرائيل في يوليو/تموز 2011، متجاهلة ما ينص عليه قانون البحار من وجوب تشاورها مع لبنان قبل التوقيع، خاصة إن الاتفاقية معه لم تصبح مبرمة، وترسيم حدودها معه لا يزال عالقاً.
كل الطرق تؤدي إلى نبيه برّي
بين العامين 2012 و2016 كان لبنان كما أشرنا يمر بصعوبات في تشكيل الحكومات، إضافة لفراغ رئاسي استمر سنتين، وكان مجلس النواب معطلاً. هكذا، وضع رئيس مجلس النواب نبيه بري الوحيد بين الرؤساء الثلاثة الذي كان في تلك الفترة في منصبه، يده على الملف، مع أنه لا يحق له أن يمسك به.
في العام 2012، أراد الأميركيون فتح الملف. فإسرائيل كانت تريد بدء التنقيب على الحدود المشتركة مع لبنان، وهي لا تستطيع أن تفعل إلا بعد ترسيم الحدود معه من جهة، ومع قبرص من جهة أخرى1. أرسل الأميركيون الوسيط فريدريك هوف اولًا لحل المشكل العالق والدفع الى مفاوضات. قال هوف للبنانيين إن الحدود المتنازع عليها هي 860 كلم فقط وليس 1430 كما تبين للبنانيين بعد التحديثات. ثم اقترح حلاً وسطاً سماه «خط هوف»، ومضمونه أن يكون للبنان في المنطقة المتنازع عليها (أي 860 كلم) نسبة 55٪، ولإسرائيل 45٪. ثم تُستَقدم شركة خاصة اميركية لتعمل في هذه المنطقة المشتركة، وما تحصّله تقسمه بينهما وفقاً للنسبة المتوافق عليها.
رفض لبنان هذا الاقتراح المتحيز بنظره إلى إسرائيل. ثم أرسل الأمريكيون آموس هوكشتاين الذي كرر طرح هوف، فكرر لبنان رفضه مجددا.
راوحت الأمور مكانها حتى بداية الانهيار اللبناني الذي بدأ بالحراك الكبير في 17 أكتوبر/تشرين الأول العام 2019. كثف الأميركيون ضغوطهم على حامل الملف نبيه بري والذي كان لا يزال يحتفظ به بالرغم من انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية العام 2016.
مع حالة الوهن الكبيرة التي وقع فيها لبنان، رأى الأمريكيون ان التوقيت مناسب لانتزاع «انتصار» ولو كان صورة لمفاوضات مباشرة بين اللبنانيين والإسرائيليين، يُسجل للرئيس دونالد ترامب قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، ما سيؤمن له أصوات الصهاينة الأمريكيين إذا ما كان لمصلحة إسرائيل. كان اللبنانيون ممثلين بنبيه بري، يرفضون المفاوضات في حالتهم تلك، متخوفين من أن تؤدي الى تنازلات قد لا تكون في الثروة النفطية فحسب، بل في فرض مفاوضات مباشرة على لبنان قد تؤدي الى نوع من التطبيع خاصة لو كان الملف بحوزة جهة لديها «ضعف» تجاه الأميركيين. وقد كانوا على حق كما ظهر بعد ذلك.
هكذا، أفضت التهديدات الأمريكية بالعقوبات على وزيرين سابقين أحدهما محسوب على بري، إضافة لعائلته، إلى تسريع هذا الأخير تخلصه من هذا الملف ومن الضغط الأمريكي، عبر إنجازه ما سمي «اتفاق إطار» للمفاوضات مع الإسرائيليين. كان ذلك في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2020، ثم رمى الملف في الحضن الشرعي دستورياً، أي عند رئيس الجمهورية.
خطر التطبيع
كان ميشال عون يحاول منذ زمن استعادة الملف من بري. وتقول مصادر متابعة أنه أرسل إليه موفدين كثر إلا أن بري رفض التخلي عن الملف الذي أراد أن يحقق فيه “إنجازاً تاريخياً”. ثم أبلغ عون رغبته لحزب الله الحليف المشترك بينه وبين بري، فتدخل نصر الله لإبقاء الملف عند الثاني، الأكثر تشدداً بالنسبة لإسرائيل من عون. فالرئيس بري بدأ رحلة التفاوض مع المبعوثين الأمريكيين المتعاقبين على هذا الملف منذ عشر سنوات. أي منذ مجيء المبعوث الأول فريدريك هوف وصولًا الى مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر. وتوّج مساره كمفاوض بإعلان اتفاق الإطار الذي سرعان ما كرت سبحة تبنيه رسميا من إسرائيل وواشنطن والأمم المتحدة واليونيفيل. كما تم الترحيب داخلياً -خاصة من قبل الأحزاب المسيحية- بانتقال إدارة ملف التفاوض إلى رئيس الجمهورية ميشال عون الذي بادر إلى الترحيب بالوساطة الأمريكية.
لاحقاً، تبين أن بعض هذه المخاوف بشأن «تنازلات» قد يقدم عليها فريق الرئيس عون للأميركيين تلافياً لعقوبات أو ربما طمعاً برضاهم على جبران باسيل، صهر الرئيس ومرشحه للرئاسة بعده، ليست من دون وجه حق.
