منذ الإعلان الذي قام به الرئيس قيس سعيد في تأويل شخصي للفصل 80 من الدستور احتكر من خلاله جميع السلط، تتالت ردود فعل أعضاء حركة النهضة لتترجم أكثر من أي وقت مضى عن الانقسامات العميقة في صفوف الحزب. وكان لرئيس الحركة راشد الغنوشي الذي منعه الجيش بأمر رئاسي من دخول مجلس الشعب “المجمَّد”، حضور مهم في الصحافة الدولية. ففي مقال رأي له في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، حذّر الغنوشي من عودة إلى الدكتاتورية1، بينما ناشد في صحيفة “إل كورييري ديلا سيرا” إيطاليا بالتدخل، محرّكا فزاعة الهجرة غير الشرعية والإرهاب2. في الأثناء، انتقد قياديون حاليون أو مستقيلون في وسائل الإعلام المحلية تعنّت الحزب الذي قاد البلاد إلى هذا المأزق، وطالبوا إدارته بتغيير مواقفها.
عشية الأربعاء 4 أغسطس/آب، انعقد مجلس شورى حركة النهضة لتدارس الوضع وأخذ قرارات بشأن الفترة المقبلة، وكانت منشورات بعض القياديين على فيسبوك بمثابة التعليق المباشر على هذا الاجتماع. ثلاث نائبات انسحبن، من بينهن يمينة الزغلامي التي استنكرت “سياسة الهروب إلى الأمام”، بينما تحدث الوزير السابق سمير ديلو عن “حالة إنكار”. من جهته، دوّن عبد اللطيف المكي عضو المكتب التنفيذي ووزير الصحة في 2020 قائلا: “من لم يقنعه التاريخ على امتداده وبوقائعه الصلبة الصارخة فلن أستطيع إقناعه أنا العبد الضعيف المتواضع ولا كذلك غيري”.
لم يصدر بيان المجلس إلا عشية يوم غد بعد نشر بعض التصريحات المتضاربة. ندد الحزب بالـ“انقلاب على الدستور وشلّ مؤسسات الدولة”، وتفهم “الغضب الشعبي على الطبقة السياسية عامة”، لكنه طالب بأولوية عودة الأمور إلى نصابها و“ضرورة التسريع بعرض الحكومة الجديدة على البرلمان لنيل ثقته”.
ثمن التنازلات
هذه هي المرة الأولى التي لا تمتص فيها الأزمة الوطنية الخلافات الموجودة داخل الحركة. فحتى الآن، كان وجود الحزب هو المصلحة العليا التي تدفع بعناصرها إلى توحيد الصفوف أمام الخطر الخارجي.
لفهم بعض الخيارات التي قامت بها النهضة منذ ،2011 يجب الأخذ بعين الاعتبار القمع الشديد الذي تعرضت إليه تحت نظام بن علي، الذي ترأس البلاد بعد انقلاب السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987. فبعد فترة انفتاح قصيرة، انقلب النظام بداية التسعينيات على الحركة الإسلامية -كما انقلب على بقية أحزاب المعارضة-، وتعددت الاعتقالات والمحاكمات من بينها أحكام مؤبدة، ناهيك عن أعمال التعذيب والاغتصاب في السجون. وقد رأى عناصر الحركة في الخطاب الاستئصالي لجزء من المجتمع الذي يأبى أن يكون للإسلاميين مكانة سياسية شرعية صدى لهذه الفترة. كما عززت نهاية التجربة المصرية بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي على الرئيس المنتخب محمد مرسي هذه الصدمة.
هذا ما يفسر جزئيا توجه النهضة. يقول الكاتب حاتم نفطي: “رغم فوزها بانتخابات المجلس التأسيسي [في أكتوبر/تشرين الأول 2011] وتواجدها الراسخ على كامل تراب البلاد، كانت حركة النهضة تعي جيدا تحفظ النخب السياسية والإعلامية والمالية تجاهها”، ويذكر بأنه “من الصعب جدا أن تحكم بلادا ضد نخبها”.
