روسيا في أفغانستان. واقعية لا تشوبها أوهام

تتواصل موسكو مع طالبان في أفغانستان منذ سنوات. وقد أخذت هذه الاتصالات بعدا أهم بعد سيطرة الحركة على العاصمة كابول، إذ تسعى روسيا في نفس الوقت إلى الاستفادة من الانسحاب الأمريكي وإلى تفادي تحوّل البلاد إلى قاعدة خلفية للإرهاب. هدفان تلاحقهما موسكو بلا أوهام.

تظهر الصورة مجموعة من الرجال يقفون في مواجهة كاميرا. في الوسط، يوجد رجل يرتدي بدلة رسمية وهو يتحدث، بينما يقف على يساره رجل يرتدي زياً تقليدياً مع عمامة وشال، وعلى يمينه رجل آخر يرتدي ملابس مماثلة. خلفهم، تبرز مجموعة من الأعلام تمثل دول مختلفة، مما يوحي بأنهم في حدث رسمي أو مؤتمر دولي. تعكس تعابير الوجوه الوضع الجاد والتركيز على الحديث.
موسكو، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2018. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وممثلون عن حركة طالبان قبل اجتماع دولي حول أفغانستان.
Yuri Kadobnov/AFP

في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، أسفر تفجير بمسجد في كابول تبناه تنظيم الدولة الإسلامية - ولاية خراسان عن مقتل 19 أفغانيا على الأقل وجرح 30 آخرين. كانت موسكو سباقة في التنديد بهذا الهجوم، واتصلت بطالبان الذين اكتفوا بضمان أن أفغانستان لن تكون قاعدة انطلاق لأي هجوم إرهابي نحو أي بلد آخر. من جهته، أصدر وزير الخارجية الروسي بيانا يؤكّد فيه “ضرورة مواصلة الجهود من أجل القضاء على الإرهاب في أفغانستان”.

رغم اقتضابه، يكفي هذا البيان لترجمة أولويات روسيا بشأن أفغانستان ونظام طالبان. وللتذكير، فقد وصفت روسيا منذ بداية الألفين طالبان بالـ“منظمة الإرهابية”، ذلك أن الحركة كانت المعترفة الوحيدة بجمهورية الشيشان إشكيريا، والتي كانت مشروع دولة انفصالية حاربتها موسكو لسنوات عديدة، إلى أن وضع الرئيس فلاديمير بوتين حدا لهذه النزعة الانفصالية. لكن كما يقال، قد يصبح السيئ جيّدا عندما نكون في مواجهة الأسوأ. وعندما أخذ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الأسبقية على باقي المجموعات الإرهابية ليصبح الخطر الأول، وقد عبّر على نيته في اللجوء إلى العنف الجماعي لتحقيق أهدافه المتطرفة والشاملة، أصبح هذا التنظيم هو العدو الأول لموسكو في حربها ضد الإرهاب، ولم تعد طالبان سوى ظاهرة محدودة جغرافيا.

صحيح أن هذه الحركة لا تزال محل وابل من الانتقادات في موسكو، فقليلون هم أولئك الذين يستسيغون جوهر عقيدتهم السياسية، لكن قرار روسيا يستند في الوقت الحالي إلى فكرة أن طالبان لا تهدد أمن روسيا بقدر ما يفعل تنظيم الدولة الإسلامية. وأمام غياب أي حلّ عسكري لقضية طالبان في موسكو، وبما أن فاعلين آخرين من الدرجة الأولى -مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية- يتواصلون مع الحركة، فقد ارتأى كبار المسؤولين الروس أن عليهم دخول اللعبة حتى يتسنى لهم ضمان أمن بلدهم.

رسم خطوط حمراء

حتى قبل سقوط كابول، استقبلت موسكو في 9 يوليو/تموز 2021 وفدا للـ“ذراع السياسي” لحركة طالبان. وخلال النقاشات، استعرض المبعوث الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان زمير كابولوف المواضيع الأربعة التي تشغل موسكو بالنسبة للوضع في أفغانستان وهي: خطر مرور عدوى عدم الاستقرار من أفغانستان إلى آسيا الوسطى، والخطر الذي يمكن أن يشكّله تنظيم الدولة الإسلامية على روسيا وحلفائها انطلاقا من الأراضي الأفغانية، وإمكانية تفاقم حجم تهريب المخدرات إلى روسيا، والخطر الذي يمكن أن يهدد أمن البعثات الدبلوماسية الروسية.

خلال هذا اللقاء، عملت طالبان على طمأنة محاوريها بالنسبة لهذه النقاط الأربعة، وقد وعدت بـ“عدم انتهاك حدود بلدان آسيا الوسطى”، وبـ“تقديم ضمانات حول أمن البعثات القنصلية والدبلوماسية الأجنبية في أفغانستان”. كما التزمت بـ“القضاء على إنتاج المخدرات في أفغانستان” وعبّرت عن عزمها على “وضع حد للخطر الذي يمثله تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان”.

