قضية الماء في شمال أفريقيا والشرق الأوسط

مصر. القارة، قرية تواجه الفقر المائي بالطاقة الشمسية

عوّض سكان قرية القارة في الصعيد (جنوب مصر) الوقود الذي بات باهظا بالطاقة الشمسية، لضخ مياه الآبار التي ستروي مزارعهم. لكن الحكومة لا تأبه بهذه المبادرة ولا تنوي الاستثمار في ألواح شمسية للزراعة.

ألواح شمسية في قرية القارة.
مدى مصر، 25 مارس/آذار 2021.

وسط وجوه صبغتها شمس الصعيد الحارقة، وملامح ترك عليها الفقر بصمته، بين حقول اكتسى بعضها بالأخضر والبعض الآخر بالبَوار، وبداخل بيت بسيط، يعيش محمد خيري في واحدة من قرى جنوب مصر، يعود تاريخها للعصر الفرعوني، بقرية “القارة” أو كما يسميها أهلها “الجارة” (أي بنطق القاف كما ينطق أهل الشمال الجيم). والتي تتبع مركز أبو تشت والواقعة شمالي محافظة قنا، غرب نهر النيل.

خيري، 29 سنة، والحاصل على دبلوم فني صناعي، يمتهن الزراعة منذ نعومة أظافره، ولكنه لا يستطيع أن يمارسها حاليًا، لذا يقتات وأسرته من السواقة. تحول خيري من الزراعة “للسواقة” مجبرًا بعدما عجز عن زراعة السبعة أفدنة (أي ما يقارب ثلاث هكتارات1 التي يمتلكها في غرب قريته، بسبب نقص المياه.

خيري وقريته نموذج لقرى عديدة، في صعيد مصر، يسميها أهلها قرى “خط الجبل”، تعاني فقرًا مائيًا بمفهومه الدقيق: “صعوبة الوصول للمياه”.

هذه القرى، ونظرًا لبعدها عن النيل، ووجودها على منطقة مرتفعة، اعتمدت لسنوات في الزراعة على استخراج المياه من الآبار بإستخدام ماكينات تعمل بالسولار، حتى قررت الحكومة المصرية رفع الدعم عن الطاقة تدريجيًا في إطار برنامج “الإصلاح الاقتصادي”، والذي حصلت مصر بموجبه على قرض بنحو 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي عام 2016. وبينما ساهم تعذر الحصول على السولار في عزوف البعض عن النشاط الزراعي ككل، حاول البعض إيجاد بدائل في ظل انسحاب السلطات المعنية عن التعامل مع الأزمة.

ماكينة ديزل مهملة بعد التحول لإستخدام الطاقة الشمسية في استخراج المياه.
(مدى مصر)

“القارة” قرية زراعية بالأساس، يبلغ عدد سكانها نحو 15 ألف نسمة. تنقسم الأراضي الزراعية فيها إلى جزئين: “شرقي” ويضم الأراضي القديمة المقاربة للنيل على مساحة 700 فدان (294 هكتار)، تروى أراضيها من الترع المتفرعة من النيل. أما “الغربي” البعيد عن النيل والذي يعتمد على الآبار للري، فيضم نحو ألفي فدان (840 هكتار) صحراوي- جبلي، استصلحها الأهالي منذ قرابة ثلاثون عام بعدما ضاقت عليهم القرية إثر الزيادة السكانية.

كان والد خيري أحد الزاحفين إلى الجبل. وتمكن من استصلاح سبعة أفدنة، أورثَهم من بعده لابنه، الذي ظل يقتات وأسرته منهم، حتى توقف عن الزراعة إثر تداعيات قرارات رفع الدعم عن الطاقة وتحرير سعر الصرف.

تكلفة باهظة

تمسك خيري بالاستمرار في زراعة الأرض بعدها ثلاث سنوات حتى عام 2018 لكنه لم يتمكن من الصمود أمام تكلفة الحصول على المياه. يقول لـمدى مصر: “بعد زيادة سعر الجاز مبقتش الأرض جايبة همها. موسم ورا التاني ورا التالت وكل موسم كنت بطلع خسران ومديون فقررت اسيبها من غير زراعة”.

خفض الدعم المقدم للطاقة رفع تكلفة الوصول لمياه الري، إذ تضاعفت تكلفة ري الأراضي الزراعية، بعد ارتفاع سعر لتر السولار على مدار الأعوام الماضية من 1.6 جنيه (0,10 دولار) إلى نحو سبع جنيهات (0,44 دولار).

وفقًا لخيري، فالفدان يحتاج للري بمعدل ثلاث مرات شهريًا. ويستهلك الفدان “صفيحتان من السولار”40 لتر" كل مرة. قبل قرارات الحكومة كانت تكلفة ري الفدان الواحد كل مرة تصل نحو 128 جنيه (8,13 دولار). ولكن بعد القرارات ارتفعت تكلفة ري الفدان على مدار السنوات الماضية لتصل إلى 270 جنيه (17,16 دولار).