لذا، ورغم أن النهضة تدين للثورة بعودتها الشرعية للحقل السياسي، فهي لم تنتم تماما إلى المعسكر الثوري، لكنها كانت في الوقت نفسه تستعمل هذه الحجة لضرب منافسيها السياسيين، واصفة إياهم بـ“أزلام النظام السابق” وعملاء الثورة المضادة. من هنا، أصبحت أولوية الحزب البقاء في منظومة الحكم، وهي أولوية تمر بالتغزل بقياديي التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب بن علي الذي تم حلّه في 2011. تمت تسمية مسؤولين من هذا الحزب على رأس إدارات ومؤسسات عمومية. بل وفي 2020، انضم إلى مكتب رئيس مجلس الشعب راشد الغنوشي كل من محمد الغرياني -الأمين العام الأخير للتجمع الدستوري الديمقراطي- وماهر مذيوب الذي كان يكتب تقارير في المعارضين زمن الديكتاتورية وقد بات نائبا عن الحركة. أما البقية الذين سمحت لهم النهضة بالعودة إلى الحياة السياسية بتنازلها عن قانون “تحصين الثورة” (2014)، فهم حجة ثمينة تسمح بتعبئة القواعد الانتخابية للحركة الإسلامية. حتما، فوجود تهديد وجودي على الحركة مثل الحزب الدستوري الحر لعبير موسي (وريثة بن علي) يمكّن من توحيد الصفوف. ونجد المنطق نفسه في الجهة المقابلة، حيث تكون العداوة البدائية للإسلاميين أكثر تجميعا من أي برنامج سياسي.
من حزب إسلاموي إلى حزب “إسلامي محافظ”
اللعب على حبلي الثورة والثورة المضادة بلغ ذروته خلال الحملتين الانتخابيتين التشريعية والرئاسية لسنة 2014. عادت النهضة حينئذ إلى خطاب الخطر الوجودي الذي يحدّق بها.. قبل أن تتحالف مع حزب “نداء تونس” ورئيسه الباجي قايد السبسي الفائز بالانتخابات، والذي كان قد جمع حوله أعداء الإسلاميين من أطياف سياسية مختلفة.
يظهر كذلك هذا الشرخ في الحدود الفاصلة بين المعسكرين من خلال المواجهة بين حركة النهضة وقيس سعيد، ذلك الرئيس المحافظ الذي لا يؤمن بالديمقراطية التمثيلية في شكلها الحالي، لكنه وصل إلى الحكم بفضل أنصار الثورة الذين انتخبوه ضد المرشح نبيل القروي الذي يمثل النظام السابق وفساده. بيد أن النهضة اختارت بعد أشهر أن تتحالف مع “قلب تونس” -حزب نبيل القروي- لإسقاط حكومة إلياس الفخفاخ في سبتمبر/أيلول 2020 وتأليف أغلبية برلمانية.
وفق القراءة الإقليمية لميزان القوى، تنتمي حركة الإخوان المسلمين التي تدعمها قطر إلى معسكر الثورة، بينما تساند الإمارات العربية المتحدة -التي ساهمت في تمويل حزب “نداء تونس”- الثورة المضادة. لكن هذه القراءة لا تلخص ما يحدث في تونس، على عكس ما يعتقده عدد من المراقبين، حتى وإن لم يزل منطق المواجهة بين بلدان الخليج قائما، كما يظهر ذلك من خلال المواقف السعودية والإمارتية والمصرية المساندة لقيس سعيد.
من جهة أخرى -وعلى الخصوص-، باتت هوية الحزب -كحركة إسلامية- ضعيفة. فبمناسبة مؤتمرها لسنة 2016، قرر ت النهضة الفصل بين الجانب السياسي والجانب الدعوي. وبانخراطها هكذا تماما في الشرعية السياسية، تنازلت الحركة عن ميزتها ونقطة قوتها الأولى التي جعلت منها العدو اللدود لنظام بن علي، والتي اهترأت بممارستها للحكم. هكذا إذن أصبحت النهضة حزبا “إسلاميا محافظا” بعد أن كانت حزبا إسلامويا، ودخلت اللعبة السياسية تماما لكنها فقدت جزءا من هويتها.
الإسلام ليس الحلّ3
هذا التنازل رفع الحجاب عن عيب كبير تعاني منه الحركة كغيرها من أحزاب الساحة السياسية التونسية، ألا وهو انعدام برنامج اقتصادي واجتماعي. يقول كريم عزّوز، وهو عضو في المكتب الفرنسي للحركة: “لقد أنشئت النهضة لثلاثة أسباب. الأول هو المواجهة بين الدولة الوطنية والثقافة الإسلامية، والثاني هو مسألة الحريات، والثالث هو الفوارق الاجتماعية. لم يعد للسببين الأولين معنى اليوم، ولم تستطع الحركة أن تقدم اقتراحات في النقطة الثالثة”.
يمكن تفسير هذا الإخفاق -جزئيا- من خلال الفوارق السوسيولوجية التي تسعى النهضة إلى تجاوزها دون جدوى منذ عشر سنوات. فمن جهة، تنتمي قواعد الحزب وأغلب ناخبيه إلى الهوامش، لا سيما في المناطق الداخلية، ما يدفع بعدد من معارضيها إلى تبني خطاب يمتزج فيه عداء الإسلاموية بازدراء الفقراء والمهمشين. ومن جهة أخرى، فهي تمثل جزءا من الطبقة البرجوازية المحافظة، وبذلك فهي تجمع بين ضحايا الحداثة الاقتصادية وبين أصحاب خطاب الهوية. لكن البلاد على شفا حفرة من الإفلاس، والنهضة لم تقترح أي برنامج اقتصادي، بل إنها لم تنتقد المنعرج الليبيرالي الذي اتخذته الدولة منذ الثمانينيات ولا انتقدت “الإصلاحات” التي يفرضها الممولون، علاوة على أنها لا تقترح حلا للأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس.