بعد مرور شهرين من وصولها إلى الحكم، تبدو حركة طالبان ملتزمة بوعودها. لكن لا يكاد أحد في موسكو يصدق تصريحاتها، بل يعتقد القادة الروس بأنها تتحاور في الكواليس مع الصين وإيران، وتتواصل مع الروس والأمريكيين، لا لشيء إلا لضمان استقرار بيئتها الدولية، حتى يتسنى لها تعزيز سلطتها وضمان شرعية فعلية، أو ربما -في سيناريو مثالي- ضمان مساعدة مادية. بعبارة أخرى، من مصلحة طالبان حاليا احترام التزاماتها، ما يتقاطع مع المصالح الروسية في هذه المرحلة.

خلال السنوات الأخيرة، تم إرهاق الجيش والاقتصاد الروسي على جبهات متعددة في شرق أوروبا والبحر الأسود، وصولا إلى شرق حوض المتوسط والقوقاز. ونظرا لما تمثّله الذكريات الأليمة للفشل السوفياتي الذريع، فمن الواضح أن أفغانستان تحوّل أنظار موسكو بطريقة يمكن الاستغناء عنها. عموما، فإن مواضيع مثل استقرار آسيا الوسطى، وأمن روسيا على الحدود الجنوبية، وخطر تفشي الإيديولوجيات الراديكالية، كلها محور اهتمام شخصي بالنسبة للرئيس فلاديمير بوتين. وسيكون مستعدا دائما لتخصيص الوقت والإمكانيات اللازمة لهذه القضايا التي تحظى بشهيته السياسية. وقد بات هذا الأمر أكثر صحة اليوم، حيث يعتقد بوتين أن الجيش الروسي يتمتع بإمكانيات أكبر بكثير من تلك التي كان الجيش السوفياتي يحظى بها، ما يمكنه من “تنكيد حياة” طالبان دون حاجة للتدخل عسكريا في البلاد. وهذا يعني أنه بالنسبة لروسيا، لم تكن نقاشات يوليو/تموز 2021 مجرد حوار حول الانشغالات والالتزامات، بقدر ما كانت فرصة لرسم الخطوط الحمراء.

الفشل في العراق وسوريا

كثيرون في روسيا هم أولئك الذين يشغلهم انتصار طالبان. بالنسبة لهم، فإن نجاح الإسلاميين وإعادة تأسيس الإمارة الإسلامية يرسلان إشارة خطيرة لجميع من يتقاسم أفكارهم حول العالم. “درجات الأخضر الخمسون” -أو بعبارة أخرى، الخلافات السياسية والدينية بين طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية- لا تعني شيئا سوى بالنسبة لثلة من الخبراء والأكاديميين. أما بالنسبة للأغلبية، ولا سيما الشباب الذين لديهم انتماء إسلامي قوي، فكما قال القائد الصيني دنغ شياو بينغ: “لا يهم لون القط طالما أنه يصطاد الفئران”. وعليه، فليس من المهم أن يكون لطالبان رؤية للدولة، وأن يكون لها تعليمات، وقاعدة تساندها، وطريقة تواصل مختلفة عن تنظيم الدولة الإسلامية. ما يهم هو أنها تمثل “قصة نجاح”: “الفشل في العراق وسوريا تحوّل إلى نجاح في أفغانستان”، ما يفتح إمكانية إعادة الكرّة. لذلك، وبالتوازي مع تواصلها مع طالبان عبر سبل دبلوماسية، تقوم روسيا بتمارين عسكرية مشتركة مع جيوش طاجكستان وأوزباكستان، كما تعزز القدرات العسكرية لحلفائها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. وتتركز هذه التمارين على محاكاة “ردّ مشترك للجيوش الثلاثة ضد هجمات عابرة للحدود” باستعمال دبابات، وناقلات جنود مدرعة، وطائرات هجومية من طراز سو-25، ومروحيات، وغيرها من الأسلحة.

صحيح أن روسيا ليست سعيدة بوجود إمارة إسلامية غير بعيد عن حدودها. لكن طالما أن مشروع طالبان يبقى محليا دون رؤية شاملة -على خلاف تنظيم الدولة الإسلامية- وأن هم الحركة الأكبر هو فرض الشريعة في أفغانستان -مهما كان الثمن الذي سيدفعه السكان-، فإن روسيا ستقبل بالأمر. وستبقى مديرية المخابرات الرئيسية (أي المخابرات العسكرية) في حالة تأهب لمراقبة الوضع، كما سيكون على وزارة الدفاع تطوير التعاون العسكري مع نظرائها في آسيا الوسطى، أما جهاز الأمن الفيديرالي (FSB)، فسيسعى لرصد أي مؤشر محتمل حول صعود الإسلاموية في آسيا الوسطى وفي روسيا، ناهيك عن خدمة مراقبة المخدرات الفيديرالية التي ستكون بدورها في حالة تأهب قصوى لكشف المسالك الجديدة لإنتاج الهيروين وطرق وصولها إلى روسيا. لكن إلى حد الآن، يبقى هذا الحلّ هو الأنسب في نظر موسكو، حيث يبقى أفضل من تدخل عسكري دون أهداف سياسية محددة وبتكلفة قد تكون باهظة. لكن إلى متى ستبقى هذه القراءة صحيحة؟

