مجتمع الميم عين

مصر. موت سارة حجازي، جرح مازال ينزف

بعد مرور ثلاث سنوات على انتحار مناضلة مجتمع الميم عين والشيوعية الشابة التي تم تعذيبها من قبل النظام المصري بمجرد رفعها علم قوس قزح في مكان عام، يعيد موقع “أوريان 21” نشر هذا المقال حول الكراهية التي لا يزال يثيرها موت سارة حجازي في المنفى، والأمل في التغيير في نفس الوقت، في الفترة التي يعيش فيها مجتمع الميم عين في المنطقة حملة عنف ضدّه، بمباركة السلطات.

بعد عام على وفاتها، لم ينس أحد في مصر وجه سارة حجازي. أولئك الذين حزنوا عليها كما أولئك الذين مازالوا ناقمين عليها. اختبر موسى ذلك من أسابيع قليلة في أحد مقاهي شبرا، وهو حي شعبي في القاهرة. كان المصمم الغرافيكي الشاب جالسا أمام حاسوبه المحمول يصقل بورتريه صديقته المتوفاة في المنفى. تسريحة شعر قصير، نظارات مستديرة، ابتسامة هادئة.. لفت البورتريه الظاهر على الشاشة انتباه صاحب المكان الذي قصف موسى بوابل من الأسئلة. يقول الشاب بغضب: “الجميع يعرف قصة سارة، كان الرجل معاديًا، لقد أخافني فاضطررت إلى المغادرة”. ويتابع قائلاً: “إلى غاية اليوم، أخشى أن أقول علنًا إنها صديقتي وأن أكتب عنها على صفحتي على الفيسبوك، خوفًا من أن يقوم أعوان الشرطة بتفتيش هاتفي الذكي في الشارع”. وهي ممارسة أصبحت منتشرة على نطاق واسع منذ الاحتجاجات المناهضة للنظام في سبتمبر/أيلول 2019. يلخص موسى الأمر: “ألمي غير مقبول عند جزء من المجتمع”.

عندما لا يكون مشغولا ببرم سيجارة، ترافق يداه كلماته. تتغير نظرة هذا الشاب النحيف البالغ 27 عامًا والذي يبدو أصغر بعشر سنوات من لحظة إلى أخرى. تشرق عيناه عندما يتحدث عن الصديقة التي أعطته الثقة في نفسه وفي فنه، وعن مواعيدهم في مقهى “كافيين”، وكر سارة حجازي المغلق اليوم، وسط مدينة القاهرة.

“كم هائل من الكراهية”

لكن تلك العيون نفسها تتيه في مكان غير محدد عندما يسرد سلسلة الأحداث التي أدت بسارة حجازي إلى الانتحار، وهو مصطلح يرفضه. يؤكد موسى: “كانت سارة تعرف كيف تقدر جمال الحياة، هي لم تتخذ قرارها بقتل نفسها، بل دفعها إلى ذلك هذا الكم الهائل من الكراهية”. قبل سبتمبر/أيلول 2017، كانت هذه الشابة القاهرية غير معروفة لدى الجمهور العريض. كانت المتعاطفة الشيوعية والمدافعة عن قضية مجتمع الميم، تتحرك في الوسط النضالي التقدمي لـ“وسط البلد”، المركز البوهيمي للعاصمة المصرية. ولكن في إحدى أمسيات سبتمبر/أيلول انقلبت حياتها رأسا على عقب. إذ قدمت فرقة الروك اللبنانية “مشروع ليلى” عرضا في القاهرة أمام 35 ألف شخص. وسط الحشد، قفزت سارة حجازي على كتفي أحد أصدقائها ملوحة بعلم قوس قزح دعمًا للمغني حامد سنو المجاهر بمثليته.

بقية القصة معروفة. انتشرت صور الأعلام المرفوعة في المكان العام بسرعة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي اليوم التالي، عملت الصحف والتلفزيونات بكل طاقتها على تغذية حملة تشويه ضد ما يسمى “العربدة الشيطانية”. كان ذلك بداية لموجة غير مسبوقة من الاعتقالات ضد مجتمع الميم. وفي غضون ثلاثة أشهر، تم الزج بما لا يقل عن 200 شخص وراء القضبان.