ووفق خيري ومزارعين تحدثوا إلينا، ترتفع معدلات الري يوميًا للمحاصيل الصيفية مثل الكنتالوب والطماطم والبرسيم والذرة، نظرًا لارتفاع درجات الحرارة، مما يرفع تكلفة الوصول للمياه في الصيف، وهو ما يجعل مواصلة الزراعة في الصيف عملية شبه مستحيلة في قرى “خط الجبل”، وفقًا لخيري.

نتيجة ذلك، وبحسب مهندس زراعي من القرية طلب عدم ذكر اسمه، اتجه من كان أفضلهم حالاً إلى زراعة جزء من مساحة الأرض، ويلجأ آخرون لزراعة الأرض في فصل الشتاء فقط.

لم يكن أمام خيري سوى البحث عن مصدر دخل أخر، وجاءت الفرصة خارج البلاد إذ سافر مع شقيقه إلى المملكة العربية السعودية تاركًا خلفه أرض أبيه بوراً. يقول خيري “الفقر اللي معشش في الجّارة مسبلناش اختيارات. ورايا بيت وطفل وعندي أرض مش عارف ازرعها”.

تجربة خيري لم تكن الوحيدة بالقرية، إذ تشابهت قصته مع قصص أخرى لملاك أراضي بالقرية. أشرف عاطف، 34 عام يعمل حاليَا كمشرف غرف بفندق بمدينة مرسى علم بالبحر الأحمر، بعد فشله في استمرار زراعة أرضه. عمل عاطف لسنوات عقب انتهاء دراسته بالقاهرة، واستطاع بشق الأنفس توفير نفقات زراعة خمسة أفدنة (2,1 هكتار) في غرب القرية ورثها عن والده، ليزرعها عمه بالنيابة عنه وعن أشقائه. ولكن هذه الإمدادات المالية توقفت إثر قرارات الحكومة، منذ نحو ست سنوات وحتى اليوم.

أحد المزارعين بجوار ماكينة ومأخذ مياه جوفية بإستخدام الجازولين في قرية القارة شمالي محافظة قنا.
(مدى مصر)

عندما عاد خيري كما عاطف إلى القارة من جديد بحثًا عن الرزق بعدما توقفت أعمالهم خارج البلاد وداخلها جرّاء وباء كورونا، وجدوا أن بعض جيرانهم تمكنوا من زراعة أراضيهم مرة أخرى باستخدام الطاقة الشمسية.

وكان منهم عائلة السمان التي تملك 20 فدان (حوالي 8 هكتارات). تمكنت العائلة، مطلع العام الجاري، من زراعة أرضهم كاملة وذلك بعد توقفهم لسنوات عن زراعة أكثر من 85% من مساحتها.

“قعدنا تلات سنين بنزرع أكلنا وأكل البهايم بس في 3 فدادين (1,26 هكتار)، والباقي باروا”٬ يقول عمر السمان٬ الطالب بكلية الدراسات الإسلامية، موضحًا إن ري أرض عائلته كان يكلفهم ثلاثة آلاف جنيه (190 دولار) أسبوعيًا.

دفع على أقساط

تحمست عائلة السمان لفكرة الطاقة الشمسية بعدما عرض عليهم أحد المهندسين العاملين بالمنطقة تقسيط الخدمة العام الماضي. لم تتردد العائلة كثيرًا خصوصًا بعدما رأت نتيجة التجربة المذهلة على أرض جيرانهم بعد استخدامها، ما وفر عليهم أموال طائلة ومشاكل لا تنتهي من اعطال ماكينات الري التقليدية.

وبالرغم من التكلفة المرتفعة لتركيب ألواح الطاقة الشمسية والتي بلغت 325 ألف جنيه (661 20 دولار) لأرض “السمان” إلا أنها تكلفة وقتية ينتهي عبئها بمجرد دفعها أو استكمال اقساطها، بحسب السمان.

أحد المزارعين بجوار ماكينة رفع مياه بإستخدام الطاقة الشمسية يتابع تدفق المياه الجوفية لري الأرض الصحراوية بحاجر قرية القارة.
(مدى مصر)

وفقًا للمهندس الشاذلي ياسين، مالك لواحدة من شركات الطاقة الشمسية التي توفر خدماتها لأهل القرية وبعض محافظات الجنوب، فقد ارتفع الطلب على استخدام ألواح الطاقة الشمسية للزراعة خلال الخمس سنوات الماضية بعد ارتفاع سعر السولار وسعر الكهرباء، فيما تعمل أغلب الشركات المماثلة على تقديم نظم تقسيط مختلفة لتشجيع الإقبال على الطاقة النظيفة، وفقًا لياسين.

تكلفة تركيب ألواح الطاقة الشمسية لاستخراج المياه من الآبار لري الزراعات تختلف وفقًا لمساحة الأرض وعمق المياه.