إلى جانب ذلك، فقد شاركت أو ساندت النهضة جميع الحكومات المتعاقبة التي قمعت -أحيانا بالرصاص الحي- التحركات الاجتماعية التي شهدتها البلاد منذ 2011. أخيرا وليس آخرا، يجب الإشارة إلى أن التونسيين لا يزالون يخشون عودة الدولة البوليسية، وأن النهضة ساندت حتى آخر رمق هشام المشيشي، رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالنيابة الذي عزله قيس سعيد، والذي عاد معه شبح القمع البوليسي. ففي يناير/كانون الثاني 2021، أي في الذكرى العاشرة للثورة، سجلت تونس 968 اعتقالا حسب المصادر الرسمية (وضعف هذا العدد حسب الجمعيات) خلال المظاهرات التي شهدتها البلاد أو على هامشها.
حزب استنفد طاقته
ليسوا بالنادرين أولئك الذين في صفوف النهضة يرون في الأزمة الحالية فرصة لحزبهم. فالخطر على الديمقراطية الذي يخشاه منتقدو الرئيس قيس سعيد -وهم على حق في ذلك- يحدق أيضا بالحركة، بعد أن أزاح الشيخ راشد الغنوشي جميع منافسيه وبات يحلم برئاسة مدى الحياة، على غرار القادة العرب السلطويين. عارضه في ذلك مائة عضو بالحركة في رسالة مفتوحة نشرت في شهر سبتمبر/أيلول 2020، وقد كانت مؤشرا للانقسامات التي تهدد هذا الحزب الذي لم يعد في ريعان شبابه. مؤخرا، طالب قياديون تاريخيون مثل محمد بن سالم أمام الملأ راشد الغنوشي بالاستقالة من الحياة السياسية. وكان قبله عبد الحميد الجلاصي الذي استقال في مارس/آذار 2020 بعد 40 سنة من النضال داخل الحزب، قد صرّح قائلا إن “النهضة التي دخلت إلى الدولة وأصبحت جزءا من المنظومة [...] لم تعد وفية لقيمها”.
إذ يُضاف إلى الإخفاق السياسي فضائح الفساد العديدة التي تخللت حياة الحركة السياسية خلال العشرية الأخيرة، حتى أصبح يُشار إليها -مع غيرها من عناصر المشهد السياسي- بلقب “الطرابلسية الجدد”4. آخر هذه الفضائح هو تقرير دائرة المحاسبات (نوفمبر/تشرين الثاني 2020) الذي بين أن النهضة تلقت تمويلات خارجية وغير قانونية خلال الحملة الانتخابية لسنة 2019، وكان الحزب قد استعان بـ“لوبيات” أمريكية. ولا ننسى الملف القضائي، حيث تم في 13 يوليو/تموز إيقاف وكيل الجمهورية البشير العكرمي -القريب من النهضة- عن العمل وإحالة ملفه على النيابة العمومية بتهمة “شبهات جرائم فساد مالي وتستّر على الإرهاب”. ما يجعل مراقبين يذكّرون بتاريخ أعمال العنف للحركة عندما لم يكن لها وجود شرعي.
هذا الجمود الذي يتحمل حزب حركة النهضة جزءا كبيرا من مسؤوليته يفسّر فرح الجماهير التي خرجت مساء يوم 25 يوليو/تموز احتفالا بقرارات قيس سعيد، وهو فرح يتقاسمه جزء من الذين يلومون على النهضة تحريفها لمسار الثورة مع من يشتاقون إلى النظام السابق، نكاية في عدوهم اللدود. يمكن أن نتفهم إذن إصرار عدد من أنصار الحركة على أن يراجع الحزب نفسه ويتجدد قبل وفات الأوان. يبقى السؤال هو: إلى أي مدى ستذهب هذه المراجعة وماهي الرؤية الإسلاموية الجديدة والاقتصادية التي سيقترحها هؤلاء؟
1راشد الغنوشي، “My Country Has Been a Dictatorship Before. We Can’t Go Back”، “نيويورك تايمز”، 31 يوليو/تموز 2021.
2لورنزو كريمونيزي، “Ghannouchi al Corriere : ‘Se l’Italia non ci aiuta a ritrovare la democrazia, decine di migliaia di migranti pronti a partire’”.
3في إشارة إلى شعار الإخوان المسلمين “الإسلام هو الحلّ”
4كناية عن عائلة ليلى الطرابلسي حرم بن علي التي نهبت البلاد.