فقد قام الإسرائيليون في الجلسة الأولى بمخالفة اتفاق الإطار عبر توسعتهم لوفدهم من عسكري إلى عسكري تقني سياسي، بإضافة وزير عام وزارة الطاقة الإسرائيلي والمستشار الدبلوماسي لنتانياهو، ما جعل المفاوضات تتجاوز الترسيم إلى التطبيع. وبدلاً من رفض لبنان الجلوس إلى الطاولة، لاقى عون خطوة الإسرائيليين بتوسعة الوفد من عسكري إلى عسكري تقني سياسي، بإضافة خبيرين مدنيين.
لم يتوقف الأمر هنا، فقد كاد الرئيس يقع في المحظور بإشراك موظف رسمي هو مدير عام الرئاسة في الوفد المفاوض، وكذلك ممثل عن وزارة الخارجية، حسب اقتراح صهره الوزير السابق جبران باسيل.
لكن، كان هناك موقف واضح وصارم لحزب الله عبر عنه ببيان أصدره وحركة “أمل” لنبيه بري، يحذر فيه عون من القيام بمثل تلك الخطوة، فما كان من هذا الأخير إلا أن تراجع عن إرسال الشخصيتين السياسيتين، دون التراجع عن تحويل الوفد إلى عسكري تقني بإضافة خبيرين مدنيين.
مفاوضات معلقة
أوضح أمين عام حزب الله حسن نصر لله موقفه الرسمي أكثر من مرة في خطاباته منذ بدء المفاوضات العام الماضي. وملخصه أن هذا الملف مع الدولة اللبنانية، وما تقرره الدولة نحن نعتمده. وإن كان حزب الله يحرص ألا يصدر عنه أي شيء يتعلق بهذه المفاوضات خلاف الموقف أعلاه، إلا أن المتابع لن يخفى عليه أن الحزب غير راغب بالمفاوضات، ربما لعلمه أن ميزان القوى حالياً ليس في مصلحة لبنان. وأنه الأفضل انتظار وقت قد تتغير فيه موازين القوى، ما يمكنه أن يمسك بأوراق تساعده على انتزاع حقه في ثروته دون تقديم تنازلات كبيرة لإسرائيل.
ربما هذا ما يفسر لجوء المفاوض اللبناني إلى إعلاء السقف التفاوضي عبر المطالبة بمساحة 2293 كلم مربع، أي المساحة بين الخط رقم واحد، وهو خط الترسيم الخاطئ مع قبرص، إلى الخط 29 الذي وصفه الرئيس بري بأنه “خط تفاوضي وليس حقوقي” في معلومات مسربة للصحافة. ما تسبب في استياء الإسرائيليين والأمريكيين، فردوا برفع سقف مطالبهم إلى الخط 310 الذي ينطلق من مدينة صيدا -35 كلم جنوب العاصمة بيروت. ما اعتبره الخبراء مضحكا، كون الإسرائيليين لا يمتلكون أية وثائق تثبت حقهم في تلك المنطقة في حين يملك لبنان كل الوثائق القانونية.
في الجلستين التاليتين، أصر الإسرائيليون على حصر التفاوض بمساحة 860 كلم. رفض لبنان، لكنه لم يكن قد حدّث خرائطه لدى الأمم المتحدة ليصبح من حقه المطالبة بمساحة أكبر. لذا كان يجب تعديل الوثائق عبر مرسوم يوقعه كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ليرسل بعدها إلى مجلس النواب فالأمم المتحدة. ومع أن الحكومة مستقيلة وهي لتصريف الأعمال، كان من الممكن أن يصدر الرئيس مرسوما استثنائياً كونه وقع ما يقارب المائتي مرسوم استثنائي خلال حكومة حسان دياب لتصريف الأعمال. إلا أن عون رفض توقيع المرسوم بعد ضغوط أمريكية، بحجة عدم وجود حكومة وأن الموضوع شديد الأهمية، ما يتطلب إجماعاً وطنياً!
هكذا، رفض الوفد المفاوض اللبناني، بتوجيه من الرئيس، عقد جلسة سادسة كانت مقررة “بسبب شروط مسبقة لتل أبيب لناحية حصر التفاوض على مساحة 860 كيلو مترا مربعاً” حسب البيان.
توقفت المفاوضات دون أن يعلن انتهاؤها لا إسرائيليا ولا لبنانيا. حيث أن كلا الجانبين يترقب التطورات الإقليمية والدولية التي بدأت تكتمل ملامحها من أجل اللحظة المناسبة له لاستئناف التفاوض: من انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية وتغير أولويات الإدارة الجديدة، مفاوضات الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، إلى انتخاب رئيس جديد لهذه الأخيرة، إلى تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة..
بين كل هذه المتغيرات أو أغلبها والتي حدثت في مواعيدها، وحده تشكيل الحكومة اللبنانية لا يزال معلقاً بشفاه كثيرة خارجية وداخلية، في حين أن البلاد لم يعد يعرف قعر للهاوية التي لا تزال تواصل سقوطها فيها.
1موفى يونيو/حزيران، أعلنت إسرائيل توقيع اتفاقيات تنقيب عن الغاز في المنطقة “المتنازع عليها”، بشكل أحادي.