حق اساسي

ولكن هذا الخيار لم يكن متاحًا لكل المزارعين، من بينهم عاطف وخيري، وفقًا للمهندس الزراعي الذي قدر أن نحو 20% من الأراضي فقط في “خط الجبل” تمكنوا من استبدال السولار بألواح الطاقة الشمسية للزراعة. فيما اتجه بعض صغار المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة والظروف المادية السيئة، إلى التعاون مع جيرانهم في الاشتراك لتقسيط ثمن استخدام الطاقة الشمسية لري أراضيهم. وتقسيم مواعيد الري بينهم بالتساوي.

قرى “خط الجبل” الواقعة على الجانب الغربي من النيل، والتي تضم القارة وغيرها من قرى الصعيد، مُدرج معظمها لسنوات ممتدة على خريطة الفقر الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء والتي تقدم وصفًا تفصيليًا للتوزيع المكاني للفقر كل عامين.

وقد حدد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، خط الفقر في أحدث بيانات له ببحث الدخل والإنفاق عند 857 جنيه شهريًا أي نحو عشرة آلاف و283 جنيه سنويًا، بما يعادل 1.79 دولار يوميًا فيما يعتمد البنك الدولي مستوى 1.90 دولار يوميًا.

وفيما يبدو أن الحكومة تحاول معالجة تداعيات الفقر الناتجة عن تراجع معدلات التشغيل المحصورة في القطاع الزراعي فأدرجت قرى عديدة من “خط الجبل” ببرنامج حياة كريمة، مطلع العام الجاري، وهو البرنامج الذي أطلقته الحكومة المصرية عام 2019 لتوفير الدعم للفئات الأكثر احتياجًا في كل المجالات الخدمية مثل الصحة، والتعليم والسكن. وهو ما اعتبره موظف الوحدة المحلية بمثابة معالجة لعرض الفقر وغض النظر لسببه الأساسي وهو الفقر المائي.

ووفقًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادر من الأمم المتحدة، يندرج الحصول على مياه لأغراض الزراعة وخصوصًا لصغار المزارعين في إطار الحق في الغذاء الكافي. كما ينص العهد على ضرورة إيلاء الأولوية لموارد المياه اللازمة لمنع وقوع المجاعات والأمراض.

العودة من مزارع الجبل بإستخدام وسيلة مواصلات بدائية بقرية القارة شمالي محافظة قنا.
(مدى مصر)

تهميش الحكومة

المشهد الاقتصادي في القارة والذي يقتصر على الزراعة فقط يكشف تهميش الحكومة الحالية والسابقات لها عن قرى الجنوب في ملف المياه، إذ اعتمد الأهالي على أنفسهم بالكامل في خلق الامتداد الزراعي للقرية في الظهير الصحراوي- الجبلي، في ظل غياب أي مبادرات حكومية لدعم المزارعين المعدمين في استبدال ماكينات استخراج المياه التقليدية. ووفقًا لرئيس قسم التنظيم والأملاك بالوحدة المحلية بالقرية، محمود السمان، فإن مبادرات من هذا النوع تحتاج إلى مشروع استثماري ضخم، وهو ما لم يتوفر حتى الآن.

يقول عمرو عدلي، أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية إن القارة نموذج لغياب التنسيق بين المبادرات التنموية المحلية ورأس المال الاجتماعي من ناحية والتدخل الحكومي بالاستثمار العام من ناحية أخرى، وهو ما يرجعه عدلي إلى غياب الإدارات المحلية الناتج عن مركزية الإدارة، وهذا ارث قديم، بحسب قوله.

ويرجع عدلي غياب الجهود الحكومية عن الصعيد لأبعاد سياسية تتركز في عدم اعتبار أهالي الصعيد مصدرا للحراك الشعبي من وجهة النظر الحكومية. يقول عدلي “التهميش يتم لأنهم ليسوا فقراء فقط وانما ايضا بعيدين جدا عن مراكز الادارة والحكم وبالتالي فلا خوف منهم من الناحية الشعبية”.

وفقًا للمهندس الشاذلي ياسين، مالك لواحدة من شركات الطاقة الشمسية التي توفر خدماتها لأهل القرية وبعض محافظات الجنوب، فقد ارتفع الطلب على استخدام ألواح الطاقة الشمسية للزراعة خلال الخمس سنوات الماضية بعد ارتفاع سعر السولار وسعر الكهرباء، فيما تعمل أغلب الشركات المماثلة على تقديم نظم تقسيط مختلفة لتشجيع الإقبال على الطاقة النظيفة، وفقًا لياسين.

ومن جانبها لم تبد الحكومة ردة فعل تجاه مبادرات الاهالي الخاصة باستخدام الطاقة الشمسية في الري بحسب مصادر بالجمعية الزراعية والوحدة المحلية. ومن ناحيته يقول محمود السمان رئيس قسم التنظيم والأملاك بالوحدة المحلية بقرية القارة

،“لايوجد نيه رسمية حاليا لعمل مبادرات لتركيب الطاقة الشمسية للأراضي الزراعية عوضا عن السولار قائلا” كل مزارع بيعمل لنفسه و بطريقة الدفع التي يختارها،لأن مياه الزراعة تحتاج لمشروع استثماري كبير" .

1الفدّان يساوي 4200 متر مربّع أو 0,42 هكتار.