تراجع أمريكي في النظام الدولي

من المهم عندما نتساءل عن رهانات الملف الأفغاني بالنسبة لروسيا ألا ننسى أن الأمر لا يقتصر على أفغانستان، إذ أن الخطاب المهيمن للساسة والخبراء الروس حول تطور الوضع في هذا البلد يتمحور حول ثلاث نقاط أساسية. ولو تركنا جانبا قضية أمن آسيا الوسطى، فإن الجدل يدور أساسا حول انتقاد الحضور الأمريكي في أفغانستان على مدى العقدين الأخيرين، وانتقاد السلطات الأمريكية التي أشرفت عليه.

يتمثل المحوران الأساسيان لهذا النقاش في فشل الولايات المتحدة الأمريكية الذريع في تأسيس جيش أفغاني عملي وقادر على مقاومة حركة طالبان. وقد كانت المحاولة الأمريكية في “بناء أمة” (nation building) محل انتقادات لاذعة منذ البداية. لا تفوّت روسيا فرصة في شبكات المعلومات للتذكير بأن انهيار الدولة الأفغانية أمام طالبان هو نتيجة مباشرة للفشل الأمريكي، كما تعمل على نشر هذا التفسير بالقرب من بلدان ترى روسيا أنها تعوّل أكثر من اللزوم على مساندة أمريكية، مثل أوكرانيا أو جورجيا. تبذل موسكو إذن جهودها لإقناع قيادات أو قوى معارضة في بلدان تمزّقها صراعات لا تزال مستمرة، وتنذرهم قائلة: “لن ينفعكم الأمريكيون، بل قد يجعلون الوضع أسوأ حتى مما هو عليه”. والهدف من وراء هذا الخطاب هو تغيير موقفهم وإقناعهم بالتعامل مع روسيا بوصفها شريكا جدّيا. بعبارة أخرى، فإن ما جرى في أفغانستان يمثل فرصة لتأكيد التراجع الأمريكي في النظام الدولي. وخلال القمة التي انعقدت في جينيف في يونيو/حزيران 2021 للتعاون حول أفغانستان، لم يقترح بوتين على جو بايدن أن يضع المنشآت العسكرية الروسية على ذمة الجيوش الأمريكية -خلافا لما تناقلته وسائل الإعلام-، بل كانت الفكرة وضع حد لأي إمكانية وجود أمريكي على أراضي حلفاء روسيا في منطقة آسيا الوسطى. فموسكو لا تعترض على تبادل المعلومات مع واشنطن، شرط ألا يعني ذلك وجود جنود أمريكيين على الميدان.

تبنّت روسيا إلى حد الآن موقف الانتظار، وهي تسعى إلى التعامل مع الفاعلين الرئيسيين في الملف الأفغاني، وتنادي بأهمية تعاون أكبر على المستوى الإقليمي. ولم تكن إمكانية تدخل الاتحاد الأوروبي بطريقة إيجابية مطروحة فعلا. سيستوجب الوضع الجديد من روسيا أن تسخّر جزءا أكبر من مواردها لهذا الملف، وأن تنتبه أكثر لجيرانها المباشرين وللسياسة الداخلية لدول آسيا الوسطى. علاوة على ذلك، وحتى لا ينفجر الوضع، يجب الإشادة بـ“إدارة المسؤوليات” بالقرب من البلدان الحليفة وتوخي دبلوماسية حذرة مع طالبان. يبدو أن الحركة مستعدة للنقاش حاليا، لكن المثل القائل بأن “الشهية تأتي مع الأكل” ينطبق أيضا على الحركات الإسلامية. فقد تسعى طالبان إلى نشر عقيدتها والانطلاق في مغامرات جيوسياسية محسوبة. وقد ترى قوى إقليمية مثل باكستان وتركيا وبعض مملكات الخليج أن الوضع في أفغانستان يمثل فرصة لزيادة نفوذها في المنطقة، أو حتى على صعيد أكبر. في السنوات الأخيرة، عزز التدخل الروسي في سوريا ثقل موسكو على الصعيد الإقليمي كما الدولي. وقد تلعب السياسة الروسية في أفغانستان قريبا نفس الدور.