اعتقلت سارة حجازي في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2017، وتمت متابعتها من طرف أمن الدولة تحت تهمة “الانضمام إلى جماعة أُسست على خلاف أحكام القانون والدستور”. وبعد تعرضها للمضايقات والتعذيب خلال ثلاثة أشهر من الحجز، خرجت محطمة وكانت مجبرة على الانتفاء في كندا.

“أسهل لرجل في هذا العالم المتعصب جنسيّاً”

رافقها أحمد علاء في هذا النزول إلى الجحيم. هذا الشاب البالغ من العمر اليوم 25 سنة تجرأ هو أيضًا على إظهار اعتزازه خلال هذا الحفل ونال نفس العقوبة بسبب ذلك. عاد إلى الدراسة في تورنتو ليصبح بحارًا، وعمل كبائع في متجر للمرجوانا. “إنه أمر قانوني هنا”، يقول ضاحكا على الطرف الآخر من الخط، وهو يؤكد بأنه يعيد بناء نفسه متجنبا التفكير في الماضي.

يشرح هذا الناشط المثلي: “واجهنا أنا وسارة هذه المحنة بشكل مختلف. لقد طردت من البيت العائلي وأنا في سن 18 لأنني ملحد، لذا لم يكن المنفى أول تجربة لي في النبذ. كما أن الأمر أسهل لرجل في هذا العالم المتعصب جنسياًّ”. ويضيف أحمد علاء: “قبل حفل”مشروع ليلى“، لم يكن بالإمكان مناقشة المثلية الجنسية. كان ذلك انتصارا في نظري لكن سارة لم تر ذلك لأنها عانت كثيرا”.

بعد وفاة سارة حجازي، انزوى الشاب في الصمت لمدة شهر. يتذكر قائلا: “كانت الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي تصل إلى درجة جعلت من غير الممكن لنا أن نعبر عن مشاعرنا دون التعرض للسخرية والشتم. كان الأمر صعبا علينا وعلى أصدقائنا وأسرنا”. والأسوأ من ذلك أن أفرادا هددوا عبر الانترنت بنبش قبرها. لذا لا يمكن إعادة جثة الفتاة إلى مصر كما كانت رغبتها.

على الرغم من كل هذه الكراهية، أرسل انتحار المناضلة التي كانت قد أدركت الثلاثين من عمرها موجات زلزالية مازال العالم يشعر بها. يؤكد الشاب الذي جرب زنازين النظام المصري: “لقد أظهر ذلك لبعض الأشخاص الانعكاسات الملموسة لدعم بلادهم للرئيس عبد الفتاح السيسي، وفي مقدمتها فرنسا”. وفي عواصم عديدة، خاصة في الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية، تم تنظيم تجمعات أخذ فيها أشخاص من مجتمع الميم الكلمة للتنديد بالقمع السائد في مصر وأيضا بمحنة المنفى. يؤكد أحمد علاء بأن “سارة لم تكن تتوافق مع معايير الدول الغربية التي تريد أن يستمتع اللاجئون فيها بحياتهم الجديدة وأن يكونوا ممتنين”.

في 19 يونيو/حزيران 2020، تحت سماء رمادية باريسية، وقف حوالي 20 شخص جنبا إلى جنب أمام برج إيفل بساحة تروكاديرو. تم وضع صور لسارة حجازي على الأرض. وكانت هناك أيضا لافتات من الكرتون تتهم السيسي وورود وألوان ذلك العلم الزاهية. تصرخ رانية يوسف التي كانت تقيم بفرنسا منذ عام حينها أمام جمهور ذي غالبية مصرية: “أنا لست لاجئتكم”. وفي اتصال بها بعد عام من هذه الوقفة، تذكر رانية: “لقد صدمنا انتحارها جميعا”. وتؤكد الشابة التي سئمت من “الصور النمطية” لطالبي اللجوء في البلاد المضيفة: “إنها نحن”.

مثل هذه الوقفات التذكارية هي بالطبع مستحيلة في المجال العام بمصر. يتم التعبير عنها في صفحة “الفخر بسارة حجازي” التي أنشئت على الفيسبوك وانستغرام من طرف مصطفى فؤاد. دافع هذا المحامي المتخصص في حقوق الإنسان عن الشابة بعد اعتقالها وهو يعيش اليوم في المنفى بلبنان. أمام العدد الكبير من الرسائل التي تلقاها على صفحته الشخصية، قرر بعد وفاة سارة حجازي بيومين أو ثلاثة إنشاء هذه الصفحة التي صُممت لتكون “منصة ووسيلة لجمع البورتريهات التكريمية وكلمات الدعم، وأيضا للتحدث عن حياة سارة ونضالاتها”، كما يشرح هذا الصديق الحميم لسارة حجازي.

يحتفظ مصطفى فؤاد في ذاكرته على الخصوص برسوم أرسلها طالب ثانوي “مغاير جنس” في السابعة عشر من عمره، وهي تمثل الشابة. يلاحظ المحامي بأن “وفاة سارة أثرت في أوساط جد مختلفة من المجتمع المصري وتجاوز ذلك مجتمع الميم”. وهو يرى في ذلك إشارة إلى أن الخطوط تتحرك في المجتمع من تحت السترة الرصاصية للديكتاتورية العسكرية والمحافظة.

“لو تمكن الناس من تنظيم أنفسهم والتحدث”

فمن عشرين سنة مضت، في 2001، كان العديد من المحامين على الرغم من أنهم مدافعون عن حقوق الإنسان مترددين في تمثيل المتهمين في قضية “كوين بوت”. في هذه القضية الدنيئة، تم اعتقال 52 رجلا عند مخرج ملهى ليلي للمثليين في القاهرة موجود على عوامة في النيل، وتم رميهم إلى مخالب سخط الرأي العام السريع في إدانة هؤلاء “المنحرفين”. يصحح مصطفى فؤاد: “ليس من الضروري العودة حتى قضية كوين بوت. فبعد حفل”مشروع ليلى“، رفض بعض المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان التورط في”قضية الشذوذ“خوفا على سمعتهم”، مؤكدا مع ذلك بأن ثورة 2011 تمثل نقطة تحول لا رجعة فيه.

تؤيد ذلك لبنى درويش المختصة في النوع والأقليات الجنسية ضمن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: “أصبحت اليوم بعض الوجوه مرئية وتناضل من أجل مجموعتها وتتلقى دعما هائلا. لقد فشلت الثورة على المستوى السياسي، ولكنها هزت البلاد على المستوى الاجتماعي. إذا كان في إمكان الناس تنظيم أنفسهم والتحدث بحرية سيكون المجتمع مختلفا تماما”.

وهذا ما يكشفه أيضا تفصيل من حفل سبتمبر/أيلول 2017 ذكره حامد سنو، مغني “مشروع ليلى”. في ذلك المساء عندما شقت أعلام قوس قزح الليل فجأة “صفق الجمهور (غالبا ما يتم حذف جزء التصفيقات هذا من السرد) فهو في الأخير يشاهد فرقة أعلن مغنيها عن مثليته. خلال بقية الأمسية، كنا جميعا نشعر بأننا في أمان، كلنا مرئيون، كلنا محبوبون”. هكذا تحدث هذا الفنان في عمود نشر في المجلة الإلكترونية “فرييز”. كانت سارة حجازي من بين هذه الحفنة القليلة من الأشخاص الذين جعلوا هذه اللحظة ممكنة. ويؤكد أحمد علاء من منفاه الكندي: “لقد أعطت حياتها لتغيير الأمور، إنها اليوم أيقونة لمجموعة المثليين في الشرق الأوسط”.

قبل عام من أن تتحول حياتها إلى كابوس، كانت سارة حجازي قد أعلنت عن مثليتها خلال حدث نظمته على الفيسبوك منظمة “بداية” غير حكومية والتي تدافع عن مجتمع الميم. وكانت قد باحت إلى موسى عن دوافعها قائلة: “كل ما أريده هو إقناع ولو مراهق واحد مثلي الجنس بأن توجهه الجنسي ليس مرضا”. لا شك أن سارة حجازي أقنعت الآلاف منهم.